تُوصف مذكّرات ظهير الدين محمّد، المعروف بالسلطان بابَر (1483-1530)، بأنها إحدى أكثر السير الذاتية شهرةً في الأدب العالمي. وتكشف تلك المذكّرات أن بابر لم يكن مجرّد محارب بارع، بل كان أيضا مثقّفا وشاعرا وفنّانا ومتذّوقا لجمال الطبيعة.
المؤرّخ ويليام دالريمبل كتب مقدّمة للطبعة الأخيرة من مذكّرات بابر، مؤسّس سلالة المغول في الهند وأوّل إمبراطور لها. هنا ترجمة مختصرة لبضع فقرات مختارة منها.
المؤرّخ ويليام دالريمبل كتب مقدّمة للطبعة الأخيرة من مذكّرات بابر، مؤسّس سلالة المغول في الهند وأوّل إمبراطور لها. هنا ترجمة مختصرة لبضع فقرات مختارة منها.
❉ ❉ ❉
في مطلع القرن السادس عشر، بدا العالم الإسلامي مختلفا تماما عمّا كان عليه في أيّام عصره الذهبي. كانت الخلافة العباسيّة في بغداد قد انهارت بعد أن دمّرها المغول. ولم تعد إسبانيا الإسلامية موجودة إلا في الذاكرة بعد سقوط آخر معقل عربي في غرناطة قبل ذلك بقرن. ولم تعد مصر موطنا للفاطميين، بل أصبحت الآن تحت سيطرة سلالة من الجنود العبيد
تُسمّى المماليك. كما سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين الذين احتلّوا أوروبّا الشرقية. وكانت إيران قد وقعت للتوّ تحت حكم سلالة شيعية تُعرف باسم الصفويين.
في حوالي ذلك الوقت، وبالتحديد في عام 1526، هبط ظهير الدين بابر، وهو أمير تيموري شابّ من فرغانة، فيما يُعرف الآن بأوزبكستان، عبر ممرّ خيبر بمرافقة جيش صغير من الأتباع المختارين. وقد أحضر معه بعض البنادق والمدافع الحديثة التي لم يشاهد الناس مثلها في الهند من قبل. وباستخدام هذه البنادق هزم بابر السلطان إبراهيم لودي في دلهي. وفي دلهي وأغرا أقام أساسَ ما سيصبح فيما بعد إمبراطورية المغول.
ولم تكن هذه أوّل غزوة يقوم بها بابر. فقد أمضى معظم شبابه بلا عرش، وكان يعيش مع رفاقه من يوم لآخر، يسرقون الأغنام والطعام. وفي بعض الأحيان كان يستولي على بلدة. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما استولى على سمرقند لأوّل مرّة واحتفظ بها لأربعة أشهر.
ولكن في أغلب شبابه، عاش بابر كقاطع طريق وتجوّل لسنوات في آسيا الوسطى في خيمة مشرّداً محروماً. وقد كتب في مذكّراته يقول: خطرت بذهني فكرة مفادها أن التجوال من جبل إلى جبل، بلا مأوى أو حيلة، لا يستحقّ كلّ هذا العناء".
توفّي بابر عام 1530، بعد أربع سنوات فقط من وصوله إلى الهند، وقبل أن يتمكّن من تعزيز فتوحاته الجديدة. كان يعتبر نفسه فاشلاً لأنه فقدَ أراضي عائلته في فرغانة، ولم يكن لديه أدنى فكرة عمّا إذا كانت فتوحاته الهندية الجديدة آمنة أم لا.
وربّما يتذكّر التاريخ بابر باعتباره أوّل إمبراطور مغولي، لكنه كان في عين نفسه لاجئاً على الدوام. وفي أواخر حياته، أمضى أيّامه في كتابة وصقل وتحرير أحد أعظم كتب المذكّرات في العالم، الذي تذكّر فيه كلّ ما فعله وكلّ ما فقده أيضاً. وعندما أعدت قراءة مذكّراته، كان من المدهش كيف أنه على الرغم من فوزه بالكنوز والطبيعة الرائعة في الهند، إلا أن بابر ظلّ يندب وطنه المفقود في فرغانة، وهو المكان الذي أصبح اليوم منسيّاً إلى حدّ كبير، ولكن بابر كان يتذكّره دائماً باعتباره جنّة أرضية.
في فقرة تلو أخرى، يصف بابر، بلهفة وتوق، الأشياء التي أحبّها في فرغانة والتي اشتاق إليها وهو يكتب في المنفى الهندي: صباحات الربيع التي كان يقضيها وسط التلال المزيّنة بالبنفسج البرّي والزنبق والورود، المياه الجارية الباردة التي تمرّ عبر مروج البرسيم المظلّلة والمبهجة حيث يستريح كلّ مسافر عابر، الحدائق الصغيرة والجميلة الممتلئة بأشجار اللوز، الرمّان المشهور بجودته، الصيد الوافر والطيور، طيور الدرّاج التي تكبر بشكل مدهش لدرجة أن الشائعات تقول إن واحدا منها يمكن أن يشبع أربعة أشخاص.
منذ وقعتُ في حبّ بابر لأوّل مرّة، عندما قرأته في سنّ الثامنة عشرة أثناء زيارتي الأولى للهند، كنت أتساءل دائما عمّا حدث لوادي فرغانة الذي وصفه بابر بكلّ هذا الحبّ في مذكّراته. كانت الروايات مختلطة. وعندما بدأت في جمع معلومات عن المكان في نهاية الثمانينات، أخبرني المسافرون الذين زاروا المنطقة أنني تأخّرت كثيراً، وأن المنطقة تضرّرت بشدّة لأسباب، من أهمّها تحويل السوفييت الوادي إلى مركز لصناعة القطن في آسيا الوسطى.
وفي الربيع الماضي، قمت بأوّل زيارة لي إلى أوزبكستان. وعند وصولي إلى طاشكند، لاحظت تسارع عملية نزع الطابع الروسي عن البلاد. وكانت الشوارع الواسعة ومباني الشقق الشاسعة التي تصطفّ على جانبيها من بين آخر علامات النظام السوفييتي القديم. وقد لفت انتباهي الشغف الوطني المستمرّ بالفودكا، وهو أمر مفاجئ في بلد مسلم. وكان التلفزيون مليئا بالمسلسلات الهزلية التركية والدراما العثمانية، ومن بينها مسلسل "قيامة أرطغرل".
الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزاييف أطلق برنامجا للإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، فأمر بتحرير السجناء السياسيين وبدأ خططا للقضاء على الفساد وتحسين الخدمات الحكومية وتحرير الاقتصاد وجذب الاستثمار الأجنبي.
كان التباين صارخا مع عالَم سلفه إسلام كريموف، أحد أكثر المستبدّين وحشيةً في آسيا الوسطى. ويمكنك رؤية النتائج في كلّ مكان حولك في شوارع طاشكند. فالطرق الآن مليئة بالسيّارات اليابانية والكورية، والبيرة معروضة للبيع في الحانات، والعشّاق الذين يرتدون ملابس أنيقة يُمسكون بأيدي بعضهم البعض تحت أشجار الكازوارينا. وفي نهاية عام 2019، أطلقت مجلّة الإيكونوميست على أوزبكستان لقب "بلد العام". وكان ذلك إنجازا كبيرا لدولة كانت في الماضي كثيرا ما تجد نفسها في أسفل التصنيفات الدولية من ناحية الفساد والحكم وحقوق الإنسان.
ولكن ماذا عن فرغانة؟ كنت مصمّما على معرفة ما الذي حدث للوادي الذي وصفه بابر بأنه "أقرب مكان على الأرض شبَها بالجنّة السماوية". فتفاوضتُ مع سائق سيّارة أجرة لأخذي الى هناك. كان الوصول إلى الوادي يبدأ من السهوب المحيطة بطاشكند عبر طريق يمرّ بعدد من المصانع ومحطّات الطاقة وأبراج الكهرباء المصطفّة عبر مراعي السهوب والساحات شبه المهجورة. وكانت هناك لمحات عارضة لحقول بيضاء ميّتة قتلتها الملوحة بسبب الريّ الجائر لزراعة القطن السوفييتي. ولكن بعد ساعة، انحرف الطريق السريع بشكل حادّ إلى الجبال، وبدأ في الصعود متعرّجا إلى أعلى عبر ما أصبح مروجا خضراء.
وكانت جوانب الطرق مليئة بأشجار الصفصاف والزنبق البرّي المحاطة باللون الأبيض المبهر للقمم الثلجية التي ترتفع عن بعد. وبينما كنّا نصعد، امتدّت سماء آسيا الوسطى الشاسعة، محاطة بقمم جبال تيان شان. وفي الجزء العلويّ من الممرّ، مررنا بـ "ظلّ المطر"، وهي صحراء مرتفعة، ثم هبطنا على الجانب البعيد إلى أرض عشبية يابسة. ثم فجأة، ازدهرت السهوب في أسفل المنحدر. وخلف الحقول الخضراء الأولى من القمح الربيعي الغنيّ، رأينا سواقي الريّ المتدفّقة والموحلة بالثلوج الذائبة حديثا من جبال البامير القرغيزية.
في حوالي ذلك الوقت، وبالتحديد في عام 1526، هبط ظهير الدين بابر، وهو أمير تيموري شابّ من فرغانة، فيما يُعرف الآن بأوزبكستان، عبر ممرّ خيبر بمرافقة جيش صغير من الأتباع المختارين. وقد أحضر معه بعض البنادق والمدافع الحديثة التي لم يشاهد الناس مثلها في الهند من قبل. وباستخدام هذه البنادق هزم بابر السلطان إبراهيم لودي في دلهي. وفي دلهي وأغرا أقام أساسَ ما سيصبح فيما بعد إمبراطورية المغول.
ولم تكن هذه أوّل غزوة يقوم بها بابر. فقد أمضى معظم شبابه بلا عرش، وكان يعيش مع رفاقه من يوم لآخر، يسرقون الأغنام والطعام. وفي بعض الأحيان كان يستولي على بلدة. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما استولى على سمرقند لأوّل مرّة واحتفظ بها لأربعة أشهر.
ولكن في أغلب شبابه، عاش بابر كقاطع طريق وتجوّل لسنوات في آسيا الوسطى في خيمة مشرّداً محروماً. وقد كتب في مذكّراته يقول: خطرت بذهني فكرة مفادها أن التجوال من جبل إلى جبل، بلا مأوى أو حيلة، لا يستحقّ كلّ هذا العناء".
توفّي بابر عام 1530، بعد أربع سنوات فقط من وصوله إلى الهند، وقبل أن يتمكّن من تعزيز فتوحاته الجديدة. كان يعتبر نفسه فاشلاً لأنه فقدَ أراضي عائلته في فرغانة، ولم يكن لديه أدنى فكرة عمّا إذا كانت فتوحاته الهندية الجديدة آمنة أم لا.
وربّما يتذكّر التاريخ بابر باعتباره أوّل إمبراطور مغولي، لكنه كان في عين نفسه لاجئاً على الدوام. وفي أواخر حياته، أمضى أيّامه في كتابة وصقل وتحرير أحد أعظم كتب المذكّرات في العالم، الذي تذكّر فيه كلّ ما فعله وكلّ ما فقده أيضاً. وعندما أعدت قراءة مذكّراته، كان من المدهش كيف أنه على الرغم من فوزه بالكنوز والطبيعة الرائعة في الهند، إلا أن بابر ظلّ يندب وطنه المفقود في فرغانة، وهو المكان الذي أصبح اليوم منسيّاً إلى حدّ كبير، ولكن بابر كان يتذكّره دائماً باعتباره جنّة أرضية.
في فقرة تلو أخرى، يصف بابر، بلهفة وتوق، الأشياء التي أحبّها في فرغانة والتي اشتاق إليها وهو يكتب في المنفى الهندي: صباحات الربيع التي كان يقضيها وسط التلال المزيّنة بالبنفسج البرّي والزنبق والورود، المياه الجارية الباردة التي تمرّ عبر مروج البرسيم المظلّلة والمبهجة حيث يستريح كلّ مسافر عابر، الحدائق الصغيرة والجميلة الممتلئة بأشجار اللوز، الرمّان المشهور بجودته، الصيد الوافر والطيور، طيور الدرّاج التي تكبر بشكل مدهش لدرجة أن الشائعات تقول إن واحدا منها يمكن أن يشبع أربعة أشخاص.
