:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يناير 08، 2010

فنجان قهوة


في مكان ما من هذه المدوّنة، كانت هناك إشارة عارضة إلى القهوة في سياق الحديث عن النباتات العطرية. وأتذكّر أن قارئا قال وقتها إن رائحة القهوة هي من أجمل الروائح التي أودعها الله في الطبيعة.
وأستطيع أن أقول إنني، مثل الكثيرين، متيّم بالقهوة رائحة ومذاقا. وأصبحت مع الأيّام خبيرا بنكهاتها وأنواعها ومذاقاتها التي تختلف باختلاف طبيعة المكوّنات والإضافات التي تُستخدم في صنعها.
الفكرة التي تخطر في البال عند الحديث عن القهوة هي أنها فنّ. نعم، القهوة فنّ، لا اقلّ ولا أكثر. كما أنها أصبحت نوعا من أنماط الحياة التي لا يمكن الاستغناء عنها. واللافت للانتباه هو أن القهوة موجودة بالفعل في طعام الإنسان منذ أكثر من ألف عام. وهناك من يقول إنها المشروب الأكثر استهلاكا في العالم اليوم، كما أنها ثاني أكثر السلع تداولا بين البشر بعد البترول.
وأعرف، بالمناسبة، زميلا لا يمكن أن يوقظه من نومه سوى شيئين: صوت فيروز ورائحة القهوة. طبعا معظمنا يحبّ فيروز ويطرب لسماعها، خاصّة في أوقات الصباح. وبالنسبة لي، اعتبر سماع أغنية لفيروز في الصباح خاصّة، بشير فأل وفاتحة خير.
لكن لنبقَ في موضوع القهوة. قبل فترة قرأت خبرا يمكن أن يفسّر سرّ تأثير القهوة وكيف أن رائحتها يمكن فعلا أن تكون كافية لإيقاظ الإنسان من النوم. فقد اكتشف العلماء أن استنشاق رائحة القهوة يعمل على تنشيط عدد من الجينات في جسم الإنسان دفعة واحدة. وبعض هذه الجينات أو المورّثات لها علاقة بمقاومة الإجهاد والتعب الذي يسبّبه الحرمان من النوم.
في أكثر من مناسبة كنت اسمع أشخاصا يقولون إن رائحة القهوة أفضل بكثير من مذاقها. والحقيقة انه يصعب تأكيد هذه الفرضية أو نفيها من الناحية العلمية، وإن كنت أميل إلى تصديقها. وقد ثبت علميا أن انف الإنسان يستطيع التمييز بين أكثر من عشرة آلاف نوع من الروائح. وأتصوّر أن بعض الحيوانات تتفوّق على الإنسان من هذه الناحية.
ويقال إن خبراء العطور اعتادوا من وقت لآخر أن يستنشقوا رائحة القهوة لأنها تصفّي الأنف من الروائح العالقة بها وتساعدهم على شمّ المزيد من روائح العطور المختلفة بغرض اختبار وتقييم مدى صلاحيّتها وجودتها.
يوهان برامز، الموسيقي الكلاسيكي الألماني المشهور، عُرف بحبّه الشديد للقهوة. كان دائما يفضّل القهوة "السادة" أو السوداء دون إضافات. طبعا، في ذلك الزمان لم يكن الناس قد سمعوا بالاسبريسو والكابتشينو والموكاتشينو وجوفريز ودنكن دونتس وغيرها من أنواع وماركات القهوة المتداولة هذه الأيام. لكن يقال أن برامز كان يثني دائما على القهوة وينسب لها الفضل في شحذ ذاكرته الموسيقية وإلهامه في إبداع الكثير من المقطوعات والمؤلفات الموسيقية. ترى، هل تكون القهوة هي السرّ في أن سيمفونيات هذا الموسيقي بالذات طويلة جدّا مع كونها ممتعة ومتنوّعة في صورها وإيقاعاتها وألوانها؟



فتنة القهوة لا تقتصر على الموسيقيين فحسب. بل يمكن الحديث عن ما يسمّيه البعض "أدب القهوة". فهناك عدد لا يُحصى من الكتب المكرّسة للحديث عن القهوة من زوايا مختلفة ومتعدّدة. المستشرقون أيضا أتوا على ذكرها في كتبهم، كما أن لها حضورا كبيرا في العديد من المؤلفات الطبّية والكتب التي تتحدّث عن خصائص الأعشاب والنباتات العطرية.
