سمعتُ الكثير من قصص الأشباح ومغامراتها. وأعرف أن مخيّلة الكثيرين منّا تزدحم بالعديد من تلك الحكايات والقصص الغريبة. ومع ذلك كنت كثيرا ما أتحفّظ في تصديقها أو أخذها على محمل الجدّ.
لكنّ صديقا أثق به كثيرا وطالما عرفتُ عنه صدقه وعقلانيته حكى لي منذ أياّم عن واقعة غريبة حدثت معه شخصيا منذ بضعة أعوام.
قـال: في صيف عام 1997 قرّرتُ ترك الشقّة التي كنت اسكنها والانتقال إلى بناية أخرى في حيّ آخر يقع على أطراف المدينة الكبيرة. ولم يكن في البناية التي انتقلت إليها سوى شقّتين كبيرتين: واحدة في الطابق العلوي والثانية تشغل الطابق الأرضي بأكمله. والأخيرة هي التي اخترتها مكانا لسكناي وعائلتي. وقد علمتُ أن كثيرا من بنايات ذلك الحيّ كانت في الماضي عبارة عن مكاتب وعيادات طبية تم تحويلها فيما بعد إلى شقق سكنية.
وانتقلنا، أنا وزوجتي وولداي (13 و15 سنة)، إلى الشقّة الجديدة. وقد أحسستُ بالارتياح عندما لاحظتُ كم كان الولدان مسرورين بانتقالنا، إذ أن الشقة كانت كبيرة وتعطي شعورا بالرحابة والاتساعُ. لكن ما أزعجنا إلى حدّ ما أنها كانت هادئة، ربّما اكثر من اللزوم.
ومضى اليومان والليلتان الأوليان على خير ما يرام. لكن في الليلة الثالثة وبينما كان الجميع نائمين صحوتُ على وقع أقدام. وكان هناك شيء ما يتحرّك باتجاه غرفة النوم. وشعرتُ بباب الحمام ُيفتح. وبعد قليل سمعتُ صوتا يشبه قرقعة المفاتيح أو عدّة الشغل أعقبه صوت ارتطام أجسام معدنية بأرضيّة الحمّام.
في تلك الأثناء تجمّدتُ في مكاني من شدّة الخوف. واعتقدتُ في البداية أن لصّا اقتحم علينا المنزل. وعندما استجمعتُ شيئا من رباطة جأشي تناولتُ مسدّسا كنت احتفظ به على الدوام بقربي. لم أضئ النور بل جلستُ على السرير وانتظرت قليلا. وبعد لحظات اختفت الضوضاء نهائيا. طبعا لست بحاجة إلى القول أنني لم انم على الإطلاق بقيّة تلك الليلة.
في صباح اليوم التالي، ذهبتُ لتفقّد الحماّم والمطبخ فلم ألحظ أيّ اثر، ولم أشاهد شيئا غير طبيعي. وعاينتُ الأبواب والنوافذ بحثا عن أيّ دليل قد يدعم احتمال أن يكون لصّ قد اقتحم البيت فلم أجد. وقلت في نفسي ربّما يكون ذلك الزائر الغريب شبحا أراد أن ينبّهنا إلى وجوده وأن علينا أن نتصالح مع حقيقة أنه يشاركنا الشقّة، سواءً كان ذلك برضانا أم بدونه. وتكوّن لديّ إحساس بأن للرجل علاقة بمواسير المياه والحنفيات ولعلّه كان سبّاكا، ربّما في حياة أخرى.
وفوجئنا في نفس اليوم بجريان الماء عبر بعض الحنفيات على حين غرّة رغم كونها مغلقة. فاتصلنا بمالك البناية الذي أرسل لنا سبّاكا لاصلاح الخلل. وكانت الحنفيات تعمل ليوم أو يومين، لكن الماء لا يلبث أن يتدفّق منها دون تدخّل من احد، لدرجة أن السبّاك نفسه أبدى استغرابه ودهشته لما يحدث.
وبعد مرور بضعة أيام علمتُ أن جيراننا في الطابق العلوي ذهبوا في إجازة. ومعنى هذا أن البناية أصبحت خالية إلا منّا. إثر ذلك شعرتُ بشيء من الخوف والقلق وأحسست بأن علينا أن نترك البيت لبعض الوقت. وكنتُ قد سمعت عن لجوء بعض الناس إلى وضع أجهزة تسجيل في البيوت التي يُشتبه في كونها مسكونة، في محاولة لمعرفة طبيعة ومصدر الأصوات الغريبة المنبعثة منها.
وقرّرنا أن نفعل نفس الشيء. ففتحنا المسجّل وغادرنا. وعندما عدنا بعد بضعة أيّام، قمنا بتشغيل الشريط. في البداية سمعنا صوت محرّك سيّارتنا عندما غادرنا المنزل. وبعد ذلك تناهت إلى أسماعنا أصوات رهيبة ومزعجة. كان أمرا يصعب تصديقه بالفعل. نساء ورجال يصرخون ويستغيثون ويتراكضون هنا وهناك ويضربون على الجدران والأرضية. وأصوات تكسير الأثاث والصحون والكاسأت تملأ المكان خوفا ورهبة.
لقد كان واضحا أن البيت تحوّل في غيابنا إلى شيء أشبه ما يكون بحلبة قتال. وأصبنا جميعا بالصدمة. وكان تأثير ذلك على الأولاد، بشكل خاصّ، سيئا وعنيفا. وأدركتُ عندها أن علينا أن نرحل من ذلك المكان فورا وعلى وجه السرعة. وهذا ما حدث فعلا.
مضى على هذه القصّة، يضيف الصديق، حوالي ثلاث سنوات. وما زلتُ اذهب إلى حيث تقع البناية المسكونة مدفوعا بشعور غريب. وقد سكنها الكثيرون بعدنا، وبين حين وآخر كنت أرى سكّانا يحلّون فيها ثم لا يلبثون أن يرحلوا. وقد ظللت على الدوام أتساءل ما إذا كان أحد غيرنا قد مرّ بنفس التجربة التي مررنا بها هناك.
بعد أن أنهى صاحبي قصّته الغريبة قلت له ممازحا: يجب أن تحمد الله على أن جاركم كان سبّاكا فاكتفى بممارسة شغله في الحماّم والمطبخ. لو كان نجّارا، مثلا، لما وجد في البيت موضعا يمارس فيه واجباته المهنية خيرا من غرفة النوم حيث خزانات الملابس والدواليب الخشبية.
أجاب وهو يضحك: نجّار أو سبّاك، الأمر سيّان. المشكلة هي عندما تجد نفسك في مواجهة مع شخص لا تراه ولا تعرف كنهه ولا الأسباب التي دفعته لإقلاق راحتك وتنغيص عيشك واختيارك دونا عن بقيّة خلق الله لافتعال معركة معك لم تسع إليها من الأساس ولم تطلبها..
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .