:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، ديسمبر 24، 2009

أماكن في القلب

توماس كينكيد. ربّما لم تسمع بهذا الاسم من قبل. لكنّه اليوم احد أكثر الرسّامين نجاحا في العالم. وهو بالتأكيد الرسّام الأكثر رواجا وانتشارا في الولايات المتحدة. مناظره، التي تصوّر طبيعة رومانسية حالمة، تثير الكثير من الجدل. والناس والنقّاد منقسمون حول قيمتها الفنّية والإبداعية.
المعجبون بـ كينكيد يسمّونه "رسّام الضوء". والذين يبتاعون لوحاته يقولون إنها تقدّم لهم الجمال في عالم قبيح. وهم يجدون فيها ما لا يجدونه في الفنّ الحديث الذي يركّز على بؤس الحياة وقبحها وعدميّتها. والذين لا يحبّون لوحاته يقولون إنها ساذجة وتعكس نظرة هروبية بإغراقها في الخيال وبابتعادها عن الواقع وعن مشاكل الناس.
وبعض منتقديه يقولون انه يستخدم الدين ويستغلّ قناعات الآخرين لتحريضهم على شراء لوحاته التي "لا يمكن أن يعلّقها في بيته سوى الأشخاص الذين يهوون الديكور القديم والفنّ الأثري".
لوحات كينكيد تصوّر قمم جبال مكلّلة بالثلوج وسماوات ذهبية وحمراء ومنارات مضيئة وغابات وأنهارا حالمة وبيوتا وأكواخا مغمورة بالضوء. وهذه اللوحات ليست من ذلك النوع الذي يتطلّب منك النظر إليها طويلا كي تفهمها. كما لا يلزمك شهادة في الفنّ كي تقرّر إن كانت جيّدة أو رديئة. بعضهم يسمّيه دافنشي أو مونيه الجديد. لكن لا احد من الرسّامين الذين سبقوه استطاع أن يكسب نصف المال الذي يجنيه هذا الفنّان من بيع لوحاته.
يقال إن لوحات توماس كينكيد تُعلّق في واحد من كلّ عشرين بيت أمريكي. كما أن دخل لوحاته السنوي يُقدّر بأكثر من مائة وخمسين مليون دولار.
وقد أسّس الرسّام مشروعا إسكانيا عبارة عن قرية متكاملة الخدمات تعتمد في تصميمها وتفاصيلها المعمارية على الفانتازيا المثالية التي تصوّرها لوحاته. وخصّص القرية للمعجبين بفنّه أو الذين يريدون أن يعيشوا في عالم شبيه بالعالم الخيالي والحالم الذي يظهر في لوحاته. يقول احد الذين انتقلوا للعيش في أوّل بيوت القرية: المكان هادئ جدّا. وبإمكانك أن ترى فيه الغزلان والأرانب من النافذة. كما أن له جدرانا بيضاء ويمتلئ بالشرفات وأزهار البيتونيا".
كينكيد أوجد من خلال فنّه علاقة لامست أحاسيس الملايين من مواطنيه، وهي العيش في عالم أكثر جمالا ومثالية. غير أن بعض نقّاد الفنّ يسخرون منه ويصفون فنّه بالبدائي.
يعتقد كينكيد أن الله أعطاه موهبة كي يساعد على تغيير حياة الناس. وهو كان يدرك منذ البداية أن لديه موهبة خاصّة ستمكّنه من أن يعتاش من الرسم. "لقد وجدت الله في وقت مبكّر. كنت غاضبا ومحبطا من العالم حولي". الضوء الغريب الذي يظهر في لوحاته والذي اكسبه لقبه ينسبه الرسّام إلى الله. ومن الواضح أن معظم زبائنه هم من المتديّنين.
وكينكيد رجل عائلة متميّز. وقد اقترن بزوجته نانيت منذ 27 عاما. ودرج على إخفاء الحرف الأوّل من اسمها في مكان ما من كلّ لوحة من لوحاته. كما أن له أربع بنات تربّوا جميعا في بيت ريفي ليس فيه تلفزيون.
