:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 14، 2024

على خُطى بابَر


تُوصف مذكّرات ظهير الدين محمّد، المعروف بالسلطان بابَر (1483-1530)، بأنها إحدى أكثر السير الذاتية شهرةً في الأدب العالمي. وتكشف تلك المذكّرات أن بابر لم يكن مجرّد محارب بارع، بل كان أيضا مثقّفا وشاعرا وفنّانا ومتذّوقا لجمال الطبيعة.
المؤرّخ ويليام دالريمبل كتب مقدّمة للطبعة الأخيرة من مذكّرات بابر، مؤسّس سلالة المغول في الهند وأوّل إمبراطور لها. هنا ترجمة مختصرة لبضع فقرات مختارة منها.

❉ ❉ ❉

في مطلع القرن السادس عشر، بدا العالم الإسلامي مختلفا تماما عمّا كان عليه في أيّام عصره الذهبي. كانت الخلافة العباسيّة في بغداد قد انهارت بعد أن دمّرها المغول. ولم تعد إسبانيا الإسلامية موجودة إلا في الذاكرة بعد سقوط آخر معقل عربي في غرناطة قبل ذلك بقرن. ولم تعد مصر موطنا للفاطميين، بل أصبحت الآن تحت سيطرة سلالة من الجنود العبيد تُسمّى المماليك. كما سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين الذين احتلّوا أوروبّا الشرقية. وكانت إيران قد وقعت للتوّ تحت حكم سلالة شيعية تُعرف باسم الصفويين.
في حوالي ذلك الوقت، وبالتحديد في عام 1526، هبط ظهير الدين بابر، وهو أمير تيموري شابّ من فرغانة، فيما يُعرف الآن بأوزبكستان، عبر ممرّ خيبر بمرافقة جيش صغير من الأتباع المختارين. وقد أحضر معه بعض البنادق والمدافع الحديثة التي لم يشاهد الناس مثلها في الهند من قبل. وباستخدام هذه البنادق هزم بابر السلطان إبراهيم لودي في دلهي. وفي دلهي وأغرا أقام أساسَ ما سيصبح فيما بعد إمبراطورية المغول.
ولم تكن هذه أوّل غزوة يقوم بها بابر. فقد أمضى معظم شبابه بلا عرش، وكان يعيش مع رفاقه من يوم لآخر، يسرقون الأغنام والطعام. وفي بعض الأحيان كان يستولي على بلدة. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما استولى على سمرقند لأوّل مرّة واحتفظ بها لأربعة أشهر.
ولكن في أغلب شبابه، عاش بابر كقاطع طريق وتجوّل لسنوات في آسيا الوسطى في خيمة مشرّداً محروماً. وقد كتب في مذكّراته يقول: خطرت بذهني فكرة مفادها أن التجوال من جبل إلى جبل، بلا مأوى أو حيلة، لا يستحقّ كلّ هذا العناء".
توفّي بابر عام 1530، بعد أربع سنوات فقط من وصوله إلى الهند، وقبل أن يتمكّن من تعزيز فتوحاته الجديدة. كان يعتبر نفسه فاشلاً لأنه فقدَ أراضي عائلته في فرغانة، ولم يكن لديه أدنى فكرة عمّا إذا كانت فتوحاته الهندية الجديدة آمنة أم لا.
وربّما يتذكّر التاريخ بابر باعتباره أوّل إمبراطور مغولي، لكنه كان في عين نفسه لاجئاً على الدوام. وفي أواخر حياته، أمضى أيّامه في كتابة وصقل وتحرير أحد أعظم كتب المذكّرات في العالم، الذي تذكّر فيه كلّ ما فعله وكلّ ما فقده أيضاً. وعندما أعدت قراءة مذكّراته، كان من المدهش كيف أنه على الرغم من فوزه بالكنوز والطبيعة الرائعة في الهند، إلا أن بابر ظلّ يندب وطنه المفقود في فرغانة، وهو المكان الذي أصبح اليوم منسيّاً إلى حدّ كبير، ولكن بابر كان يتذكّره دائماً باعتباره جنّة أرضية.
في فقرة تلو أخرى، يصف بابر، بلهفة وتوق، الأشياء التي أحبّها في فرغانة والتي اشتاق إليها وهو يكتب في المنفى الهندي: صباحات الربيع التي كان يقضيها وسط التلال المزيّنة بالبنفسج البرّي والزنبق والورود، المياه الجارية الباردة التي تمرّ عبر مروج البرسيم المظلّلة والمبهجة حيث يستريح كلّ مسافر عابر، الحدائق الصغيرة والجميلة الممتلئة بأشجار اللوز، الرمّان المشهور بجودته، الصيد الوافر والطيور، طيور الدرّاج التي تكبر بشكل مدهش لدرجة أن الشائعات تقول إن واحدا منها يمكن أن يشبع أربعة أشخاص.
منذ وقعتُ في حبّ بابر لأوّل مرّة، عندما قرأته في سنّ الثامنة عشرة أثناء زيارتي الأولى للهند، كنت أتساءل دائما عمّا حدث لوادي فرغانة الذي وصفه بابر بكلّ هذا الحبّ في مذكّراته. كانت الروايات مختلطة. وعندما بدأت في جمع معلومات عن المكان في نهاية الثمانينات، أخبرني المسافرون الذين زاروا المنطقة أنني تأخّرت كثيراً، وأن المنطقة تضرّرت بشدّة لأسباب، من أهمّها تحويل السوفييت الوادي إلى مركز لصناعة القطن في آسيا الوسطى.
وفي الربيع الماضي، قمت بأوّل زيارة لي إلى أوزبكستان. وعند وصولي إلى طاشكند، لاحظت تسارع عملية نزع الطابع الروسي عن البلاد. وكانت الشوارع الواسعة ومباني الشقق الشاسعة التي تصطفّ على جانبيها من بين آخر علامات النظام السوفييتي القديم. وقد لفت انتباهي الشغف الوطني المستمرّ بالفودكا، وهو أمر مفاجئ في بلد مسلم. وكان التلفزيون مليئا بالمسلسلات الهزلية التركية والدراما العثمانية، ومن بينها مسلسل "قيامة أرطغرل".
الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزاييف أطلق برنامجا للإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، فأمر بتحرير السجناء السياسيين وبدأ خططا للقضاء على الفساد وتحسين الخدمات الحكومية وتحرير الاقتصاد وجذب الاستثمار الأجنبي.
كان التباين صارخا مع عالَم سلفه إسلام كريموف، أحد أكثر المستبدّين وحشيةً في آسيا الوسطى. ويمكنك رؤية النتائج في كلّ مكان حولك في شوارع طاشكند. فالطرق الآن مليئة بالسيّارات اليابانية والكورية، والبيرة معروضة للبيع في الحانات، والعشّاق الذين يرتدون ملابس أنيقة يُمسكون بأيدي بعضهم البعض تحت أشجار الكازوارينا. وفي نهاية عام 2019، أطلقت مجلّة الإيكونوميست على أوزبكستان لقب "بلد العام". وكان ذلك إنجازا كبيرا لدولة كانت في الماضي كثيرا ما تجد نفسها في أسفل التصنيفات الدولية من ناحية الفساد والحكم وحقوق الإنسان.
ولكن ماذا عن فرغانة؟ كنت مصمّما على معرفة ما الذي حدث للوادي الذي وصفه بابر بأنه "أقرب مكان على الأرض شبَها بالجنّة السماوية". فتفاوضتُ مع سائق سيّارة أجرة لأخذي الى هناك. كان الوصول إلى الوادي يبدأ من السهوب المحيطة بطاشكند عبر طريق يمرّ بعدد من المصانع ومحطّات الطاقة وأبراج الكهرباء المصطفّة عبر مراعي السهوب والساحات شبه المهجورة. وكانت هناك لمحات عارضة لحقول بيضاء ميّتة قتلتها الملوحة بسبب الريّ الجائر لزراعة القطن السوفييتي. ولكن بعد ساعة، انحرف الطريق السريع بشكل حادّ إلى الجبال، وبدأ في الصعود متعرّجا إلى أعلى عبر ما أصبح مروجا خضراء.
وكانت جوانب الطرق مليئة بأشجار الصفصاف والزنبق البرّي المحاطة باللون الأبيض المبهر للقمم الثلجية التي ترتفع عن بعد. وبينما كنّا نصعد، امتدّت سماء آسيا الوسطى الشاسعة، محاطة بقمم جبال تيان شان. وفي الجزء العلويّ من الممرّ، مررنا بـ "ظلّ المطر"، وهي صحراء مرتفعة، ثم هبطنا على الجانب البعيد إلى أرض عشبية يابسة. ثم فجأة، ازدهرت السهوب في أسفل المنحدر. وخلف الحقول الخضراء الأولى من القمح الربيعي الغنيّ، رأينا سواقي الريّ المتدفّقة والموحلة بالثلوج الذائبة حديثا من جبال البامير القرغيزية.


وخلف هذه الحقول المحاطة بقمم ثلجية متعرّجة، تقع سلّة الفاكهة الخصبة لوطن بابر الحبيب. وأيّا كان الحال قبل 30 عاما، لا يمكن رؤية أيّ مصنع قطن الآن. وعاد وادي فرغانة إلى حالته كجنّة عدن المرتفعة التي كانت في زمن بابر. وبينما كنّا نقود السيارة على طول شوارع أشجار الحور، كانت المروج المليئة بأزهار الخشخاش تحيط ببساتين التفّاح والتوت والمشمش واللوز.
وعلى الأرض المرتفعة عند حافّة الوادي، لاحت لنا بعض مزارع الكروم. وبجوار بعض قنوات الريّ الأكبر حجماً، كان الرجال يجلسون متربّعين حول أوانٍ خشبية وهم يحتسون الشاي. وكانت قطعان الأغنام ذات الذيول السمينة ترعى وسط المروج تحت حراسة النساء اللاتي يرتدين سترات من المخمل. وكانت الحمير تستريح على جانب الطريق. وألقى رجل عجوز ذو أسنان ذهبية بخيط صيد من فوق جسر. وذكّرني ذلك بكشمير أو ربّما بسهل "شومالي" في أفغانستان.
إن قراءة كتاب بابر عن جمال حدائق فرغانة لا تزال تثير صدى ومتعة في القرن الحادي والعشرين، كما كانت في القرن السادس عشر. وأثناء قيادتنا للسيّارة، أخرجتُ كتاب "بابر ناما" وأعدت قراءة القسم الأوّل، الذي يصف فيه السلطان أيّام شبابه الأولى في هذا الوادي. وأذهلتني مرّة أخرى نضارة كتابته. فهو يعترف لنا طوال الوقت بثقته بنفسه بينما يتساءل باستمرار عن العالم من حوله. ومن عدّة وجوه فإن هذا النصّ حديث وغريب ويكاد يكون بروستيّا "نسبة الى بروست" في وعيه الذاتي. كان هذا الكتاب بمثابة تذكير لنا بأن بعض الأشياء تتغيّر من عصر إلى عصر، ولكن الكثير منها يظل عالميّا.
كانت الخضرة تشتدّ كلّما توغّلنا في الوادي. وكانت تعرّجات نهر "سير داريا" الكبير الذي عبره الإسكندر الأكبر تمتدّ إلى الأمام خلف الحقول. وعلى الجانب البعيد، فوق ضفاف النهر مباشرة، كانت ترتفع الجدران الطينية المتآكلة والشديدة الانحدار لأعظم حصن في فرغانة كان يحمي عاصمة الوادي القديمة "آخسيكاث".
ووصلنا إلى القلعة الأصلية لسلالة بابر ومركز رغباته في المنفى. كنت أخشى أن يكون السلطان قد بالغ في وصف جمالها. لكن بابر كاتب صادق ويمكن الاعتماد عليه، حتى عندما يكتب عن وطنه المفقود. كانت الشمس تغرب خلف قمم الثلوج، فتحوّلت الجدران الطينية الضخمة في "آخسيكاث" إلى اللون الأحمر الساطع المذهل في ضوء النهار الأخير. وفي الأسفل، بين أكوام القصب، كانت طيور الماء ترفع أصواتها بالتغريد. ولم يكن هناك أحد حولها. لقد دُمّرت المدينة وهجرها ساكنوها بسبب زلزال كبير ضربها عام 1621. لكن حتى في حالة الخراب الكامل، ما يزال بوسعك أن تشعر بعظمة وقوّة هذا المكان في أيّام مجده التيموري.
بعد بضعة أيّام، وجدت نفسي في قرية جعلتني أقرب إلى بابر من أيّ مكان آخر رأيته في آسيا الصغرى. كنت أتجوّل في سمرقند، ورغم أنها كانت رائعة، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالضرر الناجم عن الانفصال الثقافي الذي لا يمكن إصلاحه والذي أحدثته الإمبريالية الروسية في القرن التاسع عشر ثم الماركسية السوفييتية. فلم تعد المدارس الدينية والمساجد القديمة تعمل كأماكن للعبادة أو التعلّم. ولكن قيل لي إن هناك، على مسافة ما خارج المدينة، قطعة أثرية تيمورية رائعة نجت من السوفييت، وهي مجموعة من الآثار التي تعود إلى طفولة بابر وتقع في وادٍ جميل على نهر.
وفي صباحي الثاني في سمرقند، تخلّينا عن المجموعات السياحية وانطلقنا بمفردنا إلى الريف. وفي أعلى الممرّ الذي يفصل سمرقند عن عاصمة تيمور العظيمة الأخرى، شهرسبز، توقّفنا لتناول الغداء، وهو عبارة عن خبز نان وأسياخ لحم مشوي، مع التوت البرّي ونوع من الرافيولي التركي. وقُدّم الطعام بجوار نبع جبليّ متدفّق على أرائك خشبية في ظلّ أشجار الحور. هنا كلّ الأشياء التي كان يشتاق اليها بابر: الحدائق الظليلة والجداول الصافية والزنبق البرّي والمناظر الطبيعية الجبلية الباردة، مع إطلالات على الوديان في الأسفل.
واصلنا رحلتنا على طول المنعطفات، مروراً بالنساء اللاتي قدّمن لنا جبن الماعز الحامض المخمّر والفستق وزجاجات عصير البطيخ، مع حِزم الراوند التي يزعمون أنها جيّدة لضغط الدم. ثم توقّفنا للتزوّد بالوقود وتساءلت: في أيّ مكان آخر من العالم يدعوك عمّال محطّات الوقود لتناول كوب من الشاي؟!
بعد عشرين ميلاً من شهرسبز، انعطفنا نحو وادٍ أخضر جميل باتجاه كاتا لانجار. كانت قطعان الماعز ترعى في المروج والنسور تحلّق في السماء. وفي نهاية الوادي، على تلّة مرتفعة، رأينا ما أتينا من أجله: ضريح الشاعر الصوفي النقشبندي التيموري الشيخ محمّد صادق، الذي كان معاصرا لبابر.
كان قبره الرائع محاطا من جميع جوانبه بأشجار كثيفة توفّر الظل. ولم يكن هناك سوى ثلاث نساء مسنّات يرتدين المآزر. وقد سجدن ثم استدرن إلى الخلف وهنّ ما زلن يواجهن قبر الوليّ. وفي الداخل وجدنا حارس الضريح، أبا الحسن. كانت له لحية بيضاء وكان يرتدي "شاباناً" أفغانيّا من الحرير المخطّط الجميل يعلوه غطاء أوزبكيّ صغير متعدّد الأضلاع.
وسألت أبا الحسن عمّن يأتي الى هنا، فأجاب: الناس يأتون من كلّ مكان لزيارة الضريح، أوزبك وأفغان وأتراك وهندوس وعرب وحتى أوروبيون. الجميع يأتون، وخاصّة يوم الخميس. والعديد من الناس يُشفون من الأمراض، والنساء العواقر يحملن، والفقراء يجدون قوت يومهم".
سألته وأنا أفكّر في المدارس الدينية والأضرحة الميّتة التي رأيناها في اليوم السابق في سمرقند: كيف نجا هذا الضريح من السوفييت؟" فقال: لم يحدث ذلك هنا، لقد أغلق السوفييت هذا المكان تماما. وخلال الحقبة السوفييتية كنّا نصلّي على قمم الجبال ونقرأ القرآن سرّاً. وكان من المحظور أن يكون عندك قرآن في ذلك الوقت. وإذا وجدوا واحدا، فإنهم يضعونك في السجن".
وأضاف: إننا نتذكّر كلمات الشيخ صادق كلّما صلّينا هنا. ولا يرتاح قلبي الا بالذكر. هل ترغب في الاستماع؟" وبدأ أبو الحسن في الغناء وفعل ذلك من كلّ قلبه وملأ غرفة الضريح بترنيمة قويّة وجميلة من الأوتار الثانوية، ارتفعت إلى ذروتها ثم تراجعت برفق مرّة أخرى. فعلَ ذلك ويداه مجوفّتان وعيناه مغمضتان، غارقاً في الدعاء. وفي الخارج، تناهت إلى أسماعنا أصوات الطيور وهي تغرّد وسط الورود وأزهار التوت واللوز.

