:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أغسطس 15، 2015

موزارت: القدّاس الجنائزي


من أكثر أعمال الموسيقى الكلاسيكية شهرة وإثارة وغرابة القدّاس الجنائزي لموزارت. وأحد أهمّ الأسباب في كون هذا العمل مثيرا ومشهورا هو طبيعة القصص التي نُسجت حوله والتي يشبه بعضها الأساطير.
وأنت تسمع قدّاس موزارت، يُخيّل إليك انك تمشي باتّجاه حفرة كبيرة. والحفرة تقع على الجانب الآخر من هاوية لا يمكن أن تراها إلا عندما تصل إلى حافّتها.
موتك ينتظرك في هذا الجُبّ. وأنت لا تعرف هيئته ولا صوته ولا رائحته. أيضا أنت لا تعرف ما إذا كان جيّدا أو سيّئا. فقط تمشي باتجاهه.
إرادتك عبارة عن آلة كلارينيت وخطى قدميك مجموعة من آلات الكمان. وكلّما اقتربت من الحفرة، كلّما ساورك إحساس بأن أمرا ما مرعبا ينتظرك هناك.
ومع ذلك فأنت تمرّ بهذا الرعب كنوع من النعمة أو المنحة. مشيك الطويل ما كان ليكون له معنى لولا وجود هذه الحفرة في نهايته.
وأنت تحدّق في الهاوية، تسمع فجأة ضوضاء أثيرية تتهشّم فوقك. في الحفرة ثمّة جوقة كبيرة. هذه الجوقة هي المُضيف السماويّ، وفي الوقت نفسه جيش الشيطان. وهي أيضا كلّ شخص أحدث فيك تغييرا أثناء حياتك على هذه الأرض: الأفراد الكثيرون الذين أحبّوك، عائلتك، أعداؤك، والنساء البلا اسم أو ملامح اللاتي نمن في فراشك، والمرأة التي كنت تعتقد انك ستتزوّجها، والمرأة التي تزوّجتها فعلا.
وظيفة هذه الجوقة هي إصدار الحكم. الرجال يغنّون أوّلا، وحكمهم شديد للغاية. وعندما تنضمّ إليهم النساء، لا تكون هناك فترة راحة، فقط يتنامى النقاش بصوت أعلى وأكثر صرامة. إذن هو نقاش، تدرك ذلك الآن. الحكم لم يتقرّر حتى الآن. ومن المدهش كيف يتحوّل هذا الجَيَشان إلى صراع مثير على روحك التافهة.
هكذا تصف زادي سميث قدّاس موزارت. لكن ما هي قصّة هذا العمل وكيف ظهر إلى الوجود؟
في الواقع، قصّة القداس أشبه ما تكون برواية بوليسية تمتلئ فصولها بكلّ عناصر الغموض والتشويق والإثارة. ولنبدأ القصّة من أوّلها..
في احد أيّام شهر يوليو من عام 1791، وهي السنة التي توفّي موزارت في نهايتها، حدث شيء غريب. فقد زاره في بيته وهو على فراش المرض شخص مجهول قدّم نفسه على انه مبعوث من الكونت فون والسيغ. ولم يكن لموزارت سابق معرفة لا بالكونت ولا بالشخص الذي أرسله.
وأبلغ المبعوث موزارت بأن سيّده يريد تكليفه بتأليف قدّاس جنائزي يحيي به ذكرى زوجته المتوفّاة. ثمّ دفع الرجل نصف المبلغ مقدّما، وأصرّ على أن يظلّ اسمه واسم سيّده مجهولا.
كان الكونت فون والسيغ شخصا غريب الأطوار. وقد دخل التاريخ كمحتال ولصّ. كان عازف حجرة هاويا، وكان من عادته أن يكلّف المؤلّفين سرّا بتأليف أعمال موسيقية ثمّ يستلمها وينسبها لنفسه.
وقد دأب الرجل على إقامة حفلات موسيقية لأصدقائه في منزله كان يعزف خلالها تلك الأعمال المسروقة زاعما انه هو من ألّفها. وفي حالة موزارت أيضا، من الواضح أن الكونت كان يبحث عن شهرة ومجد موسيقيّ لا يستحقّهما عن طريق الادعاء بأن القدّاس من تأليفه.
موزارت، من ناحيته، قبل التكليف. لكن زيارة ذلك الغريب أنهكت عقله وهدّت جسده الذي كان منهكا أصلا بسبب كثرة العمل والكحول، وأيضا بسبب المرض الغامض الذي سيقتله بعد أشهر.