وبالنسبة له، فإن عمليه تجارة وبيع الفنّ هي بنفس أهمّية خلق الفنّ. وهناك مجموعة كاملة من المنتجات التي تظهر عليها صوره، مثل السيراميك وأضواء الإنارة والصحون والأواني والكؤوس والساعات والحقائب والمجوهرات.
ويقال إن كينكيد وقّع منذ فترة اتفاقا مع إحدى شركات الإنشاءات لتصميم منتجع يضمّ خمسة منازل تتخلّلها بحيرات، بحيث تبدو شبيهة بتفاصيل الطبيعة التي تصوّرها لوحته المشهورة "خلف بوابة الخريف". كما انه يملك شركة إعلانية تضمّ أكثر من 400 موظف يعملون في استنساخ لوحاته وبيعها، لأنه لا يبيع أعماله الأصلية.

المعروف أن كينكيد يرسم في العام الواحد حوالي عشر لوحات يحتفظ بأصولها في قبو خاصّ وبعيدا عن الأعين. وعملية استنساخ اللوحة تتطلّب تصويرها رقميا ثم تحويلها إلى أسطح ملحقة برقعات القماش. ثم يأتي الرسّامون البارعون في تقليد اللوحات الأصلية، ومعظمهم من اللاتين والآسيويين ممّن يتقاضون أجورهم بالساعة، فيضيفون أشرطة الألوان التي تعطي اللوحة ملمحها ورونقها الخاصّ.
يقول كينكيد: هناك نقّاد ينتقصون من شأن أعمالي على اعتبار أنها عاطفية أو وجدانية أكثر من اللازم، مع أنني لست سوى امتداد لفنّانين أتوا قبلي وكانوا يرسمون الحياة كما يحلمون بها". وهو يحبّ نورمان روكويل وآندي وارهول. كما يعتقد أن بيكاسو كان يملك الموهبة، لكنه لم يكن يستخدمها بالطريقة الصحيحة.
وجانب من جاذبية مناظره يتمثل في أنها تصوّر عالما حالما، بعيدا عن البنايات العالية ومشاكل مجتمع المدينة. وهذا هو بالضبط ما يتوق إليه اليوم أمريكيون كثر، خاصّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
الأكواخ التي شيّدها كينكيد في قريته الاستثمارية تجلب الهدوء والسلام وتعيد إلى البال ذكريات عن أزمنة أكثر عفوية وبساطة. والبيوت، التي يتجاوز عددها المائة، موزّعة إلى أربع مجموعات كلّ منها تحمل اسم إحدى بناته. وفي يوم الافتتاح أدّى كينكيد صلاة شكر دعا الله فيها أن تكون القرية مكانا لكلّ الأديان والخلفيات. "لقد كنت أؤمن لسنوات طوال بأن الارتباط الذي يشعر به الناس تجاه مناظري يمكن أن يتجسّد في مكان حقيقي".
التكنولوجيا الحديثة دخلت على قرية كينكيد. فهي مطوّقة ببوّابة كهربائية وذلك لأسباب أمنية. وقد بيع البيت الواحد بحوالي نصف مليون دولار. غير أن هناك قواعد صارمة حول ما يمكن للمالك أن يقوم به في بيته، وذلك من اجل المحافظة على فكرة القرية وعدم المساس بطبيعتها الهادئة والمسالمة.
في السنوات الأخيرة، عبرت في سماء "رسّام الضوء" بعض السحب الداكنة. فأوّلا، لا يبدو أن كلّ شخص مستعدّ لتصديق الحلم الذي بشّر به. الفنّان جوس سانشيز قرّر أن يضفي بعض المرح على أسلوب كينكيد، فأعاد إنتاج خمس لوحات من طبيعته الحالمة. وأضاف إلى بعضها دبّابة تسير فوق جسر وقناصّين مختبئين بين الأشجار المتشابكة. وعندما عرض هذه اللوحات على الجمهور تعرّض للنقد الشديد على تهجّمه وطالب الكثيرون بإغلاق معرضه. فقال معلقا: لوحات كينكيد جميلة، لكنها تنمّ عن تفكير هروبي وتزييف للواقع. كما أنها تتضمّن مستوى من الإنكار الذي يدّعي بأن كلّ شيء على ما يرام وأن الحياة وردية وليس هناك من يعاني".