منذ وقعتُ في حبّ بابر لأوّل مرّة، عندما قرأته في سنّ الثامنة عشرة أثناء زيارتي الأولى للهند، كنت أتساءل دائما عمّا حدث لوادي فرغانة الذي وصفه بابر بكلّ هذا الحبّ في مذكّراته. كانت الروايات مختلطة. وعندما بدأت في جمع معلومات عن المكان في نهاية الثمانينات، أخبرني المسافرون الذين زاروا المنطقة أنني تأخّرت كثيراً، وأن المنطقة تضرّرت بشدّة لأسباب، من أهمّها تحويل السوفييت الوادي إلى مركز لصناعة القطن في آسيا الوسطى.
وفي الربيع الماضي، قمت بأوّل زيارة لي إلى أوزبكستان. وعند وصولي إلى طاشكند، لاحظت تسارع عملية نزع الطابع الروسي عن البلاد. وكانت الشوارع الواسعة ومباني الشقق الشاسعة التي تصطفّ على جانبيها من بين آخر علامات النظام السوفييتي القديم. وقد لفت انتباهي الشغف الوطني المستمرّ بالفودكا، وهو أمر مفاجئ في بلد مسلم. وكان التلفزيون مليئا بالمسلسلات الهزلية التركية والدراما العثمانية، ومن بينها مسلسل "قيامة أرطغرل".
الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزاييف أطلق برنامجا للإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، فأمر بتحرير السجناء السياسيين وبدأ خططا للقضاء على الفساد وتحسين الخدمات الحكومية وتحرير الاقتصاد وجذب الاستثمار الأجنبي.
كان التباين صارخا مع عالَم سلفه إسلام كريموف، أحد أكثر المستبدّين وحشيةً في آسيا الوسطى. ويمكنك رؤية النتائج في كلّ مكان حولك في شوارع طاشكند. فالطرق الآن مليئة بالسيّارات اليابانية والكورية، والبيرة معروضة للبيع في الحانات، والعشّاق الذين يرتدون ملابس أنيقة يُمسكون بأيدي بعضهم البعض تحت أشجار الكازوارينا. وفي نهاية عام 2019، أطلقت مجلّة الإيكونوميست على أوزبكستان لقب "بلد العام". وكان ذلك إنجازا كبيرا لدولة كانت في الماضي كثيرا ما تجد نفسها في أسفل التصنيفات الدولية من ناحية الفساد والحكم وحقوق الإنسان.
ولكن ماذا عن فرغانة؟ كنت مصمّما على معرفة ما الذي حدث للوادي الذي وصفه بابر بأنه "أقرب مكان على الأرض شبَها بالجنّة السماوية". فتفاوضتُ مع سائق سيّارة أجرة لأخذي الى هناك. كان الوصول إلى الوادي يبدأ من السهوب المحيطة بطاشكند عبر طريق يمرّ بعدد من المصانع ومحطّات الطاقة وأبراج الكهرباء المصطفّة عبر مراعي السهوب والساحات شبه المهجورة. وكانت هناك لمحات عارضة لحقول بيضاء ميّتة قتلتها الملوحة بسبب الريّ الجائر لزراعة القطن السوفييتي. ولكن بعد ساعة، انحرف الطريق السريع بشكل حادّ إلى الجبال، وبدأ في الصعود متعرّجا إلى أعلى عبر ما أصبح مروجا خضراء.
وكانت جوانب الطرق مليئة بأشجار الصفصاف والزنبق البرّي المحاطة باللون الأبيض المبهر للقمم الثلجية التي ترتفع عن بعد. وبينما كنّا نصعد، امتدّت سماء آسيا الوسطى الشاسعة، محاطة بقمم جبال تيان شان. وفي الجزء العلويّ من الممرّ، مررنا بـ "ظلّ المطر"، وهي صحراء مرتفعة، ثم هبطنا على الجانب البعيد إلى أرض عشبية يابسة. ثم فجأة، ازدهرت السهوب في أسفل المنحدر. وخلف الحقول الخضراء الأولى من القمح الربيعي الغنيّ، رأينا سواقي الريّ المتدفّقة والموحلة بالثلوج الذائبة حديثا من جبال البامير القرغيزية.
وخلف هذه الحقول المحاطة بقمم ثلجية متعرّجة، تقع سلّة الفاكهة الخصبة لوطن بابر الحبيب. وأيّا كان الحال قبل 30 عاما، لا يمكن رؤية أيّ مصنع قطن الآن. وعاد وادي فرغانة إلى حالته كجنّة عدن المرتفعة التي كانت في زمن بابر. وبينما كنّا نقود السيارة على طول شوارع أشجار الحور، كانت المروج المليئة بأزهار الخشخاش تحيط ببساتين التفّاح والتوت والمشمش واللوز.
وعلى الأرض المرتفعة عند حافّة الوادي، لاحت لنا بعض مزارع الكروم. وبجوار بعض قنوات الريّ الأكبر حجماً، كان الرجال يجلسون متربّعين حول أوانٍ خشبية وهم يحتسون الشاي. وكانت قطعان الأغنام ذات الذيول السمينة ترعى وسط المروج تحت حراسة النساء اللاتي يرتدين سترات من المخمل. وكانت الحمير تستريح على جانب الطريق. وألقى رجل عجوز ذو أسنان ذهبية بخيط صيد من فوق جسر. وذكّرني ذلك بكشمير أو ربّما بسهل "شومالي" في أفغانستان.
إن قراءة كتاب بابر عن جمال حدائق فرغانة لا تزال تثير صدى ومتعة في القرن الحادي والعشرين، كما كانت في القرن السادس عشر. وأثناء قيادتنا للسيّارة، أخرجتُ كتاب "بابر ناما" وأعدت قراءة القسم الأوّل، الذي يصف فيه السلطان أيّام شبابه الأولى في هذا الوادي. وأذهلتني مرّة أخرى نضارة كتابته. فهو يعترف لنا طوال الوقت بثقته بنفسه بينما يتساءل باستمرار عن العالم من حوله. ومن عدّة وجوه فإن هذا النصّ حديث وغريب ويكاد يكون بروستيّا "نسبة الى بروست" في وعيه الذاتي. كان هذا الكتاب بمثابة تذكير لنا بأن بعض الأشياء تتغيّر من عصر إلى عصر، ولكن الكثير منها يظل عالميّا.
كانت الخضرة تشتدّ كلّما توغّلنا في الوادي. وكانت تعرّجات نهر "سير داريا" الكبير الذي عبره الإسكندر الأكبر تمتدّ إلى الأمام خلف الحقول. وعلى الجانب البعيد، فوق ضفاف النهر مباشرة، كانت ترتفع الجدران الطينية المتآكلة والشديدة الانحدار لأعظم حصن في فرغانة كان يحمي عاصمة الوادي القديمة "آخسيكاث".
ووصلنا إلى القلعة الأصلية لسلالة بابر ومركز رغباته في المنفى. كنت أخشى أن يكون السلطان قد بالغ في وصف جمالها. لكن بابر كاتب صادق ويمكن الاعتماد عليه، حتى عندما يكتب عن وطنه المفقود. كانت الشمس تغرب خلف قمم الثلوج، فتحوّلت الجدران الطينية الضخمة في "آخسيكاث" إلى اللون الأحمر الساطع المذهل في ضوء النهار الأخير. وفي الأسفل، بين أكوام القصب، كانت طيور الماء ترفع أصواتها بالتغريد. ولم يكن هناك أحد حولها. لقد دُمّرت المدينة وهجرها ساكنوها بسبب زلزال كبير ضربها عام 1621. لكن حتى في حالة الخراب الكامل، ما يزال بوسعك أن تشعر بعظمة وقوّة هذا المكان في أيّام مجده التيموري.
بعد بضعة أيّام، وجدت نفسي في قرية جعلتني أقرب إلى بابر من أيّ مكان آخر رأيته في آسيا الصغرى. كنت أتجوّل في سمرقند، ورغم أنها كانت رائعة، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالضرر الناجم عن الانفصال الثقافي الذي لا يمكن إصلاحه والذي أحدثته الإمبريالية الروسية في القرن التاسع عشر ثم الماركسية السوفييتية. فلم تعد المدارس الدينية والمساجد القديمة تعمل كأماكن للعبادة أو التعلّم. ولكن قيل لي إن هناك، على مسافة ما خارج المدينة، قطعة أثرية تيمورية رائعة نجت من السوفييت، وهي مجموعة من الآثار التي تعود إلى طفولة بابر وتقع في وادٍ جميل على نهر.
وفي صباحي الثاني في سمرقند، تخلّينا عن المجموعات السياحية وانطلقنا بمفردنا إلى الريف. وفي أعلى الممرّ الذي يفصل سمرقند عن عاصمة تيمور العظيمة الأخرى، شهرسبز، توقّفنا لتناول الغداء، وهو عبارة عن خبز نان وأسياخ لحم مشوي، مع التوت البرّي ونوع من الرافيولي التركي. وقُدّم الطعام بجوار نبع جبليّ متدفّق على أرائك خشبية في ظلّ أشجار الحور. هنا كلّ الأشياء التي كان يشتاق اليها بابر: الحدائق الظليلة والجداول الصافية والزنبق البرّي والمناظر الطبيعية الجبلية الباردة، مع إطلالات على الوديان في الأسفل.
واصلنا رحلتنا على طول المنعطفات، مروراً بالنساء اللاتي قدّمن لنا جبن الماعز الحامض المخمّر والفستق وزجاجات عصير البطيخ، مع حِزم الراوند التي يزعمون أنها جيّدة لضغط الدم. ثم توقّفنا للتزوّد بالوقود وتساءلت: في أيّ مكان آخر من العالم يدعوك عمّال محطّات الوقود لتناول كوب من الشاي؟!
بعد عشرين ميلاً من شهرسبز، انعطفنا نحو وادٍ أخضر جميل باتجاه كاتا لانجار. كانت قطعان الماعز ترعى في المروج والنسور تحلّق في السماء. وفي نهاية الوادي، على تلّة مرتفعة، رأينا ما أتينا من أجله: ضريح الشاعر الصوفي النقشبندي التيموري الشيخ محمّد صادق، الذي كان معاصرا لبابر.
كان قبره الرائع محاطا من جميع جوانبه بأشجار كثيفة توفّر الظل. ولم يكن هناك سوى ثلاث نساء مسنّات يرتدين المآزر. وقد سجدن ثم استدرن إلى الخلف وهنّ ما زلن يواجهن قبر الوليّ. وفي الداخل وجدنا حارس الضريح، أبا الحسن. كانت له لحية بيضاء وكان يرتدي "شاباناً" أفغانيّا من الحرير المخطّط الجميل يعلوه غطاء أوزبكيّ صغير متعدّد الأضلاع.
وسألت أبا الحسن عمّن يأتي الى هنا، فأجاب: الناس يأتون من كلّ مكان لزيارة الضريح، أوزبك وأفغان وأتراك وهندوس وعرب وحتى أوروبيون. الجميع يأتون، وخاصّة يوم الخميس. والعديد من الناس يُشفون من الأمراض، والنساء العواقر يحملن، والفقراء يجدون قوت يومهم".
سألته وأنا أفكّر في المدارس الدينية والأضرحة الميّتة التي رأيناها في اليوم السابق في سمرقند: كيف نجا هذا الضريح من السوفييت؟" فقال: لم يحدث ذلك هنا، لقد أغلق السوفييت هذا المكان تماما. وخلال الحقبة السوفييتية كنّا نصلّي على قمم الجبال ونقرأ القرآن سرّاً. وكان من المحظور أن يكون عندك قرآن في ذلك الوقت. وإذا وجدوا واحدا، فإنهم يضعونك في السجن".
وأضاف: إننا نتذكّر كلمات الشيخ صادق كلّما صلّينا هنا. ولا يرتاح قلبي الا بالذكر. هل ترغب في الاستماع؟" وبدأ أبو الحسن في الغناء وفعل ذلك من كلّ قلبه وملأ غرفة الضريح بترنيمة قويّة وجميلة من الأوتار الثانوية، ارتفعت إلى ذروتها ثم تراجعت برفق مرّة أخرى. فعلَ ذلك ويداه مجوفّتان وعيناه مغمضتان، غارقاً في الدعاء. وفي الخارج، تناهت إلى أسماعنا أصوات الطيور وهي تغرّد وسط الورود وأزهار التوت واللوز.
وعلى الأرض المرتفعة عند حافّة الوادي، لاحت لنا بعض مزارع الكروم. وبجوار بعض قنوات الريّ الأكبر حجماً، كان الرجال يجلسون متربّعين حول أوانٍ خشبية وهم يحتسون الشاي. وكانت قطعان الأغنام ذات الذيول السمينة ترعى وسط المروج تحت حراسة النساء اللاتي يرتدين سترات من المخمل. وكانت الحمير تستريح على جانب الطريق. وألقى رجل عجوز ذو أسنان ذهبية بخيط صيد من فوق جسر. وذكّرني ذلك بكشمير أو ربّما بسهل "شومالي" في أفغانستان.
إن قراءة كتاب بابر عن جمال حدائق فرغانة لا تزال تثير صدى ومتعة في القرن الحادي والعشرين، كما كانت في القرن السادس عشر. وأثناء قيادتنا للسيّارة، أخرجتُ كتاب "بابر ناما" وأعدت قراءة القسم الأوّل، الذي يصف فيه السلطان أيّام شبابه الأولى في هذا الوادي. وأذهلتني مرّة أخرى نضارة كتابته. فهو يعترف لنا طوال الوقت بثقته بنفسه بينما يتساءل باستمرار عن العالم من حوله. ومن عدّة وجوه فإن هذا النصّ حديث وغريب ويكاد يكون بروستيّا "نسبة الى بروست" في وعيه الذاتي. كان هذا الكتاب بمثابة تذكير لنا بأن بعض الأشياء تتغيّر من عصر إلى عصر، ولكن الكثير منها يظل عالميّا.
كانت الخضرة تشتدّ كلّما توغّلنا في الوادي. وكانت تعرّجات نهر "سير داريا" الكبير الذي عبره الإسكندر الأكبر تمتدّ إلى الأمام خلف الحقول. وعلى الجانب البعيد، فوق ضفاف النهر مباشرة، كانت ترتفع الجدران الطينية المتآكلة والشديدة الانحدار لأعظم حصن في فرغانة كان يحمي عاصمة الوادي القديمة "آخسيكاث".
ووصلنا إلى القلعة الأصلية لسلالة بابر ومركز رغباته في المنفى. كنت أخشى أن يكون السلطان قد بالغ في وصف جمالها. لكن بابر كاتب صادق ويمكن الاعتماد عليه، حتى عندما يكتب عن وطنه المفقود. كانت الشمس تغرب خلف قمم الثلوج، فتحوّلت الجدران الطينية الضخمة في "آخسيكاث" إلى اللون الأحمر الساطع المذهل في ضوء النهار الأخير. وفي الأسفل، بين أكوام القصب، كانت طيور الماء ترفع أصواتها بالتغريد. ولم يكن هناك أحد حولها. لقد دُمّرت المدينة وهجرها ساكنوها بسبب زلزال كبير ضربها عام 1621. لكن حتى في حالة الخراب الكامل، ما يزال بوسعك أن تشعر بعظمة وقوّة هذا المكان في أيّام مجده التيموري.
بعد بضعة أيّام، وجدت نفسي في قرية جعلتني أقرب إلى بابر من أيّ مكان آخر رأيته في آسيا الصغرى. كنت أتجوّل في سمرقند، ورغم أنها كانت رائعة، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالضرر الناجم عن الانفصال الثقافي الذي لا يمكن إصلاحه والذي أحدثته الإمبريالية الروسية في القرن التاسع عشر ثم الماركسية السوفييتية. فلم تعد المدارس الدينية والمساجد القديمة تعمل كأماكن للعبادة أو التعلّم. ولكن قيل لي إن هناك، على مسافة ما خارج المدينة، قطعة أثرية تيمورية رائعة نجت من السوفييت، وهي مجموعة من الآثار التي تعود إلى طفولة بابر وتقع في وادٍ جميل على نهر.
وفي صباحي الثاني في سمرقند، تخلّينا عن المجموعات السياحية وانطلقنا بمفردنا إلى الريف. وفي أعلى الممرّ الذي يفصل سمرقند عن عاصمة تيمور العظيمة الأخرى، شهرسبز، توقّفنا لتناول الغداء، وهو عبارة عن خبز نان وأسياخ لحم مشوي، مع التوت البرّي ونوع من الرافيولي التركي. وقُدّم الطعام بجوار نبع جبليّ متدفّق على أرائك خشبية في ظلّ أشجار الحور. هنا كلّ الأشياء التي كان يشتاق اليها بابر: الحدائق الظليلة والجداول الصافية والزنبق البرّي والمناظر الطبيعية الجبلية الباردة، مع إطلالات على الوديان في الأسفل.
واصلنا رحلتنا على طول المنعطفات، مروراً بالنساء اللاتي قدّمن لنا جبن الماعز الحامض المخمّر والفستق وزجاجات عصير البطيخ، مع حِزم الراوند التي يزعمون أنها جيّدة لضغط الدم. ثم توقّفنا للتزوّد بالوقود وتساءلت: في أيّ مكان آخر من العالم يدعوك عمّال محطّات الوقود لتناول كوب من الشاي؟!
بعد عشرين ميلاً من شهرسبز، انعطفنا نحو وادٍ أخضر جميل باتجاه كاتا لانجار. كانت قطعان الماعز ترعى في المروج والنسور تحلّق في السماء. وفي نهاية الوادي، على تلّة مرتفعة، رأينا ما أتينا من أجله: ضريح الشاعر الصوفي النقشبندي التيموري الشيخ محمّد صادق، الذي كان معاصرا لبابر.
كان قبره الرائع محاطا من جميع جوانبه بأشجار كثيفة توفّر الظل. ولم يكن هناك سوى ثلاث نساء مسنّات يرتدين المآزر. وقد سجدن ثم استدرن إلى الخلف وهنّ ما زلن يواجهن قبر الوليّ. وفي الداخل وجدنا حارس الضريح، أبا الحسن. كانت له لحية بيضاء وكان يرتدي "شاباناً" أفغانيّا من الحرير المخطّط الجميل يعلوه غطاء أوزبكيّ صغير متعدّد الأضلاع.
وسألت أبا الحسن عمّن يأتي الى هنا، فأجاب: الناس يأتون من كلّ مكان لزيارة الضريح، أوزبك وأفغان وأتراك وهندوس وعرب وحتى أوروبيون. الجميع يأتون، وخاصّة يوم الخميس. والعديد من الناس يُشفون من الأمراض، والنساء العواقر يحملن، والفقراء يجدون قوت يومهم".
سألته وأنا أفكّر في المدارس الدينية والأضرحة الميّتة التي رأيناها في اليوم السابق في سمرقند: كيف نجا هذا الضريح من السوفييت؟" فقال: لم يحدث ذلك هنا، لقد أغلق السوفييت هذا المكان تماما. وخلال الحقبة السوفييتية كنّا نصلّي على قمم الجبال ونقرأ القرآن سرّاً. وكان من المحظور أن يكون عندك قرآن في ذلك الوقت. وإذا وجدوا واحدا، فإنهم يضعونك في السجن".
وأضاف: إننا نتذكّر كلمات الشيخ صادق كلّما صلّينا هنا. ولا يرتاح قلبي الا بالذكر. هل ترغب في الاستماع؟" وبدأ أبو الحسن في الغناء وفعل ذلك من كلّ قلبه وملأ غرفة الضريح بترنيمة قويّة وجميلة من الأوتار الثانوية، ارتفعت إلى ذروتها ثم تراجعت برفق مرّة أخرى. فعلَ ذلك ويداه مجوفّتان وعيناه مغمضتان، غارقاً في الدعاء. وفي الخارج، تناهت إلى أسماعنا أصوات الطيور وهي تغرّد وسط الورود وأزهار التوت واللوز.
Credits
williamdalrymple.com
williamdalrymple.com