بدأ موزارت العمل على القدّاس. وفي الأثناء كانت تساوره الظنون بأن الزائر الغريب لم يكن سوى رسول أتى إليه من وراء القبر وأن الله هو من بعثه وأن الموسيقى ستكون من أجل موته.
ولهذا كرّس كلّ طاقته لإنجاز العمل. ومن فترة لأخرى، كان ينصرف عنه ليعود للعمل على مؤلّفاته الأخرى. وعندما عاد إلى القدّاس ثانية كان قد أصبح مريضا جدّا. وحينما حضرته الوفاة في فيينا في الخامس من ديسمبر من نفس تلك السنة عن 35 عاما، لم يكن قد انتهى تماما من تأليف القدّاس.
لكن بعد أيّام من وفاته، كانت أرملته كونستانزا حريصة على أن تحصل على بقيّة الأجر. ولذا قرّرت أن تعهد بالعمل سرّاً إلى عازف آخر كي ينجزه، على أن تسلّمه إلى الكونت كما لو أن موزارت نفسه هو الذي ألّفه بالكامل.
ومن أوائل من فاتحتهم بالأمر المؤلّف الموسيقيّ جوزيف ايبلر الذي كتب أجزاءً منه قبل أن يعيده إلى كونستانزا. ثمّ سلّمته إلى فرانز سوسماير تلميذ موزارت وصديقه المقرّب الذي أضاف إليه وعدّل فيه بما يناسب طبيعته كـ قدّاس.
سوسماير كتب الحركات الأربع الأخيرة من القدّاس بما فيها القطعة المسمّاة لاكريموزا، أي الحِداد (الأولى فوق). لكن طريقته في إعادة بناء العمل كثيرا ما تعرّضت للانتقاد، وقيل انه لم يجوّد عمله ولم يكن "موزارتيّاً" بما فيه الكفاية.
في القدّاس أجزاء مظلمة وتضجّ بالحزن، وأحيانا بالثورة. لكن فيه أيضا أجزاءً مليئة بالسموّ والجمال. خذ مثلا المقطع المسمّى ريكوردير ، أو "تذكّر". الموسيقى هنا حميمة، رقيقة وذات جمال فتّاك. ثمّ إن هذا المقطع يمثّل الرؤية الوحيدة في القدّاس عن عالم لم يفسده الألم والحزن؛ لحظات عابرة من الصفاء لا تدوم طويلا. والحقيقة أن هناك غموضا فاتنا في هذا الموسيقى التي تحرّك الوجدان وتهزّ المشاعر بعمق.
بموازاة قصّة موزارت مع الكونت، راجت أسطورة أخرى لا تقلّ إثارة. وقد بدأت هذه الأسطورة بعد وفاة موزارت بأربعين عاما، أي عام 1830، عندما كتب الشاعر الروسيّ الكسندر بوشكين دراما قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري"، زعم فيها أن الأخير قام بتسميم موزارت عند إتمامه القدّاس. ثم تعزّزت القصّة أكثر عندما ألّف الموسيقيّ الروسيّ ريمسكي كورساكوف قطعة تتحدّث عن تلك المؤامرة المزعومة.
في فيلم "اماديوس" للمخرج ميلوش فورمان، يظهر سالييري وهو يأخذ القدّاس من موزارت وينسبه لنفسه. وسالييري يُصوّر في الفيلم كشخص نذل وحاقد وحسود يسعى لإبعاد موزارت عن الرعاة والجمهور قبل أن يقوم بقتله بالسمّ.
أما موزارت فيظهر في الفيلم كشخص غير ناضج ومجنون ومهووس بالجنس والشراب. وهذه الأوصاف في الحقيقة ليست بلا أساس. فموزارت كان، من عدّة وجوه، يشبه الطفل في تصرّفاته، تماما كما هو الحال مع معظم العباقرة.
طبعا اليوم ليس هناك سوى عدد قليل ممّن يؤمنون بنظرية المؤامرة والسم. صحيح أن ثمّة من يقول إن سالييري اعترف بالجريمة، لكن هذا حدث بعد أن أصبح شيخا هرِما وبعد أن أصابه الخرف بعد محاولة انتحار. غير أن المقرّبين منه ظلّوا ينكرون تماما انه صدر منه مثل ذلك الاعتراف.
وعلى الأرجح فإن موزارت مات متأثّرا بإصابته بمرض مُعدٍ بعد أن أنهك جسده لأشهر بسبب إسرافه في الكحول ومعاناته من مرض السيفلس.

Credits
classicalnotes.net
baroque.org