ومنذ أشهر، ظهرت بعض المقالات التي تتحدّث عن جوانب مظلمة في حياة "رسّام الضوء". فقد نعته بعض الكتّاب بأنه رجل أعمال قاس "يخاف الله ويحبّ المال" عندما دفع شركاءه إلى حافّة الإفلاس المالي، في الوقت الذي كان يُتخم فيه حساباته البنكية ويسوّر عُشّه بعشرات الملايين من الدولارات.
كما تحدّث آخرون عن إدمان كينكيد على الكحول، وعن قيامه بتحسّس ثدي امرأة في حفل غنائي، وتعمّده إهانة تمثال يصوّر إحدى شخصيّات ديزني بالتبوّل على رأس التمثال في ساعة متأخّرة من إحدى الليالي بحجّة انه صنم.
وفي الفترة الأخيرة هبّت رياح الركود الباردة على أكواخ توماس كينكيد. فأغلقت بعض الغاليريهات التي تعرض أعماله أبوابها. كما انخفضت قيمة أسهم شركته في البورصة. ونتيجة لذلك، صرف الرسّام النظر عن خطط كان قد أعلن عنها من قبل تتعلّق بتكرار تجربة القرية.
حضور كينكيد تقلّص كثيرا في الأشهر الأخيرة، لدرجة انه لم يعد يملك الوقت الكافي للحديث إلى الزبائن. وأصبح يكتفي بوضع رسالة مسجّلة على الهاتف تقول: شكرا لك على تقاسم الضوء معنا"!
وليس معروفا بعد كيف سيتعامل "رسّام الضوء" مع قوى الظلام المتمثّلة في مظاهر التباطؤ الاقتصادي وتبعاته الكثيرة.

الأحد، ديسمبر 20، 2009

أفق الكلمات

جميع السلالم تؤدّي إلى أعلى وأسفل بنفس الوقت. إنها وسيلتنا للتحرّك إلى أماكن يتعذّر علينا الوصول إليها.
أحيانا تكون السلالم أداة جيّدة للملاحظة وأحيانا تكون خطرة.
الذي يصعد فوق سلّم يتعيّن عليه أن يكون متنبّها ونشطاً. السلبية لا توصلك إلى مساحات جديدة. إننا نطمح إلى أن نتحرّر من الجاذبية ومن الأرض. البعض يريد الوصول إلى السماء، النجوم، الهواء والأجزاء الخارجية لكوننا.
وطوال تاريخ الفنّ كانت السلالم رمزا لتحقيق التفوّق. فنحن نتوق دائما لأن نرتفع، لأن نذهب إلى الأعماق ونصل إلى منظور مختلف.
السماء والأرض لم تعودا موجودتين بالمفهوم القديم. فالأرض مستديرة. والكون نفسه ليست له مصاعد أو مهابط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. وهذه معضلة.
إن من الطبيعي أن نبحث عن بداياتنا؛ عن المكان الذي أتينا منه في البداية. لكن لا يجب أن نفترض أن له اتجاها واحدا. إننا نعيش الآن في "مستقبل" علمي لم يستطع الفلاسفة والحكماء المتقدّمون أن يتنبّئوا به، لكنهم فهموا جيّدا العلاقة الأساسية بين السماء والأرض التي نسيناها. الكتب القديمة تصف المراحل والاستعارات والرموز التي تطفو في كلّ مكان. الأمر أشبه ما يكون برحلة روحية نحو الإدراك والكمال.
الشمال والشرق والجنوب والغرب والمرتفع والمنخفض ليست قضايا مكانية. بالنسبة لي، هذه أشياء لها علاقة بالزمن. الماضي والحاضر والمستقبل هي في جوهرها رموز تتحرّك في جميع الاتجاهات.
إننا لا نستطيع أن نهرب من الدِين. لكن هناك فرقا بين السماء والأرض. وأحدهما لا يقود إلى الآخر بالضرورة.