Credits
williamdalrymple.com

الجمعة، ديسمبر 13، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • الوالد المَرْوَحي helicopter parent ، مصطلح يُطلق على الآباء الذين يكونون شديدي الانتباه وخائفين فوق اللزوم من تجارب أطفالهم ومشاكلهم، وخاصّة خارج المنزل وفي المؤسّسات التعليمية. ويطلَق على الوالدين هذا الوصف "أي المروحي" لأنهم يشبهون الطائرات المروحية او الهيليوكوبتر، فهم يحومون في الأعلى ويُشرفون على كلّ صغيرة وكبيرة تخصّ ابنهما، سواءً في المدرسة او الجامعة أو في أنشطة الحياة الاجتماعية الأخرى.
    ومصطلح "الوالد المَرْوَحي" أصبح متداولا منذ أواخر الثمانينات وتوسّع استخدامه في مستهلّ القرن الحالي، حيث يتّصل الآباء بمعلّمي أبنائهم مرارا لسؤالهم عن درجاتهم وانتظامهم وما الى ذلك. ويحدث أحيانا أن الآباء الحريصين كثيرا ما يستمرّون في متابعة ودعم أبنائهم حتى على مستوى الدراسات العليا، فتجدهم مثلا يصرّون على قبولهم في هذه الكلّية او تلك، بصرف النظر عن المعايير او الاستحقاق.
    هذا الأسلوب المفرط في التربية ينبع غالبا من قلق الوالدين من تعرّض أطفالهم للأذى أو من تعطّل نموّه. ويقول خبراء التربية ان مشاركة الوالدين في حياة الطفل قد تكون مفيدة للغاية لأنها تساعد على تفوّقه أكاديميّا وعاطفيّا وتعينه على بناء علاقات أفضل مع أقرانه. لكن تبيّن أن التسلّط الأبوي له آثار ضارّة على حياة المراهقين، لأنه يعيق النموّ المعرفي والعاطفي للطفل، في حين أنه من الضروري أحيانا أن يفشل الأطفال ويتعلّموا من أخطائهم من خلال التجربة والخطأ.
    وفي بعض الحالات كثيرا ما يواجه أطفال الآباء المروحيين مشاكل في التفاعل مع أقرانهم، لأنهم ببساطة لا يقدّرون التعايش الاجتماعي بسبب أنانيتهم وافتقارهم للثقة، نتيجة الحرص الزائد لوالديهم.
  • ❉ ❉ ❉

  • هذه اللوحة اسمها "تحيّة إلى يوهان سيباستيان باخ" للرسّام التكعيبي الفرنسي جورج براك. وهي لوحة ذكيّة من عدّة نواحٍ، بما في ذلك توقيع براك نفسه الذي ضمّنه الصورة وكأنه إشارة بارعة إلى التشابه بين لقب عائلته "براك" ولقب الموسيقيّ الباروكي الشهير.
    المعروف أن براك كثيرا ما كان يضمّن لوحاته صورا لآلات موسيقية أو إشارات إلى الموسيقى، وكان هو نفسه موسيقيّا موهوبا يعزف على الكمان والفلوت والأكورديون. لذا ليس من المستغرب أن يكرِّم من خلال هذه اللوحة أحد أعظم الموسيقيين، والذي كان ملحّن براك المفضّل.
    أبتكر براك مع بيكاسو أسلوبا في الرسم أصبح يُعرف بالتكعيبية التحليلية. وفيها تكون المساحة مضغوطة وتُختزل الألوان إلى البنّي الفاتح والرمادي، ولا تظهر التفاصيل التي يمكن التعرّف عليها إلا في لحظات عابرة.

  • سبق لبراك أن عمل في عدد من المهن التي تعلّم منها بعض التقنيات التي استخدمها لاحقا في فنّه، مثل تأثير حبيبات الخشب الوهمية الذي يظهر في الجانب الأيسر السفلي من اللوحة.
    تقول مونيكا باون إن المؤلّفات الموسيقية المتعدّدة الأصوات لباخ، والتي تقدّم الزخارف الموسيقية السائدة من خلال طبقات مختلفة من الآلات والأصوات، تتوازى مع الطريقة التي تقدِّم بها اللوحات التكعيبية نفس الأشياء من خلال مجموعة متنوّعة من الأفكار المجزّأة. كما تتوازى الابتكارات المختلفة لباخ مع الطريقة التي سعى بها براك إلى إنشاء أشكال مختلفة من المواضيع المتشابهة طوال حياته المهنية. وقد لاحظ أحد النقّاد أن نسج الأصوات معا في "فيوكاتfugues " باخ يعطي إحساسا بالبنية والخطوط والهندسة المعمارية في لوحة براك.
    وتضيف أن براك كان يعتقد أن الآلات الموسيقية تضيف بُعدا ملموسا للصورة المرئية. وكان يرى أن السمة المميّزة للآلة الموسيقية ككائن هي أنها تنبض بالحياة عند لمسها. وربّما شعرَ، مثل أيّ رسّام، بانفصال عن لوحاته لأنه لا يلمسها مباشرة في عملية الإبداع بالنظر الى أنه يستخدم فرشاة الرسم. وبهذه الطريقة، يمكن للموسيقى أن تسدّ هذه الفجوة الماديّة. لكن يبدو أن الموضوع الموسيقيّ يضيف طبقة إضافية من التجربة، هي تجربة السماع، التي تتجاوز الاستكشافات المكانية للتكعيبية.

    ❉ ❉ ❉

  • تقول أكاديمية أمريكية متخصّصة في التاريخ: لسنوات طوال، كنت أبدأ درس التاريخ الأمريكي بسؤال الطلاب: ما اسم الرجل الذي يقال إنه اكتشف أميركا؟". أحيانا يعترض بعض الطلاب على كلمة "اكتشف"، لكنهم جميعا يعرفون الرجل الذي أسأل عنه. "كريستوفر كولومبوس!".
    ثم أسأل: حسنا، من وجد عندما جاء إلى هنا؟". وعادة ما يجيب بعض الطلاب: الهنود". ثم أطلب منهم أن يذكروا بعض أسمائهم، فيكون الجواب الصمت. إننا جميعا نعرف اسم الرجل الذي جاء إلى هنا من أوروبّا، لكن لا أحد منّا يعرف أيّا من اسماء الأشخاص الذين كانوا هنا أوّلاً، وكان هناك مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين منهم. لماذا لا نسمع عنهم؟ هذا الجهل هو من صُنع التاريخ الذي يفرض الصمت، وهو ما يجعل حياة وقصص شعوب بأكملها غير مرئية وغير معلومة.
    وتقول أكاديمية أمريكية من قبيلة شايان الأصلية: بصفتنا شعوباً أمريكية أصلية تعيش في هذا المكان من الأرض، ليس لدينا أيّ سبب للاحتفال بغزو تسبّب في هلاك العديد من أبناء شعبنا، ولا يزال يتسبّب في الدمار حتى اليوم. في نهاية المطاف، لم يكتفِ كولومبوس بـ"الاكتشاف"، بل استولى على السلطة. فقد اختطف شعب التاينو واستعبدهم. كما أصدر أمرا بقطع أيديهم ومطاردتهم بالكلاب الشرسة إن فشلوا في تسليم حصّة الذهب التي طالب بها".
    وتضيف: لم تتضمّن الكتب المدرسية للشركات والسير الذاتية للأطفال عن كولومبوس أيّاً من هذا، بل كانت مليئة بالمعلومات المضلّلة والتشويه. ولكن المشكلة الأعمق كانت في النصّ الفرعي لقصّة كولومبوس. فقد أصبح أمرا جائزا وعاديّا أن تتنمّر الدول الكبرى على الدول الصغيرة وأن يهيمن البيض على الملوّنين، وأن يُحتفَل بالمستعمِرين دون الاهتمام برأي المستعمَرين، وأن يُنظر إلى التاريخ من وجهة نظر المنتصرين فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • لم يكن الفيلسوف الروماني شيشرون (106 - 44 قبل الميلاد) يعرف شيئا عن التسويق. لكن لو تمعنّا في أحد أقواله المشهورة، فسنعرف عنه فكرة مختلفة. فممّا يُنقل عنه قوله: إن كنتَ تريد إقناعي، فيجب عليك أن تفكّر بأفكاري وتشعر بمشاعري وتتحدّث بكلماتي".
    ولو حلّلنا هذا الكلام، فسندرك أن شيشرون يلعب هنا دور العميل أو الزبون ويتحدّث إلى البائع أو المسوّق. فهو يقول: إن كنت تريد إقناعي"، ولا يقول إبلاغي أو نصحي، ولكن جعلي أقتنع. ثم يقول "فيجب عليك"، وهذا جزء إلزامي وليس اختياريّا. وهو الطريقة الوحيدة المجدية. ثم: فكّر بأفكاري"، أي يجب أن تعرف ما يحدث في عالمي وكيف أنظر الى الأمور. ثم أن "تشعر بمشاعري"، أي أن تأخذ الأمر أبعد من ذلك، فتعرف ما يهمّني وما أريده وما أخشاه.
    ثم أن "تتحدّث بكلماتي"، أي أن تستخدم اللغة التي أفهمها وأعرفها، لغة جيلي ومهنتي وصناعتي، ولا تستخدم مصطلحات تقنية ولا اختصارات. لو أن كلّ مسؤول مبيعات دوّن هذه الحكمة الرائعة على بطاقة وتصرّف بناءً عليها في كلّ مرّة يتواصل فيها مع العملاء أو مع السوق، فإن مستوى أدائه لأعماله سيتحسّن كثيرا وسينعكس هذا على أداء ومكانة المنظّمة او الشركة ككلّ.

