:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يناير 29، 2016

وهم الهويّة


من نحن غير القصص التي نحكيها لأنفسنا عن أنفسنا ثمّ نصدّقها.
- سكوت تورو

ليس هناك ما هو أثقل على النفس من شخص يتفاخر بنَسَبه أو قبيلته أو مذهبه أو منطقته بطريقة عنصرية، واضعا الآخرين في مرتبة من الاحترام والإنسانية أدنى من مرتبته هو وجماعته.
اعتقد أن كلّ من يؤمن بالأفكار العنصرية أو يتبنّاها في حياته وفي تقييمه أو نظرته للآخرين هو شخص جاهل وساذج، بل ويفتقر إلى ابسط درجات الثقافة والتحضّر والإنسانية.
ذات مرّة عندما كنّا ندرس في الجامعة، كان هناك شخص كبير في السنّ وطيّب يعمل حارسا ويقضي معظم ساعات النهار على بوّابة الكليّة. وكان من عادته أن يسأل كلّ طالب يمرّ من أمامه عن اسمه واسم قبيلته.
وبكلّ عفوية كان يعلّق على ردّ كلّ واحد منّا إمّا بالاستحسان والمدح وإمّا بإظهار الضيق والتبرّم تبعا لفكرته عن هذه القبيلة أو تلك. كان يفعل ذلك بطريقة لا تخلو من روح المزاح والتبسّط والمرح.
وعندما وجّه سؤاله إلى زميل لي من نفس منطقتنا وأجابه عن اسم القبيلة قال وهو يضغط على يد ذلك الزميل بقوّة: صحيح؟ والله شرّابة دم"! كان يقصد أنهم شجعان في المعارك والحروب ولا يهابون الموت.
قلت له: ما عليك زود يا شيخ، بس ترى الدنيا تغيّرت، لم يعد القتل وسفك الدماء ممّا يفتخر به الناس هذه الأيّام، بل الحكمة والمسايسة وضبط النفس مقدّمة على الشدّة والانصراع والعنف".
طبعا كنت اعرف أنه لن يقتنع بكلامي مهما تكلّمت. ففي النهاية لكلّ منّا منطقه المختلف بحكم فارق العمر والعقلية وطريقة التفكير.
ومنذ أيّام قرأت كلاما عميقا وذا صلة بالموضوع لأحد الكتّاب، يتحدّث فيه عمّا اسماه "وهم الهويّة". ولو قرأ كلّ إنسان هذا الكلام لأعاد النظر في الكثير من الأفكار القديمة التي تفاخر بالأحساب والأنساب وبالقبائل والمناطق والمذاهب.
فكرة الكاتب تقوم على أساس أن ليس هناك من شعب أو جماعة بشرية أصليّة أو أصيلة. فجميع البشر يتحدّرون من السّفن العائمة والمراكب التائهة، ولا سبق أو تفضيل لجماعة بشرية على أخرى إلا في سرعة الرياح.
فالكلّ مولودون في مراكب تقاذفتها الأمواج حينا من الدهر، وكلّنا أضعنا أوراق هويّاتنا في البحر، وكلّنا بلا استثناء انحدرنا من نسل الناجين من الطوفان. وبناءً عليه، لا أحد يملك اليابسة أو الأصل، ولا أحد يملك الهويّة.
ولهذا السبب - يضيف الكاتب - كانت لغتنا دقيقة في التعبير عن الهويّة. فالهويّة ليست أنا، وليست نحن. الـ "هويّة" مشتقّة من ضمير الغائب "هو"، الذي يحيل اصطلاحا إلى الغياب بدل الحضور، وإلى الفقد بدل الامتلاك، وإلى الاجتثات بدل الثبات. ومن هنا – ربّما - يكمن البعد الرمزيّ لسفينة نوح.
وأختم بكلام معبّر آخر، هذه المرّة من رواية 1984 لجورج اورويل يقول فيه انه لو سُمح لكلّ إنسان بأن يتواصل مع الغرباء لاكتشف أنهم مخلوقات تشبهه وأن ما قيل له عنهم مجرّد أكاذيب، ولانكسر العالم المقفل الذي يعيش فيه ومعه كلّ إحساس بالخوف والكراهية والتحامل ضدّ الآخر.

الأحد، يناير 24، 2016

أصوات


ورثت حبّ الأصوات عن والدي رحمه الله. كان، كمعظم أبناء جيله، دائم الاستماع إلى الإذاعات، إمّا لمتابعة نشرات الأخبار أو لسماع آي من الذكر الحكيم بأصوات مشاهير المقرئين كمحمّد صدّيق المنشاوي وعبد الباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصري وغيرهم.
ومع مرور الأيّام، وبحكم التقليد والاتّباع، انتقلت هذه الصفة إليّ. وحتى الآن أحبّ أن استمع إلى راديو السيّارة؛ المكان الوحيد هذه الأيّام الذي يمكنك فيه سماع المذيعين والمقرئين والمغنّين الذين ألفنا سماع أصواتهم منذ الصغر.
وما أزال أحتفظ في ذاكرتي بالكثير من الأصوات الجميلة التي يصعب على المرء عادة أن ينساها. طبعا يستحيل على الإنسان نسيان صوت والده ووالدته وحتى بعض أقاربه مهما تقادم الزمن. لكن يصعب أيضا نسيان أصوات بعض المذيعين والمذيعات، خاصّة إن كان لها ارتباطات سيكولوجية أو ذهنية معيّنة.
وهذه الأيّام كثيرا ما نتكلّم عن حوّاس الإبصار والشمّ والذوق واللمس ونُغفل الحديث عن حاسّة لا تقلّ أهمّية كحاسّة السمع. والسبب هو أن ثقافتنا المعاصرة بصرية في الغالب، إذ الصورة هي المهيمنة على كلّ ما عداها من وسائط. وللأسف لا يبدو الصوت مهمّا أمام طغيان واكتساح الصورة.
الصوت الجميل هو، بمعنى ما، نافذة على روح صاحبه . وأحيانا ليس الصوت وحده هو ما يفتن ويطرب، وإنّما ما يوفّره بنفس الوقت للسامع من معرفة وحكمة وخبرة. وهذه الأشياء مجتمعة هي ما تعطي الصوت الكثير من العمق والجمال.
ومن الأصوات الإذاعية التي اعتدت سماعها في مرحلة مبكّرة من حياتي ما انطبع على صفحة العقل تاركة أثرا لا يُمحى. وعندما اسمع تلك الأصوات مجدّدا فإن فعلها في الذاكرة لا يختلف عن شذى الأزهار الذي تحمله الرياح في بدايات المساء.



غير أن الصوت الإنساني، ومثل كلّ شيء آخر في هذه الحياة، يشيخ ويتقادم مع مرور الزمن. في السيّارة اسمع أحيانا بعض الأصوات الإذاعية التي خبرتها وأنا صغير، وكنت اعتبرها كالموسيقى الجميلة التي تفتن الأذن والمشاعر. لكنّي اندهش عندما ألاحظ كم أن تلك الأصوات تغيّرت وشاخت وفقدت بريقها بسبب تقدّم العمر وتغيّر الظروف.
أحيانا نُكثر من الحديث عن الحواسّ الخمس ونغفل عن حاسّة سادسة لا تقلّ أهمّية هي الخيال، أو بالأحرى القدرة على التخيّل. وسماع صوت شخص ما دون أن تكون قد رأيته أو عرفت ملامحه من قبل من شانه أن يوسّع دائرة مخيّلتك لتتصوّر ملامحه من خلال صوته، بل وربّما بعض سمات شخصيّته الأخرى. وهناك في الواقع تاريخ طويل من قراءة الشخصيّة اعتمادا على ملامح الصوت وحده.
بعض الأصوات التي نسمعها في حياتنا اليومية مليئة بالمعاني. وهناك من أصوات الرجال والنساء ما يدفعك للتساؤل ما إذا كانت تخبّئ بداخلها أوتار آلة موسيقية ما، بقدر ما أنها جميلة ومميّزة. في تلك الأصوات دائما، ثمّة شيء ما ينبّهك لأن تراه أو تسمعه أو تلمسه.
وأحيانا قد نحبّ ونألف صوتا ما ونعتبره جميلا برغم انه قد لا يخلو من عيوب في النطق أو لأن فيه بحّة أو "لثغة". لكن قد يكون هذا العيب بالذات هو سبب كون ذلك الصوت جميلا وعذبا ولأننا أيضا نجد فيه معرفة وخبرة وثقة.
وما من شكّ في أن إحدى خصائص الصوت المتحدّث الجميل هو انه يثير اهتمام السامع؛ ليس إلى الصوت فحسب وإنّما أيضا إلى الكلام الذي يقوله وإلى الطريقة التي يقوله بها.
الحديث عن الأصوات والسماع حديث طويل وممتع. وبالتأكيد سيكون للموضوع تتمّة في الأسابيع المقبلة.