:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أغسطس 20، 2014

ديغا والحياة الحديثة/2

كانت المقاهي جزءا مألوفا من الحياة الثقافية والاجتماعية في باريس منتصف القرن التاسع عشر. وكان المقهى المسمّى دي لا نوفيل أثينا، على وجه الخصوص، مكانا للقاءات المتكرّرة التي كانت تجمع الانطباعيين وغيرهم من الفنّانين الطليعيين.
إدغار ديغا كان، هو أيضا، في قلب ثقافة المقاهي الباريسية في ذلك الوقت. وكان الإدمان على الكحول، كما هو الحال اليوم، نوعا من الطاعون الاجتماعي الذي تعاني منه بشكل خاص الطبقات العاملة. وكان هناك نوع آخر من المشروبات الكحولية الأشدّ خطرا هو الأبسنث، وهو شراب مرّ المذاق مصنوع من مستخلص نبات الشيح.
كان هذا المشروب يُعتبر من المشروبات البغيضة جدّا لما له من آثار سلبية على الجهاز العصبيّ البشريّ. ولهذا السبب، تمّ حظر إنتاجه وبيعه من قبل الحكومة الفرنسية ابتداءً من العام 1914.
أوسكار وايلد وصف الابسنث ذات مرّة بقوله: بعد أوّل كأس ترى الأشياء كما تتمنّى أن تكون. وبعد الكأس الثانية تراها على خلاف طبيعتها. وأخيرا ترى الأشياء كما هي في الواقع، وهذا هو الشيء الأكثر رعبا في العالم".
من أشهر أعمال ديغا التي تصوّر حياة المقاهي هذه اللوحة بعنوان "الابسنث" أو "في المقهى". هذه الصورة الأحادية اللون تقريبا تصوّر العزلة العارية للإنسان وتسلّط الضوء على الجانب المظلم من الحياة الباريسية، أي أجواء الخواء والحزن واليأس والعزلة المثيرة للشفقة.
ديغا يرسم في اللوحة صديقه مارسيلان ديسبوتين، وهو كاتب وفنّان بوهيمي كان يتردّد بانتظام على مقهى دي لا نوفيل أثينا. وإلى يمين ديسبوتين تجلس امرأة اسمها ألين أندريه، وهي عارضة أزياء ظهرت كثيرا في لوحات ديغا ورينوار وكانت تطمح لأن تصبح ممثّلة مشهورة مثل سارة برنار.
ديسبوتين الذي يرتدي قبّعة ويتناول كوبا من شراب الابسنث يبدو منفصلا تماما عن رفيقته وغارقا في التفكير. عيناه تحدّقان في مكان ما خارج اللوحة. المرأة أيضا تعتمر قبّعة وترتدي زيّا رسميا بينما تحدّق إلى الأسفل في خواء. وهناك أمامها كوب مملوء بسائل أصفر.
وعلى الرغم من أن الاثنين يجلسان جنبا إلى جنب، إلا أنهما يبدوان في عزلة صامتة، عيونهما فارغة وحزينة، مع ملامح تشي بجوّ عامّ من الخراب. وعندما تتمعّن في الطاولات ستكتشف أن ليس لها أرجل. إنها فقط تحوم في الهواء دون أيّة وسيلة دعم مرئية.
نساء ديغا هنّ في كثير من الأحيان في وضع غير مواتٍ، سواءً كنّ يبحثن عن العزاء في المقاهي أو يرقصن أو يغسلن أو يكوين الملابس في ظروف دون المستوى المطلوب وبأجور هزيلة. كنّ يمرضن ويمُتن وهنّ في سنّ الشباب. ولكن من خلال حياتهنّ الباهتة وأزيائهنّ البسيطة ووجوههنّ البلا ملامح، استطاعت عين الفنّان المتفحّصة أن ترى؛ ليس فقط العزلة العاطفية التي كانت تشوب حياتهنّ الخاصّة، وإنما أيضا أسبابها الكثيرة، كالفقر والنبذ الاجتماعي والأمراض الكامنة، وليس أقلّها السلّ الذي كان مستشريا في زمانه.
هذه اللوحة تُعتبر اليوم من بين أعمال ديغا الأكثر شهرة. ومثل ما تقدّم، يمكن أن تكون تصويرا للعزلة الاجتماعية المتزايدة في باريس خلال المرحلة التي كانت فيها تشهد نموّا عمرانيا سريعا. كما يمكن أن يُنظر إليها على أنها نظرة في الجانب المظلم من الحداثة أو تحذير من مخاطر الابسنث الذي أصبح محظورا في وقت لاحق.
لكن في أوّل عرض لها عام 1876 هاجمها النقّاد بعنف ووصفوها بأنها قبيحة ومثيرة للاشمئزاز. وعندما عُرضت في انجلترا عام 1893 حقّقت شهرة كبيرة بسبب عاصفة الجدل الذي أثارته في الصحافة. وقد انقسمت الآراء حولها بشدّة وأثار النقاش قضايا أساسية حول المقبول وغير المقبول في الفنّ، بينما اعتبرها كثيرون بمثابة ضربة للأخلاق. كان النقّاد آنذاك يرون أن الفنّ يجب أن يقدّم دروسا أخلاقية ترفع مستوى المجتمع.
لكن نقّادا انجليز آخرين نظروا إلى اللوحة باعتبارها تحذيرا من الابسنث ومن الفرنسيين بشكل عام. ووصف احدهم المرأة فيها بقوله: يا لها من عاهرة"!
وقد أساءت اللوحة إلى سمعة الرجل والمرأة واضطرّ ديغا لأن يقول علنا أن الاثنين لم يكونا مدمنين على المشروبات الكحولية.
تأطير اللوحة يعطي الانطباع عن لقطة سريعة أخذها متفرّج من طاولة قريبة. لكن هذا الانطباع غير صحيح، لأنه جرى افتعال تأثير الحياة الحقيقية بعناية، أي أن الصورة رُسمت في الاستوديو وليس في مقهى.
لقد تغيّرت باريس كثيرا منذ رحل عنها ادغار ديغا. لم يعد الابسنث ذلك الشراب الذي يتوهّم بعض الناس انه يعدل المزاج أو يثير كوامن الإلهام. غير أن العزلة الشعورية والعاطفية زادت وتضاعفت مع ازدياد وتيرة التصنيع وغيره من مظاهر المدنيّة الحديثة.

Credits
theartstory.org
artchive.com

الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..