:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كُتبت هذه الكلمات قبل أكثر من 30 عاما. وتُنسب الى جورج كارلن، وأحيانا الى كاتب يُدعى بوب مورهيد. وقد رأيت إعادة نشر المقال بعد ترجمته الى العربية، لأن مضمونه ما يزال وثيق الصلة بوقتنا الحاضر.
    ◦ من مفارقات عصرنا أننا ننفق أكثر، ونكسب أقل. نشتري أكثر، ونستمتع أقل. لدينا منازل أكبر، وعائلات أصغر. خبراء أكثر، لكن مع مشاكل أكثر. أدوية أكثر، لكن مع صحّة أقل. ضاعفنا ممتلكاتنا، ولكن قلّلنا قيمنا.
    تعلّمنا كيف نحيا، ونسينا كيف نعيش. أضفنا سنوات إلى الحياة، وليس حياة إلى السنوات. وقطعنا كامل المسافة إلى القمر وعدنا منه، لكنّنا لا نستطيع عبور الشارع القريب لملاقاة جار أو صديق. غزونا الفضاء الخارجي وأغفلنا الفضاء الداخلي. فعلنا أشياء أكبر، ولكن ليست أفضل. نكتب كثيرا، ونتعلّم قليلا. نخطّط أكثر، وننجز أقل. تعلّمنا أن نتعجّل، لا أن ننتظر.
    هذا عصر الوجبات السريعة والهضم البطيء، عصر الرجال الكبار، لكن بشخصيات صغيرة. عصر الأرباح المرتفعة والعلاقات الضحلة، عصر الأجساد المترهّلة، والأقراص التي تفعل كلّ شيء، من البهجة إلى الهدوء إلى القتل. إنه الوقت الذي تستطيع فيه التكنولوجيا ارسال هذه الكلمات إليك في ثوان، وبنفس الوقت يمكنك الضغط على زرّ صغير لحذفها.
    تذكّر أن تقضي بعض الوقت مع أحبّائك، لأنهم لن يبقوا معك إلى الأبد. وتذكّر أن تقول كلمة طيّبة لشخص يتطلّع إليك، لأن هذا الشخص الصغير سوف يكبر قريبا ويتركك. تذكّر أن تمنح قبلة دافئة لمن هم بجانبك، لأن هذا هو الكنز الوحيد الذي يمكنك منحه دون أن يكلّفك سنتا واحدا. تذكّر أن تقول "أحبّك" لشريكك وللقريبين منك، والأهم من ذلك أن تعني ما تقول. وتذكّر الايّام التي لن يكون فيها هؤلاء الأشخاص حولك مرّة أخرى.
    أعطِ وقتا للحبّ ووقتا للكلام ووقتا لمشاركة الأفكار الثمينة في عقلك. وتذكّر دائما أن الحياة لا تقاس بعدد الأنفاس التي نأخذها، بل باللحظات التي نحبس فيها أنفاسنا.
  • ❉ ❉ ❉