ويقال إن فولتير، الفيلسوف والأديب الفرنسي المعروف، كان يشرب أكثر من أربعين كأسا من القهوة يوميا. ولشدّة انجذابه إلى القهوة، ألّف عنها كتاباً. بلزاك أيضا كان مفتونا بحبّ القهوة ولطالما أثنى على مزاياها وكان دائما يربطها بحركة الأفكار وبتذكّر الأشياء والأشخاص والمواقف.
ولأن أصل القهوة جزيرة العرب، فإن لها أهمية خاصّة في الثقافة العربية، وقد أصبحت مع مرور الأيّام رمزا للكرم وحسن الضيافة. ويمتلئ الموروث الشعبي بالكثير من الإشارات التي تتغنّى بالقهوة وما يرتبط بها من عناصر كالعنبر والزعفران والهيل والمسمار "أو القرنفل" والدِلال، وكذلك الأحاديث التي تتخلّل طقوس ومجالس شرب القهوة.
ولعلّ أشهر من نظموا شعرا في مديح القهوة شاعر العجمان وفارسهم راكان بن حِثلين الذي يقول في مطلع إحدى قصائده: يا ما حلا الفنجال مع سيحة البال، في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثِقِيلة. هذا ولد عمٍّ وهذا ولد خال، وهذا رفيقٍ ما لقينا مِثيله".
وفي الكثير من الأعمال الموسيقية وحتى المسرحية، هناك دائما عنصر قهوة.
وبالتأكيد يتذكّر معظمنا بعض الأغاني العربية المشهورة التي تتحدّث عن القهوة وما يرتبط بها من قصص بطولة وفروسية وحالات توق وعشق.. إلى آخره، مثل هذه الأغنية وهذه.
غير أن هناك بعدا آخر للقهوة قد يكون أكثر أهمّية من كلّ ما سبق. فالقهوة كانت عنصرا مهمّا في تغيير ملامح الحياة الاجتماعية والثقافية والتجارية في المجتمعات الحديثة. لنتذكّر مثلا ستاربكس وغيرها من بيوت القهوة الكبيرة والمشهورة. هذه البيوت وفروعها الكثيرة والمختلفة كانت وما تزال ملتقى للناس من مختلف طبقات وفئات المجتمع. والكثير من القرارات المهمّة، وربّما المصيرية، اتخذها أفراد كانوا يجلسون حول طاولة ويحتسون القهوة ويتبادلون الحديث في ما بينهم.
بعض من اعرفهم ممّن يفهمون أسرار القهوة أكثر منّي يقولون إن رائحة القهوة القديمة والمعتّقة لم تعد موجودة اليوم مع كلّ هذه الأصناف الكثيرة والمتنوّعة من القهوة التي تغلب عليها نكهة التوابل والشاي والشوكولاتا والكريمات وغير ذلك من الإضافات وطرق التحضير المبتكرة وأحيانا الغريبة.
وأظنّ أن لهذا الرأي ما يبرّره. فهناك الآن في العالم أكثر من ألف صنف من القهوة. وحتّى المحلات التي كانت منذ سنوات متخصّصة في تقديم القهوة حصرا تحوّلت الآن إلى مطاعم للوجبات الخفيفة سعيا وراء توسيع الأرباح وجذب المزيد من الزبائن. وأصبح الزبون لا يشمّ فيها سوى روائح الخبز المحمّص والأجبان من كلّ شكل ولون بينما اختفت رائحة القهوة الحقيقية وتحوّلت إلى منتج ثانوي.