  • Credits
    georgesbraque.org
    albertis-window.com

    الأربعاء، ديسمبر 11، 2024

    أميرة إشبيلية


    حكَمَ المعتمد ابن عبّاد إشبيلية خلال فترة ملوك الطوائف في القرن الحادي عشر، عندما ظهرت ممالك صغيرة متنافسة بعد انهيار الحكومة الأموية المركزية. وكان والد المعتمد، أي المعتضد، رجلا طموحا عاش حلم إعادة توحيد الأندلس تحت الحكم العربي وخاض حربا ضدّ خصومه من الطوائف على أمل تحقيق ذلك. والمؤرّخون يصفونه بأنه أكثر الحكّام شجاعة وهيبة في عصره ويشبّهونه بالخليفة العبّاسي الكبير أبا جعفر المنصور.
    كان المعتمد أرقّ من والده كثيرا ومثله في الوسامة. كان ملكا مدلّلا ومحبّا للحياة المترفة. وفي حدائقه الشاسعة حيث تتفتّح أزهار الربيع الرائعة، كان المعتمد يقضي ساعات طوالا يلعب الشطرنج مع رفيق شبابه الماكر الشاعر الوزير ابن عمّار.
    وقد لفتت هذه اللعبة التي جلبها العرب إلى أوروبّا انتباه المسيحيين. وذات يوم، لعبها ألفونسو السادس القشتالي الذي كان شغوفا بالشطرنج مع ابن عمّار في خيمته خارج إشبيلية. وكان الاثنان قد اتفقا على أن من حقّ الفائز أن يُملي على المنهزم شرطه. وقد فاز ابن عمّار بفضل براعته في هذه اللعبة، وطلب من الملك المسيحي التقاعد وأعطاه أجمل مجموعة شطرنج على الإطلاق.
    وعندما بدا أن الأمور قد استقرّت، بدأ ألفونسو السادس مرّة أخرى في تهديد مدينتي قرطبة وإشبيلية الجنوبيتين. وشعر المعتمد، الذي كان صاحب أملاك كثيرة في الأندلس، بالإحباط من مندوبي ألفونسو ولم يقبل الإذلال. فطردهم قائلاً بغضب: لم يعد بإمكاني تحمّل طغيان هؤلاء المسيحيين الأوغاد". وفي محاولة لإنقاذ سمعته، أقسم ألفونسو السادس يمينا مغلّظا وصاح: سأدمّر ممتلكات الكفّار بمحاربين كثيرين كشعر رأسي ولن أتوقّف حتى أصل إلى مضيق جبل طارق". وردّ المعتمد، الذي غلب عليه الكبرياء، بأنه سيعاقب جشع ألفونسو بالسيوف الشرسة للمرابطين.
    كان المعتمد يدرك أن قوّته لم تكن كافية، وكان يخشى الخضوع للملك المسيحي أكثر من أيّ عار آخر. وفي مجلس عُقد لمناقشة الأمر، نصح أمراء إشبيلية المعتمد بالاتصال بملوك شمال إفريقيا من العرب، لكنه رفض على أساس أنهم ليسوا أقوياء بما يكفي. وأعلن صراحةً أنه سيستدعي أمير المرابطين الزاهد يوسف ابن تاشفين.
    وأدرك من حوله، بمن فيهم ابنه ووليّ عهده المأمون، خطورة جلب البربر من الصحراء إلى جنّات الأندلس. وردّ عليهم الملك بعبارته المشهورة: لأن أرعى الجِمال عند ابن تاشفين في الصحراء خير لي من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو في قشتالة!".
    كانت حركة المرابطين تتألّف من رجال قبائل بربرية من شمال أفريقيا وكانوا جميعهم متشدّدين في التزامهم بالإسلام. وكانت هذه المجموعات قد غزت شمال أفريقيا وزحفت إلى عمق غرب القارّة واستولت على غانا.
    المؤرّخون يصفون ابن تاشفين بأنه كان رجلا أسمر البشرة وذا قوام متوسّط ولحية خفيفة. وقد استجاب يوسف لنداء المعتمد، وحين هبط إلى أرض الأندلس، قال: لقد جئنا إلى هنا لإنقاذ الإسلام وسنضطرّ إلى محاربة عدوّ متجبّر. أما الخائفون منكم فهم أحرار في العودة إلى ديارهم".
    وبالفعل هزمت الجيوش العربية الأفريقية المشتركة ألفونسو السادس في معركة الزلّاقة المشهورة، والتي خلّدها المعتمد نفسه في قصيدة وصف فيها يوسف بأنه "حامي حمى المسلمين من الكفّار":
    ولولاك يا يوسفُ المتّقى : رأينا الجزيرةَ للكفرِ دارا
    رأينا السيوفَ ضحىً كالنجومِ : وكالليلِ ذاك الغبارَ المُثارا


    وقد دعا المعتمد يوسف لتناول العشاء في قصره الفخم على سبيل الكرم. وكان يوسف، الذي عاش حياة متواضعة، ينظر بازدراء إلى ثراء البلاط، بينما كانت النخبة العربية وشعراء القصر يفتخرون بأخلاقهم الأنيقة وثقافتهم الراقية. وعندما تغنّى أحد الشعراء بمديح يوسف، لم يفهم الأخير شيئا. وفي حادثة أخرى، نظر يوسف باحتقار إلى رسالة بليغة من المعتمد ثم صاح: ماذا يطلب هذه المرّة؟!" وقبل أن يغادر إشبيلية، جال الأمير المتديّن يوسف بنظره على الجنان الفخمة والرياض الخضراء والمياه المتدفّقة، وربّما تذكّر في تلك اللحظات بعض أبيات الشاعر ابن خفاجة التي يصف فيها جمال طبيعة الأندلس:
