:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يوليو 16، 2008

نافذة على عالم ماغريت – 3 من 4

اثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، عمّ الناس شعور بالخوف واليأس جرّاء اكتشافهم بأن العالم مكان غير آمن وأبعد ما يكون عن الكمال الذي كانوا يتصوّرونه.
وفي ظل هذا المناخ المشوّش والسوداوي ظهرت السوريالية. وكان روّادها الأوائل يجاهرون بأن هدفهم هو تغيير الواقع من خلال إطاحة النظام القديم واستنباط قيم وأخلاقيات جديدة يستعيد من خلالها الإنسان قواه الروحية الأصيلة التي تضمن له الحرّية والخلاص من القيود التي تكبّله وتعيق تطوّره.
وكان اندريه بريتون، مؤسّس السوريالية ومنظّرها الأوّل، يرى أن بنية عقل الإنسان تعكس بطريقة ما عقل الكون نفسه، وأن عالم اللاوعي هو الذي يشكّل الطبيعة الحقيقية للإنسان لأنه النقطة التي لا تتناقض عندها الحياة مع الموت ولا الخير مع الشرّ ولا العدل مع الظلم ولا الماضي مع المستقبل ولا الواقع مع الخيال ولا الحقيقة مع الزيف.. إلى آخره.
ولهذا السبب كان بعض السورياليين لا يخفون تعاطفهم، بل وإعجابهم أحيانا، بالمجرمين والخارجين على القانون لأنهم برأيهم أشخاص أذكياء وجريئون و"مبدعون" في انتهاك القوانين والأعراف المتوارثة.
بل إن بريتون نفسه لم يكن يرى في الإنسان المجنون مجنونا بل مصدرا للحكمة والنبوءة، على اعتبار أن المرض النفسي يفسح المجال لظهور الجانب المظلم من العقل ومن ثم الكشف عن بعض الحقائق المؤلمة عن المجتمع وعن الطبيعة الإنسانية.
رينيه ماغريت كان هو أيضا جزءا من هذا الحراك الفكري والفلسفي. ومن المعروف انه قضى في باريس ثلاث سنوات كانت هي الأهم والأكثر غنى في مسيرته الفنية. وقد اتّسمت علاقته مع زملائه السورياليين بفترات من المدّ والجزر إلى أن انتهت تلك العلاقة تماما بعودته إلى بلجيكا حيث قضى فيها العشرين سنة الأخيرة من حياته.
ويقال إن ماغريت احرق كلّ المقتنيات والأشياء الخاصّة التي كانت تذكّره بالحقبة السوريالية. وقد نفى بعد ذلك أكثر من مرّة أن يكون سورياليا أو أن تكون لفنه صلة بالسوريالية. وكانت علاقته مع بريتون، خاصّة، قد تدهورت عندما غضب الأخير لرؤيته زوجة ماغريت في احد اجتماعاتهم وهي ترتدي صليبا وطالبها بنزعه فرفضت.
ومن المعروف أن السوريالية ارتبطت في بدايات ظهورها بالماركسية. وماغريت نفسه لا يتحرّج من الإشارة إلى انه اعتنق الأفكار اليسارية في مطلع شبابه.
وفي إحدى المراحل انتسب للحزب الشيوعي، غير انه سرعان ما تركه بعدما طُلب منه أن يكيّف فنّه مع الايديولوجيا الحزبية وأن يوظف لوحاته للترويج لأفكار الحزب ومبادئه.