الشيء اللافت والجميل، بنفس الوقت، هو أن ظاهرة بيوت القهوة تحوّلت في الكثير من البلدان التي تتوجّس خيفة من أيّ تجمّع مدني مهما كان بريئا إلى منتديات اجتماعية وثقافية حقيقية يناقش فيها الناس همومهم ومشاغلهم على فنجان قهوة وفي أوضاع مسترخية وبعيدة إلى حدّ ما عن القيود والرقابة المشدّدة.
من الناحية الطبّية، ثبت أن القهوة تحدّ من إمكانية إصابة الإنسان ببعض أنواع السرطان ومرض باركنسون والسكّر وبعض اعتلالات الكبد. كما ثبت أنها تقوّي المزاج وتمنع نوبات الصداع وتخفّف من مضاعفات الربو وتساعد على التركيز الذهني.
وبطبيعة الحال ومثل كلّ شيء آخر، هذا مشروط بالاعتدال وتجنّب الإسراف في تناولها.

الخميس، يناير 07، 2010

محطّات



حوالي منتصف القرن الخامس عشر، كان يعيش في نابولي فنّان شابّ ولامع. كان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة وكان اسمه انتونيللو دي ميسينا. وإلى هذا الشابّ يعود الفضل في إدخال تقنية الرسم بالألوان الزيتية إلى ايطاليا والتي أخذها عن الرسّام الهولندي يان فان ايك. لوحة انتونيللو بشارة العذراء كانت الدليل الأقوى على إجادته وإتقانه لتلك الحرفة.
وقد ولد انتونيللو في ميسينا بـ صقلية وأصبح اسم مدينته ملحقا باسمه فصار انتونيللو دي ميسينا. وأهمّية الرسّام ليست فقط في اختراع وسيط جديد وإنما في ابتكار أسلوب جديد في الرسم.
في ذلك الوقت كانت الجداريات هي الوسيلة المهيمنة في رسم المناظر والبورتريهات الدينية. كان رسم جدارية يتطلّب ملء الجدار بالجبس المبلّل والأصباغ التي تجفّ بسرعة مع ما ينطوي عليه ذلك من جهد وصبر.
لكن اللوحات الزيتية لم تكن تتطلّب شيئا من ذلك. إذ كانت تُحمل بسهولة وتستغرق وقتا أطول حتى تجفّ ويلزمها مهارة اقلّ. وفي الحقيقة كان وقت جفافها الطويل نسبيا بمثابة رصيد ثمين بالنسبة للرسّام. فقد كانت تسمح بمزج الألوان إلى ما لا نهاية وجعلها تبدو مشعّة. كما كانت الألوان الزيتية أكثر تسامحا مع الأخطاء من الوسائط اللونية القديمة.
انتونيللو اثبت إلى درجة لا تصدّق تنوّع استخدام الألوان الزيتية والتأثيرات البصرية الهائلة التي يمكن أن يحقّقها الرسّام من خلال استخدامها.
وقد كلفه بعض أهالي فينيسيا برسم لوحات وبورتريهات دينية في الكنائس سرعان ما أصبحت تفتن الناس ببريقها الأخّاذ ومرونة شخوصها.
وهرع إليه رسّامون مثل بيلليني ومانتينا كي يتعلّموا منه الرسم بطريقة أفضل وأكثر سطوعا.
وفي ما بعد عزا كلّ من جورجيوني وتيشيان الكثير من نجاحهما إلى انتونيللو وتأثيره.
وانتشرت أعماله بعد ذلك إلى ميلانو حيث تأثّر به الشابّ ليوناردو الذي كان ما يزال وقتها يتلمّس طريقه في الرسم.
ومن المفارقات الغريبة أن هذا الفنان باكتشافه الألوان الزيتية كان احد العوامل الأساسية في تأجيج تلك العبقرية المدهشة التي اتسم بها الرسم الايطالي خلال ما أصبح يُعرف في العصور التالية بعصر النهضة الشمالية.


هذه قصّة كلاسيكية، لكنّها معروفة. السؤال: هل يمكن أن يموت الإنسان من كثرة الجنس؟ هذا ما حدث للفنّان الايطالي الموهوب رافائيل، طبقا لكاتب سيرته في القرن السادس عشر جورجيو فاساري.
يروي فاساري في كتابه "حياة الفنّانين" أن رافائيل، الذي مات في سنّ السابعة والثلاثين وهو في أوج مجده، أسقطته عاطفته المشبوبة. هذا الرأي نجد له صدى في القرون الوسطى التي شاعت فيها فكرة تقول إن صحّة الإنسان تعتمد إلى حدّ كبير على خلق توازن دقيق بين مزاج الإنسان وعواطفه.
ويقال إن رافائيل جنت عليه كثرة الحركة في السرير. طبعا هذه مجرّد نظرية. لكنّ فاساري يورد تفاصيل عن الحياة العاطفية لـ رافائيل. فالرسّام الشاب والموهوب والوسيم كان شغوفا كثيرا بمحبوبته لدرجة انه أصرّ على أن يُسمح لها بالعيش معه في الفيللا التي كان يسكنها في روما عندما كان مكلّفا برسم بعض جدارياته.
لا جنس، إذن لا جداريات! هذا كان شرطه. والواقع أن قصّة علاقة رافائيل مع لا فورنارينا كانت مصدر فتنة للفنّانين على مرّ العصور.
في إحدى لوحاته، يصوّر جوزيف تيرنر رافائيل وهو يكشف عن لوحاته الأخيرة بينما تتبعثر حُليّ "لا فورنارينا" على الأرض. وفي الخلفية تبدو بعض معالم الفاتيكان.
كان رافائيل الرسّام المفضّل عند الباباوات. والحقيقة أن فكرة أن يمارس رسّام الكنائس الرائع الحبّ مع عشيقته في الفاتيكان كانت كفيلة بإلهاب مخيّلة تيرنر كما فتنت بيكاسو بدرجة اكبر.
وقبل وفاته بفترة قصيرة، رسم بيكاسو عدّة لوحات يصوّر فيها رافائيل وحبيبته وهما يلهوان بينما يختبئ مايكل انجيلو تحت سريرهما.
ويبدو أن أسطورة رافائيل الشهواني دوّخت الفنانين. لكن هل يمكن أن تكون القصّة حقيقية؟
احد الخيارات هو أن نرفض القصّة من أساسها على اعتبار أنها مجرّد حكاية إباحية مثيرة. لكن يتعيّن علينا أن ننظر إلى بورتريه رافائيل بعنوان امرأة متكشفة. ترى، هل هي لا فورنارينا؟
في قصر باربيريني في روما تقف المرأة مستعرضة جمالها بطريقة كلاسيكية وحميمة في الوقت نفسه. وهي ترتدي ربطة ذراع تعلن من خلالها أنها له. انه إعلان لا ينقصه الغموض عن الرغبة. فهي ليست متجردة مثالية أو بعيدة المنال. لكنها عشيقة الفنّان نفسه.
الأمر المؤكّد هو أن الجنس لم يقتل رافائيل. بل قد يكون العامل الذي حافظ على بقاء فنّه حيّاً.


الهدوء الذي يحيط بـ نابولي والاضطرابات "التكتونية" تحتها هي تعبير مثالي عن حقيقة انه لا يمكن الاعتماد على ما تراه أعيننا ظاهريا.
نظرت ذات يوم إلى لوحة جوزيف رايت اوف ديربي المذهلة بعنوان بركان فيزوف في حالة ثوران. كنت قد تعجّبت قبل ذلك من وابل الأضواء الذهبية والنيران الوردية المنبثقة من ظلمة الغيم والدخان في اللوحة. الفارق بين المنظر الذي رأيته بعينيّ في نابولي وبين صورة البركان في اللوحة كان مبعث حيرة بالنسبة لي.