    يا أهلَ أندلسٍ لله درّكمُ : ماء وظلَ وأنهار وأشجارُ
    ما جنّة الخلد إلا في دياركمُ : ولو تخيّرت هذا كنت أختارُ
    لا تحسبوا في غدٍ أن تدخلوا سقراً : فليس تُدخلُ بعد الجنّة النارُ
    لم يكن وصول يوسف باعثا على سرور الكثيرين، بل إن وليّ العهد المأمون كان يخشى أن يؤدّي تدخّل البربر الى تهديد سلطة بني عبّاد. كانت الأحداث تتوالى بسرعة، وتحوّلت مخاوف المأمون إلى حقيقة، فقد غيّر يوسف موقفه من العرب وقرّر شنّ حرب ضدّهم. وذهبت جهودهم في الدفاع عن مدينتهم أدراج الرياح. ومع حصار المرابطين لقرطبة المزدهرة، أرسل الأمير المأمون زوجته الحبيبة "زائدة" برفقة أبنائهما إلى قلعة ألمودوڤار القريبة التي بناها الأمويون بعد فترة وجيزة من وصول أوّل أمير لاجئ إلى إسبانيا هرباً من الاضطهاد العبّاسي.
    وقد غدر المرابطون بأبناء المعتمد، الراضي أمير رُندا والمأمون أمير قرطبة. فبعد أن وعدوهم بالأمان، نهبوا المدينتين بمجرّد فتح بوّاباتهما. وواصل المأمون الدفاع عن قرطبة وقاتل بشجاعة البربر الملثّمين حتى قتلوه. ثم قطعوا رأسه ووضعوه على رمح وطافوا به شوارع المدينة. ومع بدء وصول أخبار هذه الأحداث المزعجة إلى إشبيلية، كان المعتمد على يقين من أن نفس المصير ينتظر مدينته.
    وبعد فترة وجيزة، هاجم المرابطون قصر المعتمد، درّة الجمال الأندلسي، فقتلوا الرجال واختطفوا النساء، ومن بينهن ابنة المعتمد نفسه الأميرة بثينة التي بيعت في سوق الرقيق. كما أُسر المعتمد نفسه وزوجته اعتماد الرميكية وأُرسلا إلى المنفى في أغمات بالمغرب.
    في قلعة ألمودوڤار، كانت "زائدة" زوجة المأمون تنتظر وصول أميرها سالما. وفي احدى الليالي شعرت بأن شيئا ما لم يكن على ما يُرام. كانت تنظر من الشرفة وتتطلّع طويلاً في الأفق. ثم رأت في الحلم حصانا أبيض يركض بلا فارس باتجاه قلعة ألمودوڤار. ولم تلبث أن علمت أن زوجها قُتل في المعركة. فهربت وهي بحال من الصدمة والانكسار مع أبنائها طالبةً حماية ألفونسو السادس. وعندما رآها الملك المسيحي فتنه جمالها وسمح لنفسه بالانجراف وراء عاطفته. والتزمت زوجة ألفونسو الصمت بشأن تودّد زوجها الى الأميرة العربية.
    وبعد أن ترمّل ألفونسو إثر وفاة زوجته، قرّر الزواج عن حبّ متجاهلاً انتقادات النبلاء والنظام الديني. ولتجنّب الخلاف في البلاط، عُمِّدت زائدة وأصبح اسمها "إيزابيل". وقد كرَّم ألفونسو الأمراء العرب ومنح كلا منهم لقب "كونت". وجلبت هذه العلاقة السعادة لألفونسو السادس والوئام والتعايش بين المسلمين والمسيحيين. وأنجبت له زائدة وريثا للعرش هو الأمير سانشو الذي كان ثمرة اتحاد فريد من نوعه بين الثقافتين القشتالية والعربية.
    ووفقا للأسطورة، احتفظت الملكة زائدة بإيمانها الإسلامي سرّاً وأدخلت الكثير من العادات العربية إلى بلاط قشتالة. ومن جهته، تبنّى ألفونسو العديد من التقاليد الإسلامية وارتدى الرجال في بلاطه ملابس على الطراز العربي. وكانت العملات المعدنية التي سُكَّت آنذاك تشبه كثيرا عملات المسلمين، بل حتى الدين المستعرب في طليطلة بدا وكأنه نسي اللاتينية واستبدلها باللغة العربية.
    وإلى اليوم، ما تزال قلعة ألمودوفار المهيبة (والتي يعني اسمها "المُدوّر" بالعربية)، والواقعة في قلب نهر الوادي الكبير، تُذكّر زوّارها بأمجادها الغابرة. ففي كلّ عام، يقام مهرجان زوكو دي لا إنكانتا (أي السوق السحري) لإحياء ذكرى أسطورة هذه القلعة. وعلى أنغام الأغاني، تمشي الأميرة "زائدة" بقدميها النحيلتين على الأشياء العزيزة على قلب الشرق؛ الكافور والمسك وماء الورد، بينما يراقب زوجها الشاعر العظيم المشهد من شرفة القصر الملكي.
    ويقال إنه في الثامن والعشرين من مارس من كلّ عام، أي تاريخ مقتل زوجها المأمون، يعود شبح "زائدة" إلى القلعة، حيث تظهر مرتديةً لباساً أبيض بينما تأخذ طريقها نحو البرج لتنظر عبر نهر الوادي الكبير باتجاه قرطبة، منتظرةً بفارغ الصبر عودة أميرها الحبيب.

