:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 21، 2005

رسائل غيرترود بيل

غيرترود بيل كاتبة وشاعرة ورحالة ومصوّرة وعالمة آثار بريطانية ولدت في العام 1868م، وُعرف عنها زياراتها المتكّررة من 1899-1914م إلى بلدان الشرق الأوسط حيث قامت بعدة مهمات للتنقيب عن الآثار.
تعلّمت بيل الفارسية والعربية وكتبت عن رحلاتها. ومن أشهر كتبها "ألف كنيسة وكنيسة" و"قصر ومسجد الاخيضر"، بالإضافة إلى ترجمتها المحكمة لديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي والتي تعتبر بإجماع نقاد الأدب افضل ما ُترجم من الشعر الفارسي إلى الإنجليزية.
وأدّت معرفة غيرترود بيل الجيّّدة بالمنطقة إلى التحاقها بالمخابرات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى. وفي 1915 ُعيّنت في المكتب العربي بالقاهرة والذي كان معنيا بجمع المعلومات المفيدة في محاولة لحشد العرب وتحريضهم ضد الأتراك.
وكانت بيل المرأة الوحيدة في ذلك المكتب نظرا لمعرفتها بالأصدقاء والأعداء المحتملين، كما التحقت فيما بعد بالبعثة الاستكشافية البريطانية في البصرة وبغداد.
وفي 1920م أصبحت سكرتيرة للسير بيرسي كوكس المفوّض السامي البريطاني في العراق ولعبت دورا بارزا في ترسيخ الأسرة الهاشمية هناك عندما اصبح فيصل أوّل ملك على العراق سنة 1921.
وفيما بين 1923 و 1926 م أسّست متحفا آثاريا في بغداد وأصبحت مديرة للآثار في العراق.
اشتهرت غيرترود بيل باعتبارها ملكة العراق غير المتوّجة، وكانت ذات يوم أقوى امرأة في الإمبراطورية البريطانية. كما كانت مستشارة للملوك ورؤساء الحكومات وصديقة حميمة للشيوخ العرب.
والحقيقة أن معرفتها الجيدة بأحوال العراق وبلاد فارس كانت مفيدة للغاية حتى في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى. ويروى أن ونستون تشيرتشل عندما ُعيّن وزيرا للمستعمرات سنة 1921م استدعى كبار الخبراء في شئون الشرق الأوسط إلى مؤتمر في مصر ليحدّد مستقبل بلاد الهلال الخصيب. وقد دعا لتلك الغاية 39 رجلا وامرأة واحدة هي غيرترود بيل.
وقد لعبت كما ورد آنفا دورا رئيسيا في رسم حدود دولة العراق الناشئة وفي اختيار حاكمها الأول الأمير فيصل. ولسنوات طوال كانت غيرترود بيل المستشار الشخصي والسياسي الأقرب لفيصل.
لقد أحبّت غيرترود بيل العراق كثيرا وطاب لها المقام فيه وكوّنت هناك الكثير من الصداقات.
تقول في إحدى رسائلها إلى والدها: لست مهتمة بالعودة إلى لندن، فأنا احبّ بغداد. إنها الشرق الحقيقي وهي مثيرة ورومانسيتها تغمرني وتحتويني".
في أواخر حياتها بدأت غيرترود بيل تحسّ بالوحدة واستولت عليها نوبات متكرّرة من الإحباط. ويعتقد على نطاق واسع أنها أقدمت على الانتحار.
والمعروف أنها لم تتزوّج طيلة حياتها رغم أن علاقة وثيقة ربطتها بأحد الأشخاص في المراحل الأخيرة من حياتها. لكن رفض الرجل تطليق زوجته - وهو الشرط الذي وضعته غيرترود بيل - حال دون تتويج تلك العلاقة بالزواج.
وقد خلفت غيرترود بيل وراءها أرشيفا ضخما من الرسائل وحوالي 7000 صورة فوتوغرافية عن المظاهر الاثنية والأنثروبولوجية في منطقة الشرق الأوسط.