هناك فنّانون كثر واجهوا مشاكل وهم في طريقهم إلى "الجنّة". وهناك فلاسفة أيضا مثل ماركس وهيغل وماو وفاغنر واجهوا نفس المشاكل. كلّهم جميعا كانوا يبحثون عن مكانهم، عن جنّتهم، عن خلاصهم من خلال الفلسفة والفنّ والدِين.
إن رقعة الرسم تمثّل فكرة الفنان عن ارتباط السماء والأرض. الفنّان يعمل هنا لكنه ينظر إلى هناك، إلى فوق. وهو يتحرّك دائما بين العالَمَين. الفنّانون يشبهون السحرة القدامى الذين كانوا يمارسون التأمّل في شجرة كي يعلّقوا أنفسهم بين السماء والأرض. اللوحة يمكن أن تغيّر الواقع باقتراح رؤى جديدة. إذ يمكنك أن تقول إن الرؤيا تجد طريقها إلى العالم المادّي من خلال اللوحة.
إنني أنظّم صوري ولوحاتي اعتمادا على مفهوم أن لا شيء ثابت في مكانه. الآلات الطائرة لعبت أدوارا مهمّة في التاريخ وكانت تمثّل طموحات العلوّ والقوّة العسكرية منذ ايكاروس إلى عصر الصواريخ المسافرة للقمر.
إن كلّ القصص عن السماء بدأت على الأرض. والسماء والأرض في لوحاتي مترادفتان. بعض اللوحات يمكنك أن تقلبها رأسا على عقب ومع ذلك ما تزال تحمل رسائلها، كما لو أن السماء والأرض تتبادلان هويّتيهما.
عندما تحفر في الأرض قد تجد شيئا ما، ماءً، نيزكا مدفونا، جرماً من السماء. هذه الأنواع من الصور تعمل دائما بين الكون الكبير والكون الصغير. مجرّة درب التبّانة التي رُصدت منذ آلاف السنين كمجموعة كبيرة ومتمدّدة، هي في الحقيقة شيء صغير في الكون. إنها تشبه بركة صغيرة موحلة على الأرض.
إن خلق سماء وأرض هي طريقة نحاول من خلالها أن نحدّد اتجاهاتنا. لكنّ الفضاء الكوني لا يفهم هذا. فكلّ شيء في هذا الكون نسبي. ما هو كبير يمكن في الحقيقة أن يكون صغيرا جدّا، وما هو أعلى يمكن أن يكون أسفل.
العلماء وصفوا النجوم وأعطوها أسماءً وأرقاما، بل وربطوا في ما بينها بخطوط تشير إلى بعد النجم ولونه وحجمه.. إلى آخره. هذه هي السماء "العِلمية". لكنها بطبيعة الحال مجرّد وهم. كلّ المجرّات والأبراج هي أوهام وأشباح. إنها غير موجودة في الواقع المحسوس. الضوء الذي نراه اليوم انبعث منذ ملايين أو بلايين السنين. ومصادر الضوء ظلّت تتغيّر باستمرار وتتحرّك وتموت.
هذه الأضواء التي نراها في السماء لا علاقة لها بواقعنا. نحن خائفون، لذا كان يتعيّن علينا أن نوجد معنى لهذا العالم. ولا نستطيع أن نتحمّل أن لا يكون هناك سماء في عقولنا. لو أن هناك سماءً حقّا لوُجِدت خارج العلم والدِين.
لذلك فالعلماء يصنعون قبّة السماء الخاصّة بهم. يريدون أن يعثروا على سماء أيضا، لكن نجومهم دائما تتحرّك، ودائما تموت، وبعضها ينفجر مكوّنا نجوما جديدة.
العلماء يشبِهون الفنّانين إلى حدّ كبير. نجومهم مثل تلك الأجزاء من الذاكرة التي تجد طريقها إلى لوحة. إنها تتوقّف فقط في اللحظة التي تثبّت عليها عينيك ثم لا تلبث أن تغيّر المكان لترى بعد ذلك شيئا آخر مختلفا.
- آنسيلم كيفر، فنّان ومفكّر ألماني