    Credits
    medievalists.net

    الاثنين، ديسمبر 09، 2024

    أورفيوس: رموز واستعارات


    في اللوحة التي فوق، يصوّر الرسّام الفرنسي كميل كورو اللحظة المأساوية التي قاد فيها أورفيوس خطيبته يوريديسي خارج العالم السفلي. ويظهر الاثنان ملفوفين بأجواء ناعمة وحالمة، تحيطها طبيعة خضراء يغلّفها الضباب، بينما يقف بالقرب منهما بضعة أشخاص غامضين يمثّلون على الأرجح بعض ساكني العالم السفلي.
    كان أورفيوس موسيقيّا وشاعرا يونانيّا. ورغم أن قصّته قديمة جدّا، إلا أنه ما يزال، حتى يومنا هذا، يتمشّى بيننا كموسيقيّ متجوّل، يذكّرنا بشيء ما، يربّت برفق على أكتافنا، رافضا أن يُنسى، ويعلّمنا عن حياة مليئة بالغموض والحبّ والفقد والحكمة.
    عاش أورفيوس، كما يُعتقد، في الجيل الذي سبق حرب طروادة. وأظهرت أسطورته أن الإغريق يؤمنون بقوّة الموسيقى والشعر. وكان قد تلقّى من الإله أبولّو آلة موسيقية عبارة عن قيثارة. ومع مرور الوقت، كبر الشابّ ليصبح معلّما في الغناء والموسيقى. وفي عزلته، كان يعزف أعذب الموسيقى التي تحرّك الروح، فتعكس آلام قلبه وأوجاعه. وكانت براعته الفنيّة هي التطهير الذي يلجأ إليه لفهم عزلته والتعامل معها.
    وعندما كان أورفيوس يعزف على قيثارته، كان يسحر كلّ من يستمع إليه. وكانت حتى الأشجار والحجارة تتناغم مع موسيقاه والحيوانات تصمت عندما يعزف. وكانت الأنهار تغيّر اتجاه جريانها وأمواج البحر تهدأ عند سماع عزفه الساحر.
    وقد أراد أورفيوس الزواج من الحورية يوريديسي التي كان يحبّها بشدّة. ولكن في يوم زفافهما، ركضت يوريديسي عبر حقل ودَاست على ثعبان سامّ فلدغها وماتت على الفور. وتلقّى أورفيوس الخبر الأليم وصُدم بقوّة ثم سقط في حزن عميق وتوقّف عن العزف والغناء.
    ومرّت الأيّام وحزنه يزداد الى أن قرّر الانطلاق في رحلة خطرة لإقناع هيديز ملك العالم السفلي بإعادة حبيبته من عالم الأموات. وكان هذا أمرا غير مسبوق، لأن العالم السفلي كان مكانا صعبا ومَلكُه أكثر صعوبة، ولم يحدث أبدا أن غادرت أيّ روح بعد عبورها نهر "ستيكس".
    وفي طريق أورفيوس إلى العالم السفلي، كان يغنّي ويعزف على قيثارته. وكالعادة، كان غناؤه جميلاً لدرجة أن الأرض ذاتها التي أسرها سحر موسيقاه انفتحت وسمحت له بالنزول إلى العالم السفلي. وهناك التقى شيرون، البحّار الذي سيساعده في عبور نهر "ستيكس" الذي يفصل أرض الحياة عن أرض الموت. وسمح له سيربيروس، الوحش ذو الرؤوس الأربعة، الذي أسره سحر موسيقاه، بالدخول دون أيّ جهد إلى عالم لم يدخله إنسان حيّ من قبل.
    وفي العالم السفلي، التقى أورفيوس كلا من هيديز وبيرسيفوني وطلب منهما أن يعيدا يوريديسي إلى عالم الحياة. وعندما لاحظا حبّه الكبير لها، تعاطفا معه وقرّرا أن يساعداه لمرّة واحدة. فسمحا له باستعادة حبيبته، ولكن بشرط أن يسبقها وألا يدير رأسه نحوها حتى يخرجا من العالم السفلي تماما.