وتظهر في صورة لها التقطت سنة 1921 ، أي قبل وفاتها بخمس سنوات، وهي تمتطي جملا أمام تمثال أبي الهول وقد أحاطها كل من لورنس العرب وونستون تشرتشل الذي بدا مرتبكا بعد أن انزلق بسرعة عن ظهر جمله قبيل التقاط الصورة.
وبعد وفاتها بسنة، تم نشر رسائل غيرترود بيل في العام 1927م. وتحكي بيل في رسائلها الخاصة تفاصيل الكثير من الأحداث الهامّة التي لعبت دورا مهمّا في تاريخ العراق الحديث.
تقول في إحدى رسائلها لوالدها: جلسنا، فيصل وأنا وآخرون، نناقش موضوع علم الدولة وعلم فيصل الشخصي. وبالنسبة للعلم الأخير اقترحت عليه علم الحجاز مع صورة تاج ذهبي على مثلّث أحمر. واللون الأحمر بالمناسبة هو لون منزل فيصل نفسه. ولا أدري يا أبي إن كانت لديك اقتراحات أخرى بشأن علم فيصل".
وفي رسالة أخرى تسهب بيل في وصف ما جرى عقب تنصيب فيصل ملكا على العراق. تقول: من المدهش فعلا أن ترى كافّة العراقيين من الشمال إلى الجنوب مجتمعين هنا. للمرّة الأولى في التاريخ يحدث مثل هذا. لذا عدت إلى المكتب وتناولت الأفكار مع السير كوكس وعائلته ثم استقبلنا الحشود التي جاءت لتبادل الحديث. أحد هؤلاء كان السيد علي سليمان شيخ الدليم. وقد سمعت أن عددا من أعيان القبائل جاءوا من أماكن بعيدة، فقط لكي يروا السير بيرسي الذي لم يكونوا قد رأوه من قبل".
وتضيف: الحقيقة أن السير بيرسي رجل مهيب حقا بطوله الفارع وحضوره القوي. كان يبدو لطيفا وخيّرا لكنه كان قويّا جدّا. أما النقيب فرجل يربو عمره على الثلاثين ويرتدي جلابية خضراء وهو قليل الشأن إلى حدّ ما، لكنه ينحدر من نسل الرسول. وعائلة النقيب تحتفظ بوظيفة النقابة التي أعطاها لها تيمورلنك، وكل ذلك مكتوب باللغة التركية الجاغاتية التي لا يمكن قراءتها، أي أنها وثيقة من عصر محترم!".
أما أسياد الموصل – تضيف بيل - فيمثلون جزءا مهما من تركيبة المدينة. وهم جميعا ينحدرون من أصول واحدة، وقد أتوا إلى الموصل منذ حوالي 800 سنة.
وبين هؤلاء وقف عبد اللطيف المنديل وهو رجل نجدي ذو ملامح عربية حادّة وجميلة. وكان والده قد جاء إلى البصرة واستقرّ فيها، وهو اليوم يعتبر أكثر الأشخاص نفوذا وقوّة في المدينة. والمنديل هو الذي كتب الالتماس الذي أرسله الأهالي هناك يطلبون فيه البقاء ضمن الدولة الجديدة. لماذا؟ لأنه تاجر كبير ويريد أن يصطاد السمك في مياه أكثر هدوءا من المياه التي تمرّ عبر الممالك العربية.
وعلى الغداء شرح المنديل وجهة نظره بأسلوب تعبيري جميل ومقنع".
وفي رسالة أخرى تكتب غيرترود بيل: كنت قد قضيت ساعتين مع فيصل يوم أمس وقد دعاني لتناول الشاي. وأريته الصور التي التقطناها أثناء رحلتنا كما أحضرت معي خريطة سوريا التي نشرتها التايمز وتشرح الطريقة التي قسّم فيها الفرنسيون سوريا إلى مقاطعات منفصلة. وتأمّل فيصل الخريطة مليّا ثم أقسم قائلا: بإذن الله هذا لن يحصل! ومن جانبي قلت إن الأمل الوحيد لسوريا هو أن نظل هادئين وننصرف إلى شئوننا. وعندما نحوّل العراق إلى دولة نموذجية فإن العرب جميعهم وليس عرب سوريا وفلسطين فقط سيأتون إلينا معبّرين عن رغبتهم في أن يكونوا جزءا منا. وقبل أن أموت أتمنى أن أرى فيصل يحكم المنطقة الممتدّة من تخوم الخليج الفارسي إلى سواحل المتوسط. لكن إذا أثرنا الموضوع ورفعنا أصواتنا بالاحتجاج فإننا سندمّر سوريا والعراق معا".
عندما ماتت غيرترود بيل بفعل جرعة زائدة من الأقراص المنوّمة في سن الثامنة والخمسين، اندفعت حشود العراقيين على بغداد لكي يلقوا على جثمانها نظرة الوداع الأخير..

الثلاثاء، يوليو 19، 2005

شبح في الظلام

سمعتُ الكثير من قصص الأشباح ومغامراتها. وأعرف أن مخيّلة الكثيرين منّا تزدحم بالعديد من تلك الحكايات والقصص الغريبة. ومع ذلك كنت كثيرا ما أتحفّظ في تصديقها أو أخذها على محمل الجدّ.
لكنّ صديقا أثق به كثيرا وطالما عرفتُ عنه صدقه وعقلانيته حكى لي منذ أياّم عن واقعة غريبة حدثت معه شخصيا منذ بضعة أعوام.
قـال: في صيف عام 1997 قرّرتُ ترك الشقّة التي كنت اسكنها والانتقال إلى بناية أخرى في حيّ آخر يقع على أطراف المدينة الكبيرة. ولم يكن في البناية التي انتقلت إليها سوى شقّتين كبيرتين: واحدة في الطابق العلوي والثانية تشغل الطابق الأرضي بأكمله. والأخيرة هي التي اخترتها مكانا لسكناي وعائلتي. وقد علمتُ أن كثيرا من بنايات ذلك الحيّ كانت في الماضي عبارة عن مكاتب وعيادات طبية تم تحويلها فيما بعد إلى شقق سكنية.
وانتقلنا، أنا وزوجتي وولداي (13 و15 سنة)، إلى الشقّة الجديدة. وقد أحسستُ بالارتياح عندما لاحظتُ كم كان الولدان مسرورين بانتقالنا، إذ أن الشقة كانت كبيرة وتعطي شعورا بالرحابة والاتساعُ. لكن ما أزعجنا إلى حدّ ما أنها كانت هادئة، ربّما اكثر من اللزوم.
ومضى اليومان والليلتان الأوليان على خير ما يرام. لكن في الليلة الثالثة وبينما كان الجميع نائمين صحوتُ على وقع أقدام. وكان هناك شيء ما يتحرّك باتجاه غرفة النوم. وشعرتُ بباب الحمام ُيفتح. وبعد قليل سمعتُ صوتا يشبه قرقعة المفاتيح أو عدّة الشغل أعقبه صوت ارتطام أجسام معدنية بأرضيّة الحمّام.
في تلك الأثناء تجمّدتُ في مكاني من شدّة الخوف. واعتقدتُ في البداية أن لصّا اقتحم علينا المنزل. وعندما استجمعتُ شيئا من رباطة جأشي تناولتُ مسدّسا كنت احتفظ به على الدوام بقربي. لم أضئ النور بل جلستُ على السرير وانتظرت قليلا. وبعد لحظات اختفت الضوضاء نهائيا. طبعا لست بحاجة إلى القول أنني لم انم على الإطلاق بقيّة تلك الليلة.
في صباح اليوم التالي، ذهبتُ لتفقّد الحماّم والمطبخ فلم ألحظ أيّ اثر، ولم أشاهد شيئا غير طبيعي. وعاينتُ الأبواب والنوافذ بحثا عن أيّ دليل قد يدعم احتمال أن يكون لصّ قد اقتحم البيت فلم أجد. وقلت في نفسي ربّما يكون ذلك الزائر الغريب شبحا أراد أن ينبّهنا إلى وجوده وأن علينا أن نتصالح مع حقيقة أنه يشاركنا الشقّة، سواءً كان ذلك برضانا أم بدونه. وتكوّن لديّ إحساس بأن للرجل علاقة بمواسير المياه والحنفيات ولعلّه كان سبّاكا، ربّما في حياة أخرى.
وفوجئنا في نفس اليوم بجريان الماء عبر بعض الحنفيات على حين غرّة رغم كونها مغلقة. فاتصلنا بمالك البناية الذي أرسل لنا سبّاكا لاصلاح الخلل. وكانت الحنفيات تعمل ليوم أو يومين، لكن الماء لا يلبث أن يتدفّق منها دون تدخّل من احد، لدرجة أن السبّاك نفسه أبدى استغرابه ودهشته لما يحدث.
وبعد مرور بضعة أيام علمتُ أن جيراننا في الطابق العلوي ذهبوا في إجازة. ومعنى هذا أن البناية أصبحت خالية إلا منّا. إثر ذلك شعرتُ بشيء من الخوف والقلق وأحسست بأن علينا أن نترك البيت لبعض الوقت. وكنتُ قد سمعت عن لجوء بعض الناس إلى وضع أجهزة تسجيل في البيوت التي يُشتبه في كونها مسكونة، في محاولة لمعرفة طبيعة ومصدر الأصوات الغريبة المنبعثة منها.
وقرّرنا أن نفعل نفس الشيء. ففتحنا المسجّل وغادرنا. وعندما عدنا بعد بضعة أيّام، قمنا بتشغيل الشريط. في البداية سمعنا صوت محرّك سيّارتنا عندما غادرنا المنزل. وبعد ذلك تناهت إلى أسماعنا أصوات رهيبة ومزعجة. كان أمرا يصعب تصديقه بالفعل. نساء ورجال يصرخون ويستغيثون ويتراكضون هنا وهناك ويضربون على الجدران والأرضية. وأصوات تكسير الأثاث والصحون والكاسأت تملأ المكان خوفا ورهبة.
لقد كان واضحا أن البيت تحوّل في غيابنا إلى شيء أشبه ما يكون بحلبة قتال. وأصبنا جميعا بالصدمة. وكان تأثير ذلك على الأولاد، بشكل خاصّ، سيئا وعنيفا. وأدركتُ عندها أن علينا أن نرحل من ذلك المكان فورا وعلى وجه السرعة. وهذا ما حدث فعلا.
مضى على هذه القصّة، يضيف الصديق، حوالي ثلاث سنوات. وما زلتُ اذهب إلى حيث تقع البناية المسكونة مدفوعا بشعور غريب. وقد سكنها الكثيرون بعدنا، وبين حين وآخر كنت أرى سكّانا يحلّون فيها ثم لا يلبثون أن يرحلوا. وقد ظللت على الدوام أتساءل ما إذا كان أحد غيرنا قد مرّ بنفس التجربة التي مررنا بها هناك.
بعد أن أنهى صاحبي قصّته الغريبة قلت له ممازحا: يجب أن تحمد الله على أن جاركم كان سبّاكا فاكتفى بممارسة شغله في الحماّم والمطبخ. لو كان نجّارا، مثلا، لما وجد في البيت موضعا يمارس فيه واجباته المهنية خيرا من غرفة النوم حيث خزانات الملابس والدواليب الخشبية.
أجاب وهو يضحك: نجّار أو سبّاك، الأمر سيّان. المشكلة هي عندما تجد نفسك في مواجهة مع شخص لا تراه ولا تعرف كنهه ولا الأسباب التي دفعته لإقلاق راحتك وتنغيص عيشك واختيارك دونا عن بقيّة خلق الله لافتعال معركة معك لم تسع إليها من الأساس ولم تطلبها..