فيزوف هو بالتأكيد أشهر بركان في العالم. بيليني الأكبر، عالم الطبيعة القديم، لقي حتفه وهو يراقب ثوران البركان في العام 79 قبل الميلاد والذي تسبّب في تدمير مدينة بومبي بالكامل. وقد وصف ابن أخيه اندفاع البركان في رسالة ما تزال إلى اليوم مرجعا مهمّا لعلماء البراكين.
بركان فيزوف هو بركان نشط، وما يزال قادرا على نفث الدخان والأبخرة. وقد فعل هذا آخر مرّة في أربعينات القرن الماضي. ويقال إن ثوران البركان تأخّر كثيرا. ليس هذا فقط، بل إن المشهد بأكمله حول نابولي مليء بالحفر والموادّ المنصهرة. فالمدينة تقع على خطّ الصدوع بين إفريقيا وأوربّا، وكانت وما تزال في قلب اهتمامات علماء الجيولوجيا.
يقول ريتشارد فورتي في كتابه "الأرض" إن منطقة شمال نابولي هي أكثر قابلية للانفجار من فيزوف نفسه. وما يزعج حقّا هو هذا السؤال: إذا كانت هذه التضاريس خطرة جدّا، لماذا لا نستطيع رؤية الأخطار عيانا؟
أو بتعبير أدقّ: لماذا يصعب علينا أن نتخيّل رؤية فيزوف وهو ينفجر عندما ننظر إليه اليوم؟
النظر عبر خليج نابولي يحيلنا إلى منظر جميل وهادئ. وهناك جبل مؤطّر وحسن الشكل في مواجهة سماء زرقاء. لا يمكن رؤية دخان أو نار. وسيحتاج الأمر لمعجزة كي تكتشف كم أن سكون المكان مخيف وصمته شرّير.
اعتقد أن هذا يقول لنا شيئا مهمّا عن وظيفة النظر. فنحن عادة نصدّق ما نراه ونميل إلى أن نعتقد في الوقت نفسه أن النظر بجدّية واهتمام يمكن أن يوفّر لنا اكتشاف الحقيقة.
غير أن كثيرا من الحقائق هي ببساطة غير مرئية. وهناك مظاهر عديدة خادعة ولا تعبّر عن حقيقة الأشياء.
وفيزوف، الذي يخفي عنفه تحت مظهره الهادئ، هو كناية واضحة عن أن ما نراه بأعيننا أحيانا لا يمكن الركون إليه لأن الواقع قد يكون غير ذلك.


رسم تيشيان نساءً عاريات في لوحاته المبكّرة. ثم رسم المزيد من تلك اللوحات في شيخوخته المتأخّرة. لذا يمكن القول إن فنّ هذا الرسّام الايطالي هو في حقيقة الأمر مزيج من شغب الحبّ وسعار الشهوة.
لوحة ديانا و اكتيان، هذا المهرجان الباذخ من الأضواء والأجساد، هي احد أعظم الأعمال الفنّية الأوربية. كما أنها جوهرة في تاج لوحات هذا الرسّام العظيم والنادر.
لكن لماذا كرّس الفنّان الفينيسي الكثير من عبقريته للجنس؟
رسم تيشيان الكثير من اللوحات الدينية والعديد من البورتريهات التي قلّدها الرسّامون الذين جاءوا بعده عبر قرون. لكنّك لا تستطيع تجنّب إغراء تيشيان عندما تنظر إلى مجموعة أعماله الكاملة.
في إحدى لوحاته المبكّرة يرسم تيشيان شابّين في نزهة مع امرأتين. الرجلان يرتديان ملابس جميلة بينما المرأتان لا ترتديان شيئا. وضعية المرأتين رُسمت بطريقة ذكيّة بحيث تخفي صدرهما.
لكن قبل أن تستنتج أن تيشيان رجل خجول عليك أن تكمل القراءة. لوحة فلورا توضح أن الإخفاء والكشف بالنسبة للرسّام هما تكتيكان بارعان ضمن لعبة فنّية وحسّية. فلورا ترتدي لباسا ابيض ينحسر عن احد كتفيها ليكشف عن جزء من ثديها. إن ما نراه هنا هو عبارة عن فعل غواية واضح ضمن حركة تصويرية مذهلة.