    وافق أورفيوس وبدأ الاثنان رحلة عودتهما بهدوء، أورفيوس أوّلاً وخلفه يوريديسي. وبعد أن قطعا مسافة، وفي لحظة شكّ، استدار أورفيوس ليضمن أن زوجته تتبعه، فأخلّ بالشرط الذي قطعه على نفسه وفقدها مرّة واحدة وإلى الأبد.
    عندما نظر أورفيوس إلى الوراء، كان يعصي ربّ العالم السفلي. وقد خسر يوريديسي عقابا له، مع أنه فعل ذلك لأنه لم يسمعها، إذ كيف يمكنك أن تسمع روحا تتبعك؟ّ! لكن بما أنه لم يفِ بالاتفاق الذي أبرمه مع سيّد أرض الموتى، كان لا بدّ من أن يدفع الثمن، وهو استعادة روح يوريديسي بعد أن سُمح لها بمغادرة العالم السفلي.
    بعد مقتل أورفيوس فيما بعد، دفنته الآلهة في ليبيثرا حيث كانت البلابل تغرّد بعذوبة فوق قبره. وأصبحت قيثارته اسما لكوكبة القيثارة (Lyra Constellation) التي تقع في نصف الكرة السماوية الشمالي. وفي العصر الحديث، رسم قصّته العديد من الفنّانين وألّف موسيقيّون أعمالا كثيرة استوحوها من هذه الأسطورة.
    قصّة أورفيوس هي عن النور والظلام وعن الحياة والموت وعن حقائق الوجود البسيطة. ويمكن أن تكون القصّة استعارة للفنّان الذي يبحث عن الجمال لكنه يفقده حتى عندما يلمحه بسرعة. ويمكن أيضا أن تكون رمزا لقوّة الحبّ وكيف يمكنه أن يُلهم الأفراد خوض تحديّات عظيمة ومواجهة المجهول. كما تتحدّث القصّة عن قدرة الفنّ والإبداع على تجاوز الحدود واستدعاء المشاعر العميقة وربطنا بالعالم.
    كما تتناول فكرة الفقد والحزن، والمدى الذي قد نذهب إليه من أجل استعادة ما فقدناه. وهي أيضا عن هشاشة الأمل وكيف أن الشكّ والخوف يمكن أن يقوّضا أهدافنا ويؤدّيا إلى عواقب وخيمة. كما تشير الأسطورة الى محدودية تحكّم الانسان وعجزه عن تغيير مسار القدَر أو التصرّف في مواجهة إرادة قوى أعظم منه.
    من جهة أخرى، يمكن اعتبار ذهاب أورفيوس ونزوله إلى العالم السفلي رحلة إلى الذات ومواجهة تعقيدات المخاوف والعواطف الداخلية والتحدّيات الوجودية والخروج منها بفهم وحكمة أكبر. كما تثير الأسطورة تساؤلات عمّا يمكننا التخلّي عنه من أجل أولئك الذين نهتم بهم ونحبّهم.
    إن الأساطير عبارة عن لغة ورموز واستعارات وليس فيها مصادفات أو أحداث تقع كيفما اتفق. وحقيقة أن اسم أورفيوس يعني "ظلام الليل" يمكن أن يعلّمنا شيئا عن هذه الحركة بين الظلام والنور، التي قد تكون استعارة لرحلة البذرة على الأرض من النور إلى الظلام، ثم العودة إلى النور مرّة أخرى. فبعد أن تنبعث البذرة من ثمرة إلى ظلمة الأرض، تعود إلى النور بقوّتها الخاصّة.
    والدورات العظيمة التي تمرّ بها الطبيعة تتكرّر مراراً، فتُلهِمُنا وتعلّمُنا. وهي تمسّ واحدة من أعظم معضلات الظرف الإنساني: الحياة والموت. فنحن نأتي إلى هذا العالم ونتعلّم طرقه ونبني علاقات ونكوّن ذكريات. ثم، في وقت ما ودون أيّ استعداد مسبق، يتعيّن علينا أن نترك كلّ هذا وراءنا.
    لكن الحياة ليست سيّئة ولا جيّدة. إنها مجرّد حياة. وإذا تأمّلناها عن قرب، فقد تروي لنا قصّة عظيمة عنّا؛ عن هويّة الإنسان، هذا الكائن الذي جاء إلى هذا العالم ووقع في حبّ انعكاسه، إلى الحدّ الذي جعله يعتقد أن هذا الانعكاس هو نفسه.

    Credits
    greek.mythologyworldwide.com
    theacropolitan.in