كان ماغريت، الذي تفتّح وعيه مبكّرا على أشعار الان بو وروايات ستيفنسون وأفلام شارلي شابلن، يرسم ليستفز ويثير المشاعر.
وبالنسبة إليه فإن هذا العالم يعتبر مصدرا كافيا للكشوفات المدهشة والتجليات الشفافة. ولهذا السبب، وخلافا للسورياليين الآخرين، لم يكن مهتمّا بأن يستقي من الأحلام والهلوسات والظواهر الغريبة مصدرا لمضامين لوحاته.
في لوحته غموض الأفق نرى ثلاثة أشخاص متماثلين ظاهريا ويرتدون القبّعات. المنظر يدلّ على أن الوقت قد يكون فجرا أو ساعة الغروب. ومع أن الرجال الثلاثة يقفون في نفس المكان، فإن كلا منهم منفصل نفسيا وشعوريا عن الآخر. وما يعزّز هذه الفرضية أن لكلّ منهم هلاله الخاص ووجهته الخاصّة.
تفاصيل اللوحة توحي بأننا قد نكون أمام صورة من صور تشظّي الذات وتجزؤ الإنسان وابتعاده عن الإحساس بالكُلّ. وهناك احتمال أن يكون ماغريت أراد من خلال اللوحة التأكيد على مسألة التمايزات والفروق الفردية التي تجعل من كلّ شخص مختلفا عمّن سواه في المزاج النفسي وفي طريقة النظر إلى الحياة برغم التماثل في الملامح الفيزيائية أو الجسدية.
هذان مجرّد احتمالين. مع أن المعنى قد يكمن في مكان آخر..

إن بعض لوحات ماغريت تعطي إحساسا بأن الفنان يتعمّد السخرية من الحداثة والرأسمالية والاشتراكية ومن البورجوازيين بل وحتى من العصر نفسه الذي برأيه يستحقّ الشفقة. هذا بالرغم من حقيقة انه كان هو نفسه بورجوازيا طوال حياته بقدر ما كان إيمانه قويّا أيضا بأفكار العصرنة والليبرالية.
في لوحة جولكوندا يضعنا ماغريت أمام منظر غريب . هنا بوسع الناظر أن يرى مجموعة من الأشخاص المعلقين في الهواء، متّخذين شكل وقوف رأسي أمام عدّة مبان متجاورة طليت واجهاتها باللون البنّي الغامق.
قد يكون ماغريت رسم هذا المنظر كي يصوّر من خلاله الآثار السيّئة التي تنتج عن رصّ البشر ومحاولة تشكيلهم أو قولبتهم على نسق أو نموذج أو نظام واحد بعيدا عن أي مضمون إنساني كما لو أنهم كتل من الحجارة الصمّاء. والنتيجة واضحة، وهي أن السياق الذي ينتظم الأشخاص في اللوحة أصبح مبعثرا ومتنافرا، بحيث لا نرى أمامنا سوى بضعة أشخاص كاملين فيما تضاءلت أحجام البقية وأصبحوا مجرّد ظلال. ويمكن أن تكون اللوحة إشارة إلى البنية الطبقية للمجتمع الصناعي التي تتّسم بالتفاوت الشديد والصرامة والقسوة. كما يمكن أن تكون رمزا لضياع هويّة الفرد بعد أن حوّلته المدنية الحديثة بإيقاعها الآلي إلى مجرّد رقم أو جزء ضئيل من آلة الإنتاج الهائلة والمتوحّشة.
لكن هناك تفسيرا آخر يستند إلى ما عُرف عن ماغريت من براعة في التلاعب باللغة وتغيير نظام الكلمات. فعنوان اللوحة "جولكوندا" ربّما يشير ضمنا إلى لوحة دافنشي الجيوكندا أو الموناليزا. كأن ماغريت أراد أن يقول إن الجيوكندا ليست ما تراه في هذا المنظر، لأنها تحوّلت في العالم الحديث وبفضل هيمنة رأس المال وسطوة الإعلان إلى مجرّد سلعة لكسب الربح وجني المال بعد أن تطاير مضمونها الفني والإبداعي في الهواء.

إن من أهم سمات لوحات ماغريت أنها تمتلئ بالشكّ وبالأسئلة الوجودية الكثيرة ولا نكاد نرى فيها وجودا ملموسا لخالق أو لذات عليا. والإنسان في العديد من رسوماته غريب ويائس ومهزوم لأنه يعيش في عالم يجهل الكثير من معطياته وحقائقه. وهو بالإضافة إلى هذا إنسان عاجز ومسلوب الإرادة بفعل تسلط الجماعة وهيمنة القيم الموروثة.
في الحنين إلى الوطن يرسم ماغريت رجلا بجناحين وأسدا رابضا على الأرض وعمود إنارة ورصيفا.
من الواضح أن كلا من الرجل والأسد موجود خارج هيئته الطبيعية. فالرجل له جناحان قد يكون ماغريت استعارهما من الصورة الكلاسيكية للأسد، إذ تذكر الأساطير انه كان للأسد جناحان في بدايات خلق الأرض. لكنه اليوم أصبح حيوانا مروّضا وبذا فقد حرّيته رغم انه يبدو حرّا ظاهريا.
الأسد أصبح خارج القفص لكنه ليس حرّا. والرجل صار له جناحان لكنه ما يزال داخل "قفص". والاثنان أسيرا إحساسهما بالوحدة والغربة والحنين إلى الماضي. ويمكن اختصار مضمون هذه اللوحة بعبارة جان بول سارتر: الحرّية هي المصدر الأول لمعاناة الإنسان المعاصر".

إن ماغريت لا يتوقف عن العبث بنظام الأشياء لكي يخرّب إحساسنا بالاطمئنان إلى ما نعتبره واقعا وحقيقة مسلّما بها ويعتبره، هو، مجرّد تهيّؤات وأحلام ورغبات غامضة.
في لوحة الآخرة The Hereafter يرسم منظرا تنقبض له النفس يعبّر من خلاله عن مأساة الإنسان وعدمية الوجود. في اللوحة لا نرى سوى قبر وحيد من الحجر بلا شاهد أو اثر يدلّ على صاحبه وسط صحراء موحشة يلفها السراب والصمت وتلهبها أشعة الشمس الحارقة.
وفي الإجابة غير المتوقّعة يرسم ماغريت بابا تتوسّطه فجوة طولية على هيئة شخص شبحي. الصورة قد تكون تجسيدا لخوف الإنسان الغريزي من المجهول. مثلا، قد يفاجأ احدنا في ساعة متأخّرة من الليل بمن يقترب من بيته ليطرق الباب ويوقظه من نومه. وبما انه لا يتوقّع زيارة احد في مثل تلك الساعة، فإنه من الطبيعي أن يتسرّب الخوف والقلق إلى نفسه ويتساءل عمّن عساه يكون ذلك الزائر الغريب. وفي غمرة إحساسه بالخوف والتوجّس قد يفترض أن الطارق إما لصّ مغامر أو مجرم محترف. لكن لا يخطر بباله أن الزائر قد يكون صديقا قديما اهتدى إلى البيت بعد طول بحث أو عابر سبيل يطلب غوثاً أو مساعدة. لكننا اعتدنا على الخوف من المجهول وتوقع الأسوأ، لان عقولنا مبرمجة سلفا وبشكل لا إرادي على التخيّلات الجامحة والتهيّؤات غير الواقعية.

وفي أزهار الشرّ The Flowers of Evil يرسم ماغريت مشهدا استمدّ عنوانه من اسم أشهر ديوان شعر لـ بودلير. كان بودلير يؤمن بأن الشرّ ينطوي على عنصر غواية وجمال وأن ثمّة حاجة لاستخلاص الجمال من الشرّ. كما كان يرى أن ثنائية الإنسان هي مكمن شقائه الوجودي فهو يتطلع للتسامي إلى الأعلى، أي إلى الله، لكنه مشدود بنفس الوقت إلى رغباته الأرضية التي يمليها عليه الشيطان.
في اللوحة رسم ماغريت امرأة عارية بملامح تمثالية جميلة وهي تمسك بإحدى يديها زهرة بينما تسند يدها الأخرى على حجر.
ومن الواضح أن جسد المرأة ينطوي على عنصر حسّي لكنها في النهاية مصنوعة من حجر. وهي تبدو حيّة لكن عينيها متحجّرتان. وهذا التناقض بين ما هو حقيقي وما هو مزيّف، بين اللحم الحيّ والمادة الساكنة، يطبع اللوحة بالمفارقة ويضفي عليها مسحة من التناقض والغموض.
ومن أكثر أعمال ماغريت احتفاءً لوحته المسمّاة علاقات خطرة التي تظهر فيها امرأة عارية وهي تمسك بمرآة كبيرة تغطي معظم جسدها.
لكن المرآة تعكس صورة جانبية للمرأة تبدو فيها كما لو أنها تستدير محاولة إخفاء صدرها.
والأسئلة التي تثيرها اللوحة كثيرة. مثلا، هل يتضمّن المشهد أكثر من مرآة؟ هل هناك امرأة واحدة أم أكثر؟ ومن حيث المضمون، هل يشير ماغريت هنا إلى فكرة الأنوثة، صورة الجسد، أو وعي الإنسان بصورة جسده؟
هل النظر في المرآة هو العلاقة الخطرة التي يشير إليها العنوان لأنها لا تقود، حسب ماغريت، سوى إلى وهم وخداع؟
أم هل أن صورة الإنسان عن جسده ترتبط بشعور غامض بالخوف أو الخجل أو الارتياب كما تشي بذلك حركة المرأة في الإطار؟
أم أن الموضوع لا يعدو كونه شكلا آخر من أشكال الايهام البصري يلجأ إليه ماغريت كي يقول لنا إن سطح الزجاج ليس هو بالضرورة سطح الواقع وليؤكّد من جديد فكرته القائلة بهشاشة وضعف إدراك الإنسان للواقع؟
كلّ هذه الاحتمالات ممكنة. لكن لا شيء منها مؤكّد.

وفي لوحة اكتشاف النار يرسم ماغريت "تيوبا"، وهي آلة موسيقية نفخية لها أنابيب ملتوية ومتجاورة، بينما راحت النار تلتهمها من أطرافها.
وللنار عند ماغريت دلالة خاصة، إذ تظهر في أكثر من لوحة من لوحاته. هناك مثلا لوحة اسماها الطوفان The Flood وفيها تظهر امرأة جسدها نصف عارٍ والى جوارها آلة تيوبا تحترق. وينقل عن ماغريت انه قال في إحدى المرّات أن الاكتشاف المدهش للنار، من خلال عملية احتكاك جسمين ببعضهما، يذكّرنا بالآلية الفيزيائية للمتعة.
وهناك من الكتاب والفلاسفة من يرى أن النار مقترنة بالمتعة وأن المتعة تستمدّ فكرتها من الحبّ والحرّية. وبناءً عليه، فالنار هي المعادل المجازي للاثنين. وليس من المستغرب أن يكون للمرأة حضور متخفّ ودائم في لوحات السورياليين، فهي عندهم رمز للحبّ وهي الوجود المختبئ دائما في غابة أحلامهم وتخيّلاتهم.

إن الفضول الذي تثيره عناوين لوحات ماغريت كثيرا ما يدفع الناظر إلى العودة إلى الصورة ليتأمّلها من جديد وليتساءل، مثلا، عن المنطق الذي يدفع ماغريت إلى إطلاق اسم الوتر الحسّاس أوLe Corde Sensible على لوحة تصوّر غيمة ثلجية تطفو على سطح كأس زجاجي، أو عن العلاقة بين تلك الكتل من الصخور الضخمة التي ركّبت فوق بعضها لتأخذ شكل كلمة "الحلم" بالفرنسية وبين الاسم الذي اختاره ماغريت لتلك اللوحة (فنّ المحادثة)، أو عن الفكرة التي تنطوي عليها لوحته بعنوان الابتكار الجماعي The Collective Invention التي يقلب فيها الصورة النمطية، والرومانسية غالبا، الشائعة عن عروس البحر فيجعل لها رأس سمكة وساقي امرأة.

في إحدى اللوحات التي اقتبس ماغريت اسمها من عنوان قصّة لـ ادغار الان بو بعنوان مملكة آرنهايم يرسم صورة يدفع من خلالها الناظر إلى إعادة النظر في أفكاره وتصوّراته عن الجبال. فقد رسم جبلا على هيئة نسر عملاق وفي مقدّمة اللوحة يستقر عشّ بيض على جدار. تفاصيل المشهد وطريقة رسمه توحي بأن الجبل هو الذي وضع البيض مع أن البيض صغير جدّا بالنسبة لحجم النسر المهول.
لكن بصرف النظر عن هذه التفاصيل الصغيرة، فإن هذه اللوحة تعتبر اليوم من أشهر أعمال ماغريت بالنظر إلى سورياليتها الموغلة وقوّتها البصرية الأخّاذة.