  • بعض النقّاد يعتقدون أن الموسيقى الكلاسيكية نخبوية أو بعيدة المنال، بإطاراتها الرسمية وتقاليدها غير المألوفة. لكن هذا التصوّر يتجاهل جذور هذه الموسيقى وإمكاناتها العالمية. فبيتهوڤن، مثلا، لم يكن شخصا أرستقراطيّا، بل كان رجلاً من أصول متواضعة، كافحَ ضدّ الصمم والمصاعب الشخصية ليبدع بعضا من أكثر الأعمال خلوداً في تاريخ الموسيقى. وألحانه لا تتطلّب تعليماً رفيع المستوى لتقديرها، بل فقط أذناً صاغية وقلباً عطوفاً.
    وفي عالم يهيمن عليه الإشباع الفوري بشكل متزايد، تقدّم سيمفونية بيتهوفن الخامسة شيئاً نقيضاً، لأنها تكافئ الصبر والتفكير العميق. إنها ليست مجرّد لحن جذّاب، بل هي أيضا فكرة مصاغة بعناية تتطوّر على مدار السيمفونية وتنسج من خلال حركاتها قصّة صراع وانتصار. ويتطلّب هذا العمل الموسيقي المعقّد مشاركة نشطة من المستمع وتدريبا للعقل على إدراك الأنماط وتوقّع الحلول وتقدير الدقّة.
    السيمفونية الخامسة كثيرا ما توصف بأنها "سيمفونية القدَر"، لأن بيتهوفن نفسه وصف النوتات الأربع الافتتاحية فيها بأنها "ضربات القدَر الذي يطرق الباب". وهو وصف مثير وله معنى عميق يصف بإيجاز ما نحن على وشك أن نسمعه. وقيل إن هناك "نبوءة" في بداية السيمفونية وأنه كان في ذهن بيتهوفن "سيناريو درامي" وراءها، لكنه قرّر أن لا داعي لربط الموسيقى بسرد محدّد. ويرجّح أن قصّتها تتضمّن انتقالا من الظلام إلى النور، من دو الصغير إلى دو الكبير ومن قسوة القدَر إلى النصر المبهج.
    ومنذ ظهور هذه السيمفونية قبل أكثر من مائتي عام وهي تثير العديد من الانتقادات اللاذعة والإشادات الشعرية في نفس الوقت. أحد الكتّاب وصفها بانها "الضوضاء الأكثر سموّا التي اخترقت أذن الإنسان على الإطلاق". وقال آخر: في موسيقى بيتهوفن سيتعرّف الحالم على أحلامه والبحّار على عواصفه والذئب على غاباته". وقال ثالث: تبدو لي هذه السيمفونية مثل دقّات كيس من المسامير مصحوبةً بسقوط مطرقة هنا وهناك". أما نيتشه فذكرَ أنه في مكان ما في هذه السيمفونية "قد يشعر المرء وكأنه يطفو فوق الأرض في قبّة مرصّعة بالنجوم".
    وعودا على بدء، الموسيقى الكلاسيكية مهمّة لأنها تحفّز العقل وتنشّط الروح وتوفّر لنا متنفّسا من الزوال. ومن خلال شخصيّات صانعيها، تبرز إنسانية هذه الموسيقى في أبهى صورها وعيوبها وطموحاتها وتألّقها. أما تجاهلها باعتبارها عتيقة الطراز فهو جهل بقدرتها الدائمة على تعليمنا وشفائنا وتوحيدنا كبشر. وفي عالم غالباً ما يبدو مجزّئاً وسريع الزوال، تبقى الموسيقى الكلاسيكية نبضاً ثابتاً يذكّرنا بهويّتنا الإنسانية الجامعة.
  • ❉ ❉ ❉

  • لم يكن بابلو بيكاسو يبدي كبير اهتمام بالموضوعات الاستشراقية. فهو لم يسافر قط خارج أوروبا، ولم يرسم أيّ صور استشراقية مهمّة. وبصرف النظر عن بعض صوره الغرافيكية، لم ينجذب الرسّام إلى العالم العربي أو آسيا كمصدر للإلهام. وقد قال يوما لأبولينير: أنا أكره الغرائبية، لم أحبّ الفنّ الصيني أو الياباني أو الفارسي أبدا". ومع ذلك، كان مهتمّا للغاية بفنّ جنوب الصحراء الكبرى وبجهود الرسّامين الاستشراقيين الأوائل، مثل ديلاكروا وآنغر ورينوار وماتيس.
    وكانت اللوحات الاستشراقية التي رسمها بيكاسو استجابة لأعمال فنّية محدّدة من قبل واحد على الأقلّ من هؤلاء الفنّانين. وتشير الكاتبة اماندا بيرسفورد الى أن مصادر بيكاسو الاستشراقية لم تكن مخطّطات أيديولوجية أو عاطفية لفنّه، ولم تكن مستلهمة من الأراضي والثقافات الخيالية لشمال أفريقيا والشرق، بل كانت خطابات جمالية من أجل الوصول إلى حلول خاصّة به.
    وتضيف ان الرغبة التنافسية التي أبداها بيكاسو في التعامل مع لوحة ديلاكروا "نساء الجزائر" موثّقة جيّداً. إذ تذكر فرانسواز غيلو، شريكته في الأربعينات، كيف "تحدّث كثيراً عن صنع نسخه الخاصّة من تلك اللوحة، وكيف كان يأخذها معه، أي غيلو، إلى متحف اللوفر مرّة واحدة على الأقل في الشهر لدراستها. وتكتب: سألته يوما عن شعوره تجاه ديلاكروا، فضاقت عيناه وقال: هذا الوغد، إنه رائع حقّاً".
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات..
    ◦ لو فتحنا قلوب الناس لوجدنا مناظر طبيعية. ولو فتحنا قلوبنا لوجدنا شواطئ. أغنيس فاردا

    ◦ لا شيء يجعلنا أكثر حكمة من الحزن. ففي تجربة الحزن صفاء لا يُكتسب إلا من خلال المعاناة. ولو لم ننسَ الحزن الذي عايشناه لكنّا حكماء إلى الأبد ولما أضرّ بنا شيء بعده. ولكن للأسف، ننسى حتى حكمة الحزن والألم ونعود إلى عاداتنا القديمة الناقصة. ريكاردو سالمون

    ◦ المطر على زجاج النافذة مع رياح، والمصابيح المتأرجحة فوق قضبان الترام، أريد أن أرى وأسمع أشياء بسيطة دون ضجيج طبقات المعاني. أؤمن بنهر يتدفّق من البحر إلى الجبال، ولا أطلب من الشعر أكثر من أن يصف هذه الصورة. ريمكو كامبرت

    ◦ لو كنتَ في منزل يحترق، وكانت هناك قطّة ولوحة لرمبرانت، فأيّهما ستنقذ؟ طبعا ستنقذ القطة لأنها كائن حيّ. أما الفنّ فقد مات. إنه مجرّد رسم على قماش وحبر على صفحة. أن تعيش من أجل الفنّ هو إنكار للحياة وتدمير لها. ديان فرولوف

    ◦ لـ لوكريتيوس فكرة ملهمة، وهي أن ما نكونه يشكّل شيئا آخر. بمعنى أن لا وجود للعدم مع هذه الذرّات الصغيرة التي تدور حولنا، الصغيرة جدّا بحيث لا نستطيع رؤيتها. لكن عند تجميعها، تشكّل شيئا ما، وهذا بالنسبة لي معجزة. لا أعرف من أين جاءت، لكنها معجزة. وأعتقد أنها كافية لإبقاء الإنسان طافياً. ميري اوليفر

    ◦ أمس بدأتُ كتابة قصّة جديدة، خشيةَ أن أفسد القصص القديمة. أربع أو خمس قصص تقف الآن على قوائمها الخلفية أمامي كالخيول أمام حلبة السيرك. واليوم كتبتُ قصّة كلب، قرأتُ البداية للتوّ، إنها بشعة وتسبّب لي صداعا. وعلى الرغم من كلّ حقيقتها، إلا أنها سيّئة، متزمّتة، وآليّة كسمكة تتنفّس بالكاد على ضفّة رملية. كافكا

    ◦ أنت بحاجة إلى شخص هادئ وصادق يدعو لك ويناضل من أجلك في الأوقات العصيبة. فقط عندما تجد من يضحك معك ويبكي معك، حينها يمكنك أن تقول: لديّ صديق. تون هيرمانز

    ◦ يقضي الانسان حياته في رحلة حجّ أبدية، حركة مغادرة وانفصال واستسلام دائم. هكذا دعا المسيح تلاميذه: اتركوا زوجاتكم وأطفالكم خلفكم، اتركوا أرضكم وعملكم ومكانتكم واذهبوا في نزهة، بيعوا كلّ ما تملكونه وأعطوه للفقراء واتبعوني". وقبله بوقت طويل، فعل إبراهيم الشيء نفسه، ترك كلّ شيء خلفه. المشي تغيير، نداء، طريقة لإنهاء شيء ما، للنسيان والابتعاد عن المكان والانفصال بعيدا عن ضجيج العالم. فريديريك غروس

