في موقعَيFlickr وDeviant Art الكثير من صور الفانتازيا التي يذكّر بعضها بعالم الرومانسية القديم. بعض تلك الصور تأخذك في رحلة إلى طبيعة ساحرة ربّما لا توجد إلا في الحلم. تتأمّل بعضها فتتذكّر أجواء لوحات كاسبار فريدريش وادموند ليتون ووليام هانت وفرانشيسكو هايز، لكن في سياق عصر مختلف الظروف والملامح.
ماشية ترعى وسط مروج خضراء تحيطها جبال يلّفها الضباب وتعلوها هالات مضيئة. شوارع لقرى هادئة. نساء وفتيات يستلقين تحت أشجار وارفة الظلال ويستمتعن بأشعّة الشمس الدافئة. غابات. انهار. طيور غريبة، أكثرها غربان سُود، تطير في مواجهة قمر مكتمل يغمر بأشعّته الفضّية طبيعة شاحبة وغير مأهولة. وحوش وكائنات غريبة كأنها خارجة من عصور ما قبل التاريخ.
صحارى فارغة وشاسعة. ظلال تثير في النفس شعورا هو مزيج من النشوة والرهبة. نباتات غريبة الأشكال والألوان. امتدادات واسعة من مياه خضراء وزرقاء.
ومهما بدت بعض تلك الصور غريبة، فإنه ما يزال فيها مسحة من الرومانسية القديمة، على الأقلّ ظاهريا.
ترى، هل يمكن اعتبار هذه الموجة الكاسحة من صور الفانتازيا التي توظّف فيها التقنيات المتطوّرة للتصوير والرسم الرقمي نسخة جديدة عن الرومانسية القديمة؟
هذه الصور الحديثة تخبّئ حنين إنسان هذا العصر إلى عالم مثالي، إلى جنّة خرافية يمكن أن يجد فيها الإنسان ملاذا آمنا يؤنس وحشته ويحميه من متاعب المدنية الحديثة وما جلبته للإنسان من توتّر وتشوّش وقلق. ولو تمعّنت في الكثير من تلك الصور ستلاحظ أن الشخوص غالبا ما يعطون ظهورهم للناظر، وكأنهم يعبّرون بذلك عن ازدرائهم للواقع وعدم اعترافهم به.
الرومانسية القديمة ظهرت كردّ فعل على انتشار الحروب وتغوّل الآلة التي رافقت عصر الثورة الصناعية الأوربية. في ذلك الوقت وجد الفنّانون والشعراء في الرومانسية وسيلة للاعتراض على الواقع تخفّف عنهم الشعور بالاستلاب والغربة وعدم الأمان. وكانت تلك وسيلة احتجاج ودعوة للتغيير.
رومانسية هذا العصر الرقمي، إن جاز التعبير، يمكن اعتبارها، هي أيضا، وسيلة الفنّانين الشباب للإعلان عن مخاوفهم وضيقهم من عالم الواقع. هذا العالم الموبوء بالإرهاب والصراعات العسكرية والأزمات الاقتصادية المتلاحقة والبطالة ومشاكل البيئة، وما تنتجه هذه المشاكل والأزمات من مظاهر التوتّر والغربة والقلق. لذا فالفنّانون الرقميون يحلمون بعالم مثالي، بـ يوتوبيا عن عالم آخر مختلف يتحقّق فيه السلام والأمن والوفرة والطمأنينة المفقودة.
ومن الملاحظ أن بعضهم يعمدون إلى تزيين صورهم بأبيات شعرية مستوحاة غالبا من كلمات الأغاني والأفلام وتعبّر عما يعتمل في نفوسهم من تطلّعات وأحلام.
احدهم، مثلا، ذيّل لوحته بكلمات ذات مغزى تقول: نمشي على طريق طويل. ويتعيّن علينا أن نقطع مسافات بعيدة. الجوّ رياح ومطر وثلج. وأنا أسالك عمّا نريد كلّنا أن نعرفه: إلى أين نحن ذاهبون من هنا؟! نمشي هذه الدروب عبر مرايا الزمن. نحتاج مساحات لأحلامنا كي نغوص إلى أعماق تخيّلاتنا. اعرف أننا سنصل قريبا. فكلّ شيء ممكن. ولا نحتاج لأن نختبئ خلف ما هو خفيّ وغامض".
وكتب آخر: اشعر بأن العالم يتغيّر الآن ولن يقف احد في طريقنا. سأذهب إلى حيث يأخذني قلبي. استطيع أن افعل كلّ شيء. روحي قويّة، ولا احد يمكنه أن يعيقني أو يثنيني عن الوصول إلى ابعد نجمة في السماء. الريح والنور سيقوداني آلاف الأميال عبر المحيطات وملايين السنين عبر السموات. هل تستطيع أن تظلّ حيّا بينما أنت ضائع في البحر"؟!
وكتب ثالث قائلا: الليل بارد والسماء مليئة بالنجوم. كلّ شيء ساكن. لا توجد روح تتحرّك في ليل الغابات. فقط حارسة النهر التي تتجوّل وحيدة الآن. تبحث عن الشيء الوحيد الذي فقدته: البلّلورة السحرية التي كانت تحمي عالمها. هي تعلم أنها ستجدها إن عاجلا أو آجلا في وسط العاصفة الثلجية عندما تغفو النجوم في أحضان الليل".
ازدهار الصور الرقمية على الانترنت يمكن أن يرقى إلى مستوى الظاهرة. غير أن كثيرا من تلك الصور لا تعدو كونها مجرّد أحلام مشوّشة وتهويمات غائمة تفتقر إلى عنصر الالتزام والرغبة الواضحة والأكيدة في تغيير قيم واشتراطات الواقع.
فنّانو الرومانسية الرقمية الحديثة يبدعون صورا جميلة تناسب الجميع. وهم يتطلّعون إلى اللانهائية والحلم ويتوقون، ولا شكّ، إلى عالم أفضل. غير أنهم يبدون، من خلال صورهم، أناسا مسالمين ومستسلمين للواقع، بل وربّما مستعدّين للتعايش معه. ومن الواضح أنهم، خلافا للرومانسيين القدامى، لا يسعون إلى إغضاب احد ولا إلى التمرّد على المجتمع أو على المؤسّسات التي أسهمت في خلق هذا الواقع ودفعتهم لأن يضيقوا به ويفضّلوا عليه عالما مثاليا من صنع خيالاتهم وأوهامهم.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .