:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يناير 27، 2010

عوالم مثالية

في موقعَيFlickr وDeviant Art الكثير من صور الفانتازيا التي يذكّر بعضها بعالم الرومانسية القديم. بعض تلك الصور تأخذك في رحلة إلى طبيعة ساحرة ربّما لا توجد إلا في الحلم. تتأمّل بعضها فتتذكّر أجواء لوحات كاسبار فريدريش وادموند ليتون ووليام هانت وفرانشيسكو هايز، لكن في سياق عصر مختلف الظروف والملامح.
ماشية ترعى وسط مروج خضراء تحيطها جبال يلّفها الضباب وتعلوها هالات مضيئة. شوارع لقرى هادئة. نساء وفتيات يستلقين تحت أشجار وارفة الظلال ويستمتعن بأشعّة الشمس الدافئة. غابات. انهار. طيور غريبة، أكثرها غربان سُود، تطير في مواجهة قمر مكتمل يغمر بأشعّته الفضّية طبيعة شاحبة وغير مأهولة. وحوش وكائنات غريبة كأنها خارجة من عصور ما قبل التاريخ.
صحارى فارغة وشاسعة. ظلال تثير في النفس شعورا هو مزيج من النشوة والرهبة. نباتات غريبة الأشكال والألوان. امتدادات واسعة من مياه خضراء وزرقاء.
ومهما بدت بعض تلك الصور غريبة، فإنه ما يزال فيها مسحة من الرومانسية القديمة، على الأقلّ ظاهريا.
ترى، هل يمكن اعتبار هذه الموجة الكاسحة من صور الفانتازيا التي توظّف فيها التقنيات المتطوّرة للتصوير والرسم الرقمي نسخة جديدة عن الرومانسية القديمة؟
هذه الصور الحديثة تخبّئ حنين إنسان هذا العصر إلى عالم مثالي، إلى جنّة خرافية يمكن أن يجد فيها الإنسان ملاذا آمنا يؤنس وحشته ويحميه من متاعب المدنية الحديثة وما جلبته للإنسان من توتّر وتشوّش وقلق. ولو تمعّنت في الكثير من تلك الصور ستلاحظ أن الشخوص غالبا ما يعطون ظهورهم للناظر، وكأنهم يعبّرون بذلك عن ازدرائهم للواقع وعدم اعترافهم به.
الرومانسية القديمة ظهرت كردّ فعل على انتشار الحروب وتغوّل الآلة التي رافقت عصر الثورة الصناعية الأوربية. في ذلك الوقت وجد الفنّانون والشعراء في الرومانسية وسيلة للاعتراض على الواقع تخفّف عنهم الشعور بالاستلاب والغربة وعدم الأمان. وكانت تلك وسيلة احتجاج ودعوة للتغيير.
رومانسية هذا العصر الرقمي، إن جاز التعبير، يمكن اعتبارها، هي أيضا، وسيلة الفنّانين الشباب للإعلان عن مخاوفهم وضيقهم من عالم الواقع. هذا العالم الموبوء بالإرهاب والصراعات العسكرية والأزمات الاقتصادية المتلاحقة والبطالة ومشاكل البيئة، وما تنتجه هذه المشاكل والأزمات من مظاهر التوتّر والغربة والقلق. لذا فالفنّانون الرقميون يحلمون بعالم مثالي، بـ يوتوبيا عن عالم آخر مختلف يتحقّق فيه السلام والأمن والوفرة والطمأنينة المفقودة.
ومن الملاحظ أن بعضهم يعمدون إلى تزيين صورهم بأبيات شعرية مستوحاة غالبا من كلمات الأغاني والأفلام وتعبّر عما يعتمل في نفوسهم من تطلّعات وأحلام.
احدهم، مثلا، ذيّل لوحته بكلمات ذات مغزى تقول: نمشي على طريق طويل. ويتعيّن علينا أن نقطع مسافات بعيدة. الجوّ رياح ومطر وثلج. وأنا أسالك عمّا نريد كلّنا أن نعرفه: إلى أين نحن ذاهبون من هنا؟! نمشي هذه الدروب عبر مرايا الزمن. نحتاج مساحات لأحلامنا كي نغوص إلى أعماق تخيّلاتنا. اعرف أننا سنصل قريبا. فكلّ شيء ممكن. ولا نحتاج لأن نختبئ خلف ما هو خفيّ وغامض".
وكتب آخر: اشعر بأن العالم يتغيّر الآن ولن يقف احد في طريقنا. سأذهب إلى حيث يأخذني قلبي. استطيع أن افعل كلّ شيء. روحي قويّة، ولا احد يمكنه أن يعيقني أو يثنيني عن الوصول إلى ابعد نجمة في السماء. الريح والنور سيقوداني آلاف الأميال عبر المحيطات وملايين السنين عبر السموات. هل تستطيع أن تظلّ حيّا بينما أنت ضائع في البحر"؟!
وكتب ثالث قائلا: الليل بارد والسماء مليئة بالنجوم. كلّ شيء ساكن. لا توجد روح تتحرّك في ليل الغابات. فقط حارسة النهر التي تتجوّل وحيدة الآن. تبحث عن الشيء الوحيد الذي فقدته: البلّلورة السحرية التي كانت تحمي عالمها. هي تعلم أنها ستجدها إن عاجلا أو آجلا في وسط العاصفة الثلجية عندما تغفو النجوم في أحضان الليل".
ازدهار الصور الرقمية على الانترنت يمكن أن يرقى إلى مستوى الظاهرة. غير أن كثيرا من تلك الصور لا تعدو كونها مجرّد أحلام مشوّشة وتهويمات غائمة تفتقر إلى عنصر الالتزام والرغبة الواضحة والأكيدة في تغيير قيم واشتراطات الواقع.
فنّانو الرومانسية الرقمية الحديثة يبدعون صورا جميلة تناسب الجميع. وهم يتطلّعون إلى اللانهائية والحلم ويتوقون، ولا شكّ، إلى عالم أفضل. غير أنهم يبدون، من خلال صورهم، أناسا مسالمين ومستسلمين للواقع، بل وربّما مستعدّين للتعايش معه. ومن الواضح أنهم، خلافا للرومانسيين القدامى، لا يسعون إلى إغضاب احد ولا إلى التمرّد على المجتمع أو على المؤسّسات التي أسهمت في خلق هذا الواقع ودفعتهم لأن يضيقوا به ويفضّلوا عليه عالما مثاليا من صنع خيالاتهم وأوهامهم.

الاثنين، يناير 25، 2010

نساء خطِرات


في الكتب الدينية القديمة، يرد ذكر امرأتين هما جوديث وسالومي كانتا موضوعين مهمّين في لوحات رسّامي القرنين السادس عشر والسابع عشر.
اقتران سيرة حياة هاتين المرأتين بالقصص المخيفة عن قطع رؤوس رجال أقوياء جعل منهما ما يشبه الأسطورة التي فتنت أجيالا متعدّدة من الأدباء والفنّانين.
وعندما يفكّر المرء في النساء الخطيرات يتذكّر سوزانا وحتى مريم المجدلية وزوجة الفرعون. والقائمة يمكن أن تطول أكثر من ذلك. وما يثير الانتباه بشكل خاصّ هو وجود أوجه شبه مهمّة بين شخصيّتي سالومي وجوديث.
جوديث، مثلا، هي بطلة من العهد القديم قامت بإغراء هولوفيرنس الذي كان جنرالا عُرف باضطهاده لليهود. وتذكر القصّة أن المرأة تسلّلت إلى معسكر الجنرال واستطاعت أن تسيطر على مشاعره وتأسر قلبه. وفي إحدى الليالي أكثرت له الشراب إلى أن فقد وعيه، ثم قامت بقطع رأسه ولفّته في قطعة قماش وحملته بصحبة خادمتها إلى قومها.
من جهة أخرى، سالومي هي شخصيّة من العهد الجديد، وقد رقصت لزوج أمّها الملك الآشوري هيرود الذي وقع تحت تأثير جمالها. وتحت إلحاح أمّها طالبت برأس يوحنا المعمدان كمكافأة.
وفي تفاصيل هذه القصّة أن هيرود كان قد قام بسجن يوحنّا المعمدان لانتقاده إيّاه على زواجه من هيروديا زوجة شقيقه المتوفّى.
هيروديا اعتبرت تصرّف الكاهن إهانة بحقّها وظلّت تنتظر الفرصة المواتية للانتقام منه. وفي إحدى الليالي، انخرط هيرود في حلقة رقص ماجنة مع سالومي ابنة زوجته. وبعد أن أدارت الشهوة رأسه، اسرّ إلى سالومي انه عازم على تحقيق أيّ رغبة تتمنّاها جزاءً لها على إدخالها السرور إلى قلبه. وذهبت سالومي إلى أمّها تستشيرها في عرض الملك، فأشارت عليها أن تطلب من هيرود رأس يوحنّا المعمدان.
المعمدان هو أشهر شخصيّة في المسيحية بعد المسيح نفسه. ويقال انه كان ذا حضور قويّ وشخصية آسرة. وأشيع في بعض الأوقات أن هيرود قتله لمنع انتفاضة ضدّه كانت على وشك أن تقع.
وقد بشّر بمجيء المسيح ثم قام بتعميده في ما بعد، ومن هنا لقّب بالمعمدان. وكان أيضا يسمّى بالرجل الصارخ في البرّية بسبب انقطاعه في الصحراء للعبادة والتأمّل وإلقاء المواعظ التي تبشّر بمقدم النبيّ الجديد. كان يرتدي في الصحراء ملابس مصنوعة من وبر الجمل ويربط على وسطه حزاما من الجلد. وكان لا يأكل سوى الجراد والعسل البرّي. وقد راجت في ما بعد أسطورة تقول إن صدى صرخاته في البرّية كان يُسمع لسنوات طوال بعد مقتله. وقد تأثّر بشخصيّته البهائيون الذين كانوا ينزلونه مكانة قريبة من منزلة الأنبياء.
والواقع انه من السهل أن تخلط بين هاتين المرأتين، أي جوديث وسالومي، في فنّ القرنين السادس عشر والسابع عشر، ما لم تعرف قصّة كلّ منهما والرمزية التي تنطوي عليها القصّة.



جوديث كانت موضوعا حظي بشهرة واسعة في فنّ القرن السابع عشر على وجه الخصوص. وربّما باستثناء العذراء، لم يكن هناك امرأة أخرى أشهر منها من حيث عدّد المرّات التي رُسمت فيها. فقد كان ينظر إليها كرمز للإخلاص والعدالة والطهر والشجاعة.
وقد كان كلّ من الكاثوليك والبروتستانت يزعمون أحقيّتهم في نسبة المرأة إليهم. البروتستانت كانوا يعتبرونها رمزا للثورة ضدّ السلطة، وهو أمر كانوا يريدون رؤيته يحدث لمضطهديهم الكاثوليك. والكاثوليك من جهتهم كانوا يعتبرونها مدافعة عن الكاثوليكية لأنها كانت مبشّرة بالعذراء. كانت جوديث رمزا مرنا ومطواعا بحيث يحقّق لكلّ طرف ما يريده.
وفي بعض تلك اللوحات الرهيبة التي تصوّرها، تظهر هذه المرأة وهي تمسك في يدها برأس مقطوع. وفي أخرى يظهر الدم وهو يتطاير مغطيا كلّ شيء. تتأمّل تلك اللوحات وأنت تفكّر في حقيقة هذه المرأة الرهيبة والفظّة والعنيفة. والحقيقة أنها يمكن أن تمثّل هذه الصفات. لكن، بنفس الوقت، يمكن أن ترمز عند آخرين إلى أشياء معيّنة كالعفّة والثبات والجسارة.
في إحدى اللوحات، تبدو جوديث وهي تمسك بالرأس المقطوع ذي الوجه الشاحب بينما تقف خادمتها خلفها مهيّئة لها الكيس كي تضعه فيه.
الآن خُذ كلّ هذه الصور وضعها في غرفة واحدة، ثم ضع معها لوحة تصوّر سالومي. ستجد أن سالومي تتميّز عليها برمزية رأس المعمدان الذي يقدّم على طبق. كما يمكن أن تلمح في إحدى صورها ظلا لجلاد في الخلفية، وأحيانا حضور أمّها نفسها.
طبقا للكتب الدينية، كانت سالومي فتاة صغيرة عندما وقعت تلك الحادثة. وهذا هو السبب في أنها تظهر في بعض الصور كطفلة في العاشرة. وهناك صور أخرى تظهرها في هيئة امرأة مغرية لزوج أمّها وقاتلة للكاهن لتصبح رمزا للمرأة الشهوانية والخطرة.
وهناك من رسمها وهي تشهد فعل الذبح بينما ترتسم على وجهها تعابير حالمة ورقيقة. "مترجم بتصرّف"