  • Credits
    beethoven.de
    pablopicasso.org

    الأربعاء، يونيو 25، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كتب الروائي الأمريكي جون شتاينبك ذات مرّة أن هناك قصّة واحدة في العالم تخيفنا وتلهمنا، حتى أننا نعيش في دوّامة من التفكير والتساؤل المستمر. وأضاف: البشر عالقون - في حياتهم، في أفكارهم، في جوعهم وطموحاتهم، في جشعهم وقسوتهم، وفي لطفهم وكرمهم أيضا - في شبكة من الخير والشرّ. وأعتقد أن هذه هي القصّة الوحيدة التي لدينا، وهي تحدث على جميع مستويات الشعور والذكاء".
    ويضيف: كانت الفضيلة والرذيلة نسيج وعينا الأوّل، وستكون نسيج وعينا الأخير، بغضّ النظر عن أيّ تغييرات قد نفرضها على النهر والجبل، على الاقتصاد والأخلاق. لا توجد قصّة أخرى. الإنسان، بعد أن ينفض غبار حياته، لن يكون لديه سوى الأسئلة الصعبة والواضحة: هل كانت خيرا أم شرّا؟ هل أحسنتُ أم أسأت؟
    ثم يتحدّث الكاتب عن الانطباع الذي يتركه موت إنسان في أذهان الناس ويقول إنه في عصرنا، إذا كان الشخص الميّت قد امتلك ثروة ونفوذا وسلطة وكلّ ما يثير الحسد، وبعد أن يقيِّم الأحياء ممتلكاته ومكانته وأعماله وآثاره، فإن السؤال الذي يثار هو: هل كانت حياته طيّبة أم شرّيرة؟ هل سيحزن الناس لفقده أم يفرحون؟
    ثم يذكر شتاينبك قصّة وفاة ثلاثة أشخاص كان أحدهم من أغنى الناس، وقد شقّ طريقه نحو الثراء بصعوبة بالغة، وقضى سنوات طويلة يحاول استعادة ما فقده من حبّ. وأثناء ذلك قدّم للعالم خدمات جليلة قد تكون تعويضا عن مساوئ صعوده. لكن لمّا أُعلن خبر وفاته، تلقّاه الجميع تقريبا بسرور. وقال العديد منهم: الحمد لله على وفاة هذا النذل!".
    أما الشخص الثاني فكان رجلا ذكيّا كالشيطان ويفتقر إلى إدراك الكرامة الإنسانية وعلى إلمام تام بكلّ جانب من جوانب ضعف الإنسان وشرّه، فاستخدم معرفته الخاصّة لتشويه الناس وشراء ذممهم بالرشوة والتهديد والإغواء وألبس دوافعه رداء الفضيلة، حتى وجد نفسه في منصب عظيم. وعندما مات هذا الرجل، دوّت بين الناس صيحات الشكر لله على ذلك وفرحوا كثيرا بموته.
    أما الشخص الثالث فقد يكون ارتكب أخطاء كثيرة، لكنه كرَّس حياته لبناء رجال شجعان وكرام وصالحين في زمن كانوا فيه فقراء وخائفين، مع بروز قوى شرّيرة في العالم تستغلّ تلك المخاوف. وكان هذا الرجل مكروها من قِبل القلّة. وعندما مات، انفجر الناس بالبكاء في الشوارع وعلت أصواتهم: ماذا عسانا فاعلون الآن وكيف نستمرّ بدونه؟".
    ويعلّق شتاينبك على ذلك بالقول: في أوقات عدم اليقين، يلجأ البشر، بسبب ضعفهم، إلى حبّ الخير ومحبّة الآخرين. ويبدو أنه إذا اضطررنا للاختيار بين شيئين، فعلينا أن نتذكّر موتنا ونحاول أن نعيشه بحيث لا يجلب متعة لأحد."
  • ❉ ❉ ❉