إن ماغريت الذي يشغله غموض العالم وتستفزه تناقضاته الكثيرة لا يتردّد في خلخلة الأفكار والتصوّرات المستقرّة وقلب الأعراف والقوانين رأسا على عقب، فيحوّل النباتات إلى طيور والتماثيل إلى لحم حيّ والبشر والفاكهة إلى حجارة وكأنه يباشر عملية خلق فصيلة أو نظام جيني جديد بطريقة لا تخلو أحيانا من السخرية وروح الدعابة.

لقد ترسّخت عند الفنانين والنقاد فكرة تقول إن الفنان لكي يكون حداثيا فلا بدّ من أن يكون قبيحا وصادما عند السطح. وقد كان بإمكان ماغريت أن يكون كذلك لولا أن نقاءه كفنان كان يدفعه دائما لأن يدفن القبح والصدمة تحت السطح.
وربّما لا يستثنى من هذا التوصيف سوى بضع من لوحاته أهمّها اثنتان؛ الأولى: الاغتصاب The Rape التي يأخذ فيها وجه امرأة شكل أعضائها الخاصّة، في إشارة إلى أن المغتصب إذ يقوم بفعلته يكون قد طمس ملامح وجه المرأة في "لا وعيه" وأحلّ مكانها تصوّراته عن تفاصيل جسدها مدفوعا بتأثير نزواته ورغباته المكبوتة.
والثانية: القاتل المهدَّد The Threatened Murderer التي تصوّر مسرحا لجريمة قتل.
ويمكن أن نجد في إحدى عبارات ماغريت تبريرا لرسمه هاتين اللوحتين إذ يقول: لا يجب أن نخشى ضوء النهار لمجرّد انه يكشف أحيانا عن بعض تعاسات العالم الذي نعيش فيه".

في اللوحة الأخيرة، أي القاتل المهدّد، يظهر رجلا تحرّي يرتديان القبّعة ويكمنان في طرفي غرفة استعدادا للانقضاض على قاتل بهيئة محترمة. القاتل منهمك في الاستماع إلى الموسيقى من جهاز تسجيل قديم بينما يظهر بالقرب منه جسد عار لامرأة يبدو انه قتلها للتوّ. وخلف النافذة في نهاية الغرفة نرى ثلاثة رجال يراقبون ما يجري.
عنوان اللوحة نفسه ينطوي على مفارقة، إذ كيف يمكن تصوّر أن يكون القاتل مهدَّدَا؟ لكن عند التدقيق في ملامح الرجال، القاتل ورجلي التحرّي والمتفرّجين بل وحتى المرأة الضحيّة، سرعان ما نكتشف أنهم جميعا يحملون نفس الوجوه. أي أن القاتل والمقتول والجمهور كلهم ضحايا وكلهم جناة.
إن ماغريت لا يكفّ عن طرح بعض أكثر أسئلة الوجود صعوبة وتعقيدا. وغالبا ما تكون الإجابات ضمنية. وهو بهذا المعنى يمارس العنف ضد أفكارنا وقناعاتنا الجاهزة والمقبولة، ولا يتوانى أثناء ذلك عن تقويض العقل واللغة والواقع لكي يبدّد رضانا وقناعتنا بأن عالمنا مستقرّ ويمكن التنبّؤ به.

وبعض النقاد ممّن درسوا لوحاته قالوا بأنها انعكاس لرغبة الفنان في التعبير عن اعتراضه على رتابة وعبثية الحياة. والبعض الآخر رأوا فيها ما يمكن اعتباره حيلة هروبية ونكوصا عن مواجهة الواقع. والبعض الثالث تحدّث عن دأب ماغريت ومثابرته في توظيف فنّه من اجل كشف بعض المناطق المظلمة والمعقّدة في الطبيعة الإنسانية.
وهناك فريق آخر من النقاد ممّن لا يخفون افتتانهم بجمال مناظره وجاذبيتها رغم كون بعضها مربكا ومستفزّا.
وهو قال ذات مرة بطريقته المختزلة والساخرة: إن كل لوحة تبدأ كقصّة حبّ وتنتهي كعملية اغتصاب!"