في لوحة حبّ مقدس وحبّ دنيوي، يقارن تيشيان بين امرأة جميلة ترتدي ملابس نفيسة وقرينتها التي تكشف عن جسدها بالكامل تقريبا.
في فينوس اوربينو يرسم الفنّان امرأة مجهولة تضطجع على سريرها كاشفة عن جسدها الذي يبدو في تمام سحره وكماله. صورة حميمية أخرى تأخذك إلى الوراء وقد تثير شجونك. هنا أيضا، كما في كلّ لوحات تيشيان الحسّية، ثمّة حبّ ممزوج برهبة.
ديانا و اكتيان التي رسمها بعد حوالي عشرين عاما من رسْمه فينوس اوربينو ربّما تكشف عن حنين الرسّام في سنّه المتأخّرة لأجساد النساء. وفي لوحاته المكشوفة التي رسمها قبل ذلك، يبدو تيشيان وكأنه يتعمّد منح الناظر الجسد بكامل امتلائه وجرأته.
فلورا وفينوس اوربينو صلبتان وحقيقيّتان. جسد الإلهة المستحمّة وأجساد رفيقاتها الأخريات في دايان و اكيتان تبدو أكثر مراوغة وغموضا. انه الجسد بحدّ ذاته وليست النساء اللاتي يظهرن في هذه اللوحة.
لوحات تيشيان المتكشفة والمثيرة ربّما تعبّر عن تهويمات الفنان وتخيّلاته الفانتازية بعد أن انطفأت عاطفته ودخل خريف العمر.


نرسيس، أكثر أبطال الأساطير الإغريقية مأساوية، لم يمت كسير القلب كما يقال، بل انهار في بركة من الدماء بعد أن أقدم على الانتحار، بحسب ما يقوله مخطوط قديم عُثر عليه مؤخرا.
المخطوط يتضمّن قصيدة قديمة تقول شيئا مختلفا عن ما أورده الشاعر الروماني اوفيد في كتابه التحوّلات.
والآن يعتقد العلماء أن اوفيد قام بتعديل الأسطورة كي يوسّع جاذبيّتها.
كان نرسيس شابّا رائع الجمال، لدرجة انه حتى الرجال كانوا يقعون في حبّه. لكنّه كان يحتقر الجنس. كما أن إعجابه المفرط بنفسه جنى عليه في النهاية ولم يورّثه سوى الأسى والخيبة.
وحسب اوفيد، فإن نرسيس حُكم عليه بأن يحدّق إلى الأبد في صورته المنعكسة في غدير ماء. ثم هام على وجهه إلى أن مات. وبعد أن مات تحوّل إلى أوّل زهرة نرجس نبتت على الأرض.
ويُعتقد أن الأسطورة ظهرت في المجتمع اليوناني القديم المعروف بتحرّره الجنسي. كان الغرض من اختراع الحكاية التحذير ممّا يمكن أن يحدث للشباب الذين يتميّزون بالجمال وحسن الخلقة إن هم رفضوا تودّد أقرانهم الأكبر سنّاً!
تقول القصّة إن الكثير من النساء وقعن في حبّ نرسيس، لكنه رفضهن جميعا. إحدى هؤلاء واسمها ايكو "أو الصدى" أصابها كرب شديد نتيجة تمنّعه عنها وانسحبت إلى بقعة مهجورة. وهناك تلاشت تدريجيا إلى أن لم يبق منها سوى همسة حزينة.
وقد سمعت الإلهة صلوات النساء اللاتي رفضهن ودعواتهن للانتقام منه، فحكمت على نرسيس أن يقع في حبّ صورته المنعكسة في الماء.
وبالرغم من كون نرسيس شخصية أسطورية في الأساس، إلا انه كان لهذه الأسطورة تأثير هائل على الثقافة الإنسانية وعلى الفنّ والأدب وعلم النفس بشكل خاصّ.