  • كونك شخصا غير أناني قد يدفع الآخرين لاعتبار هذه نقطة ضعف، ومن ثم استغلالك. لذا لا يجب أن نخجل من التصرّف وفقاً لمصالحنا الذاتية في المقام الأوّل. وهذا ليس خطأ أو عيبا، ولكن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بكلمة "الأنانية" جعلتها تبدو وكأنها أمر سيّئ أو ذميم.
    غالبا الشخص الأناني لم يعش طفولته ولم يكن له والدان يساعدانه على تلبية احتياجاته وكان كلّ شخص في المنزل منشغلا بنفسه، لذا اضطرّ الشخص لأن يناضل ويتعب من أجل ما يريده. وللحصول على ما يحتاجه، تعلّمَ أن ينتزعه قبل أن يأخذه شخص آخر وفهمَ أن الآخرين لن يساعدوه وأنهم منافسون محتملون له.
    أما الشخص اللاأناني المنكر لذاته والمجامل للآخرين فربّما يكون قد عانى من نقص في تقدير الذات في طفولته. والآباء كثيراً ما يقولون لأطفالهم: توقّفوا عن الأنانية وفكّروا في الآخرين". لكن هذه النصيحة او الرسالة قد تؤدّي إما إلى اعتقاد الطفل بأن احتياجات الآخرين أكثر أهميّة من احتياجاته، وإما الى رفضه الاهتمام بنفسه لأنه تعلّم أن الأنانية خصلة سيّئة ومستهجنة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، لم يكن الشاي معروفا خارج الصين. لكن شيئا فشيئا، انتشرت سمعته كـ "مشروب سماويّ" عبر طريق الحرير إلى مختلف الممالك الواقعة على ذلك الطريق. في إحدى تلك الممالك، واسمها إنجا، سمع الملك شائعات عن المشروب السحري وأراد أن يتأكّد عمّا إذا كان مثل هذا الشيء موجودا فعلا، فقرّر إرسال سفراء له إلى إمبراطور الصين، طالبا منه الإذن بتذوّق هذا المشروب بنفسه.
    وذهب مبعوثو الملك في رحلة طويلة على طريق الحرير إلى الصين، ووصلوا أخيرا إلى بوّابات قصر الإمبراطور، حيث سُمح لهم بالدخول وحظوا بمقابلة الامبراطور شخصيّا واستمع منهم الى المهمّة التي جاؤوا من أجلها. كان الامبراطور صامتا طوال حديثهم. ولم يرغب في أن يكلّم سفراء تلك المملكة الضئيلة، بل أشار إلى وزرائه بأن يُدخلوا الضيوف إلى قاعة فخمة أخرى مجهّزة بالطاولات، حيث قُدّم لهم المشروب الغامض. وجلس الضيوف على طاولات منخفضة، وبدأوا يتذوقّون الشاي بأنفسهم، ثم قالوا لبعضهم البعض: هذا شراب رائع حقّا، منشّط ومريح في آن!
    شعر مبعوثو ملك إنجا بالرضا التام لنجاح مهمّتهم وبدأوا رحلة العودة الطويلة إلى أرض الوطن. لكنهم فضّلوا أوّلا أن يستقطعوا بعضا من وقتهم لاستكشاف الصين. فتوقّفوا في أماكن مختلفة لمشاهدة المعالم السياحية وتذوّق المأكولات المحلية. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أثناء ذلك شيئا أزعجهم: كان جميع الناس الذين قابلوهم يشربون الشاي، الغنيّ والفقير، الملك والمواطن العادي!
    وعندما عادوا الى أرض الوطن سألهم ملكهم عمّا إذا كانوا قد نجحوا في مهمّتهم، فأجابوا بتردّد: نعم ولكن.. فسألهم: لكن ماذا؟! قالوا: لقد وصلنا إلى قصر إمبراطور الصين وقُدّم لنا ذلك الشيء المسمّى الشاي. لكنّنا نظنّ بأنهم ربّما سخِروا منّا وقرّروا عدم تقديم الشاي الحقيقي لنا. فقد اكتشفنا لاحقاً أن هذا المشروب نفسه كان يقدَّم في جميع أنحاء الصين، للفلّاحين والملوك على السواء!"
    في بلد آخر على طريق الحرير، كان يعيش فيلسوف عظيم؛ أعظم فيلسوف في تلك النواحي، وكان اهتمامه وتخصّصه الوحيد الشاي. كان يفكّر فيه باستمرار ويجمع المعلومات عنه من المسافرين ويدوّن كلّ ما يسمعه في دفتر ملاحظاته. قال بعض من التقاهم إنه ورق شجر وقال آخرون إنه سائل. وقال البعض إنه مشروب أخضر اللون وقال آخرون إنه ذهبي. قال البعض إنه حلو، بينما قال آخرون إنه مرّ. ومع مرور الوقت، جمع هذا الفيلسوف أكبر ذخيرة من المعلومات في العالم عن الشاي وكتب أطروحة موثّقة عنه، وأصبح هو نفسه أشهر مرجع في الشاي على الاطلاق. لكنه لم يتذوّقه قط!
    وفي بلد ثالث، تمكّنوا من الحصول على كيس شاي واحد! وفي يوم معلوم من أيّام السنة، كانوا يربطون ذلك الكيس الصغير من أوراق الشاي المجفّفة بأربعة خيوط إلى عامودين يحملهما أربعة رجال لهم وجوه متجهّمة. كانوا يحملون الكيس بوقار طقوسي على اكتافهم ويطوفون به شوارع العاصمة. وفي ذلك اليوم، اعتاد جميع سكّان المدينة أن يغادروا أعمالهم ويخرجوا من منازلهم ليشهدوا ذلك الموكب الجليل. وعندما يمرّ كيس الشاي المقدّس من أمامهم، يركعون ويخرّون له ساجدين في خوف ورهبة.
    واستمرّ ذلك التقليد المقدّس لسنوات طوال، إلى أن حلّ بالعاصمة زائر غريب في نفس يوم الموكب المهيب، ووقف الرجل يراقب سكّان المدينة وهم يسجدون أمام كيس الشاي. فضحك بصوت عالٍ وقال: لا يا أغبياء! يجب أن تصبّوا الماء المغليّ عليه!" وانطلقت صيحة عظيمة من وسط الحشود. والتفت الكهنة ذوو الوجوه العابسة المنهمكون بحمل كيس الشاي إلى الرجل الغريب بغضب. ثم بنظرة وإشارة سريعة، أمروا الشرطة بالقبض على الرجل "عدوّ الدين الذي اقترح إتلاف الشاي المقدّس"! وألقى الجنود فورا القبض على الرجل وأُعدم بأبشع طريقة.
    لكن لحسن الحظ، قبل تلك الحادثة المؤسفة، كان الرجل قد أفشى سرّ الشاي لبعض أصدقائه في المدينة وترك لهم بعض أوراق النبات التي أحضرها معه في رحلته. لكن بعد أن رأوا ما حدث لصديقهم، حرصوا الآن على ألا يرتكبوا نفس غلطته بالحديث عن نقع الشاي بالماء المغلي أو شربه. وعندما كانوا يجتمعون سرّا لفعل ذلك، كانوا إذا سألهم أحد عن نوع الشاي الذي يشربونه يجيبون ببساطة أنه نوع من الدواء.
    وبهذه الطريقة، ازدادوا حكمة إلى أن قال أحكمهم يوما: من ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف. كفّوا عن الحديث عن "الشراب السماوي"، واكتفُوا بتقديمه في ولائمكم. من يعجبه سيطلب المزيد ومن لا يعجبه فهو لا يصلح لشرب الشاي. أغلقوا باب الجدل وافتحوا مقهى التجربة."
    وهكذا أصبحت هذه الدائرة من شاربي الشاي السرّيين أوّل تجّار للشاي في العالم. ولأنهم كانوا متجوّلين ويبيعون الأقمشة والمجوهرات أيضا، فقد كانوا يحملون الشاي معهم أينما سافروا على طول طريق الحرير. وحيثما توقّفوا، كانوا يُخرجون قليلا منه ويحضّرونه ويعرضونه على كلّ من يأتي إليهم. وكانت تلك بداية محلات "الشاي خانة" أو بيوت الشاي التي انتشرت في جميع أنحاء آسيا الوسطى وروّجت للاستخدام الحقيقيّ للشاي على نطاق واسع.

  • Credits
    steinbeck.stanford.edu
    inayatisufism.org

    الاثنين، يونيو 23، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كان بيتهوڤن يضع على مكتبه دائما كتباً لبلوتارك وهوميروس وأوفيد وأبيكتيتوس ويقضي وقتا في قراءتها. واستمرّ يفعل هذا حتى عندما كان على فراش مرضه الأخير. في عصره، كانت ڤيينا تعيش حالة من "الحضارة اليونانية". وكان من عادته عندما يكون لوحده أن يسلّي نفسه بقراءة اليونانيين القدماء. وكان مُلِمّا بالأدب والفلسفة الإغريقية منذ صباه، كما كان على علم بالفلسفة الرواقية القديمة، وبخاصّة كتابات أبيكتيتوس. وكان هذا الأخير يرى أن الأهواء لا تنشأ إلا من عدم تحقّق رغباتنا، ما يفسح المجال للاضطرابات والأمراض النفسية ويتسبّب في حزن الإنسان وشعوره بالاستياء من الغير، وبالتالي عجزه عن الاستماع إلى العقل.
    وكان حلّ بيتهوفن لمشكلة الأهواء يشكل تحديّا. وقد أدرك أن ضبط النفس هو أحد الجوانب التي يجب عليه تحسينها. كما رفض هوس الرغبات المادّية ونأى بنفسه عن الترف والبذخ. ذات مرّة ذهب مع بعض أصدقائه لتناول الغداء في مطعم. ولما لاحظ كثرة الطعام على المائدة قال: لماذا كلّ هذه الأطباق؟ هذا طعام كثير، من سيأكله؟! إن الإنسان لا يرتقي فوق مستوى الحيوانات الأخرى إذا كانت ملذّاته الرئيسية تنحصر في الطعام والشراب فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • أثناء محاضرة عن الغرب الأمريكي والأمريكيين الأصليين، ذكر الأستاذ أن الأوربّيين كانوا يصفون السكّان الأصليين "بالهمج" لأساليبهم "البدائية" في القتال وسرقتهم فروة الرأس. وتساءل: كيف يكون الاوربّيون أقلّ همجية وهم قادرون على قتل إنسان بإحداث ثقب صغير في جسده وإنهاء حياته؟!" في ذلك الوقت، كان رصاص البنادق يسبّب أضرارا داخلية مروّعة وتسمّماً للجسم.
    واستعاد الأستاذ كلاما بليغا للزعيم الهندي پونتياك عندما قال عن المستعمرين الأوربيين: لقد جاؤوا ومعهم الكتاب المقدّس، فسرقوا أرضنا وسحقوا أرواحنا. والآن يقولون لنا إنه يجب علينا أن نشكر الربّ على خلاصنا!".
    وشبيه بكلام پونتياك قول الزعيم الافريقي جومو كينياتا: عندما وصل المبشّرون الاوربيون الى بلادنا، كنّا نملك الأرض وكان لدى المبشّرين الكتاب المقدّس. وقد علّمونا كيف نصلّي وأعيننا مغمضة. وعندما فتحناها، وجدناهم تركوا لنا الكتاب المقدّس وأخذوا الأرض!". وفي كلا الحالتين، كان الاوربّيون يحملون الإنجيل بيد وبالأخرى البندقية. وحيث فشل الأوّل، أثبت الثاني فعاليته.
    وما يثير الفضول حقّا هو طريقة تعامل الڤايكنغ مع السكّان الأصليين عندما وصلوا الى القارّة لأوّل مرّة. يقول بعض هنود أمريكا الشمالية الذين تواصلوا مع الڤايكنغ لأوّل مرّة أن كلّ ما فعلوه هو مقايضة الأسلحة بلُباب الخشب، ثم رحلوا بسلام. كانوا أكثر سلميةً من الأوربيين الآخرين برغم ما يقال عن توحشّهم، أما من يُفترض أنهم متحضّرون فقد كانوا الأكثر قتلا وتدميرا.
  • ❉ ❉ ❉

  • الملاك الجديد "أو أنجيلوس نوڤوس" هو اسم هذه اللوحة التي رسمها الفنّان السويسري الألماني بول كلي عام 1920. وقد اشتراها صديق الفنّان، الناقد والفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين. وعندما اضطرّ الأخير للفرار من ألمانيا عام ١٩٣٣، أخذ اللوحة معه إلى المنفى في باريس. وعندما غزا النازيون فرنسا، قرّر بنيامين الهرب من هناك مجدّدا وعهد باللوحة، مع أوراق مهمّة أخرى، إلى الكاتب جورج باتاي الذي أخفاها في المكتبة الوطنية في باريس حيث كان يعمل. وقد قُبض على بنيامين على الحدود الإسبانية، وانتحر في سبتمبر 1940.
    وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلّم باتاي الصورة طبقا لوصيّة بنيامين الأخيرة إلى باحث بارز في التصوّف اليهودي كان قد هاجر من ألمانيا إلى فلسطين عام 1923. وتُظهر اللوحة ما يُفترض أنه ملاك يحدّق بفم مفتوح في شيء مزعج محاولا الابتعاد عنه. وكان ڤالتر بنيامين قد استشهد باللوحة في مقالة فلسفية له، واصفا التاريخ باعتباره "دورة لا تتوقّف من اليأس والحطام".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • لكلّ كاتب مسرحيّ رؤيته الخاصّة عن أوديسيوس بطل ملحمة "الأوديسّا". البعض يرونه بطلاً ذكيّاً فحسب. لكن يوريپيديس يقدّم عنه نسخة أكثر قتامة وتعقيداً ويميل إلى تصويره كشخصية ميكاڤيللية بدائية، بينما يميل سوفوكليس أكثر إلى ذكر عيوبه المأساوية.
    يبدو أن يوريپيديس كان أكثر تشكّكا في الطبيعة البشرية. وهو يرى المأساة شيئا إلهيّا تقريبا، بينما يراها سوفوكليس نتيجة ضعف بشريّ وأنظمة معيبة. سوفوكليس كتب في ذروة قوّة أثينا، بينما شهد يوريپيديس بداية انهيارها. وفي اليونان وحتى اليوم، تُدرّس الأوديسّا في الصف السابع، على يسار الكتاب النصّ الأصلي لهوميروس وعلى يمينه النسخة اليونانية الحديثة. دائما هناك شيء خالد في إعادة سرد الأساطير وإعادة صياغتها.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض المجتمعات تعتبر تمجيد الأسلاف طقسا قبوريّاً ووثنيّاً، ومع ذلك فهي مهووسة بعلم الأنساب والأصل والفصل، ويمكن لبعض العائلات في تلك المجتمعات أن تتعقّب تاريخ أسلافها إلى ما قبل مئات الأعوام، لكنها لا تستطيع أن تخبرك أين كان أطفالها الليلة الماضية! هذه المجتمعات تنكر تكريم الموتى وتأنف من كلّ ما يذكّر بهم، وفي المقابل هناك من يرى أن تذكُّر الأسلاف عمل مشرّف وواجب، وهو ممارسة قائمة منذ فجر التاريخ. لذا عندما تضع بعض المجتمعات الأزهار على قبور موتاها، لا غرابة أنها تشعر بالارتباط، ليس بهم فحسب، بل بأجيال من البشر الذين رحلوا عن هذه الحياة وعانوا من التجاهل والنسيان. يقول حكيم صيني قديم إن نسيان الأسلاف هو بمثابة "أن تكون جدولا بلا منبع وشجرة بلا جذور".
  • ❉ ❉ ❉

  • النقطة الأساسية في رواية "المحاكمة" لكافكا هي أنه لا يوجد سبب لاعتقال بطلها جوزيف ك، ولا سبب لمحاكمته، باستثناء جعله يذعن ويعاني. والرواية نفسها تبدأ بهذه العبارة: لا بدّ أن شخصا ما كان يلفّق الأكاذيب عن جوزيف ك، لأنه -دون أن يرتكب أيّ خطأ- قُبض عليه في صباح يوم جميل".
    وفكرة الكتاب هي أنه حتى لو لم تشعر بأنك مذنب، فربّما تصبح مذنبا حتى لو ثبتت براءتك في محكمة قانونية. فهذا لا يؤكّد إدانتك فحسب، بل يؤكّد أيضا إدانة النظام القانوني الذي وجدك بريئاً! كتابات كافكا تشير إلى الطبيعة التعسّفية لإساءة استخدام السلطة. فإن كنت تشعر بأنك مضطهد من قبل سلطة تكرهك ولا يقلقها أنها شرّيرة، فأنت تنتمي إلى عالم كافكا.
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير الكاتب الإيطالي جيانلوكا ديدينو الى أن الرومانسية المبكّرة كانت فلسفة متطرّفة قامت على تمسّك شبه متعصّب بقيم الفرد وولاء لعالمه الخاص، وهو ما كان غالبا يودي بحياة أتباعها. وقد مات العديد من الرومانسيين الأوائل في سنّ مبكّرة، أو أظهروا ميلاً لتدمير الذات لم يشاهَد في حركات ثقافية مماثلة في أوروبّا. أمّا من نجوا، فقد عاشوا حياة صعبة. حتى الحبّ، كما اعتقدَ الرومانسيون الأوائل، لا بدّ أن يكون مؤلما كي يكون حقيقيّا.
    ويضيف أنه من أجل إضفاء طابع رومانسيّ على العالم، آمن الرومانسيون بأنه يجب أن تبقى الآفاق البعيدة بعيدة إلى الأبد، والرغبات غير المشبعة كذلك إلى الأبد. ولم يكن الموت في سنّ مبكّرة مجرّد حادث أو نتيجة حياة عاشها الإنسان بسرعة وشقاء، بل كان جزءا أساسيا من المشروع الرومانسي. فقد مات كيتس وبوليدوري في الخامسة والعشرين من عمرهما، ونوڤاليس في الثامنة والعشرين، وشيلي في التاسعة والعشرين، واللورد بايرون في السادسة والثلاثين.
    كان الرومانسيون، بحسب الكاتب، يؤمنون بأنه ما من سبيل أفضل ولا أسمى من الموت عندما تفشل في تحقيق آمالك أو تطلّعاتك البعيدة. وليس من قبيل الصدفة أن يضِلّ أولئك الذين لم يموتوا في شبابهم طريقهم وينتهي بهم الأمر إلى الجنون أو الفقر أو التعصّب أو انعدام الأهمية.

  • Credits
    beethoven.de
    paulklee.net