:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، سبتمبر 22، 2014

لوحة لها تاريخ

لوحة رافائيل "مادونا دير سان سيستو"، أو "عذراء كنيسة سيستين" كما تُسمّى أحيانا، اعتُبرت دائما ذات مكانة خاصّة بين الأعمال التشكيلية العالمية. وعلى مرّ القرون، أضفي على اللوحة طابع من القداسة والتبجيل، وكُتب عنها الكثير من المقالات والدراسات والأشعار.
وهناك العديد من الأساطير التي تحيط بهذه اللوحة. يقال مثلا أن رافائيل رسمها بعد أن رأى تفاصيلها في حلم، وأن بعض مرضى فرويد مرّوا بحالة من النشوة الدينية بعد أن رأوها. وكان للوحة تأثيرها على كلّ من غوته وفاغنر ونيتشه. كما اعتبرها دستويفسكي "كشفا مهمّا عن الروح الإنسانية".
في عام 1768، وكان غوته وقتها ما يزال طالبا يدرس القانون ولم يصبح بعد فيلسوفا وشاعرا مشهورا، دخل لأوّل مرّة إلى متحف الفنّ الجديد في دريسدن حيث توجد اللوحة. وقد وصف ما رآه هناك بقوله: الصمت العميق كان مخيّما على المكان. كان الأمر أشبه ما يكون بذلك الإحساس العميق بالهدوء والطمأنينة الذي ينتابك عندما تدخل دارا للعبادة. وهذا الشعور يتعمّق أكثر فأكثر كلّما تأمّلت الصورة التي على الجدار".
بالنسبة لغوته، كانت رؤية هذه الصورة نوعا من التجربة الدينية. ولا بدّ وأنه تعامل معها بقدر من القدسيّة والتأمّل الصوفي. كان يتأمّل مثل هذه القطع الفنّية في سياق الطقوس الدينية الفعلية. وبالنسبة له، لم تكن المادونا مجرّد عمل فنّي، بل كانت وقبل كلّ شيء صورة تعبّدية لها غايات طقوسية معيّنة.
ولكن، كيف اكتسبت اللوحة كلّ هذه الأهميّة بعد النسيان التام الذي عانته في سنواتها المبكّرة عندما كانت لوحة متواضعة في دير بإيطاليا؟!
لنبدأ القصّة من أوّلها..
ولد رافائيل "واسمه الأصلي رافائيلو سانشيو" في اوربينو، وهي مدينة تقع وسط ايطاليا. وقد درس الرسم على يد بييترو بيروجينو الذي منح رافائيل لقب معلّم واعتبره رسّاما ناضجا وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة آنذاك.
بعد أن أصبح رافائيل مشهورا في جميع أرجاء ايطاليا، دعاه البابا جوليوس الثاني لزيارة روما وكلّفه برسم جدارية في مكتبته في قصر الفاتيكان.
كانت حظوظ رافائيل في روما أفضل من حظوظ ميكيل انجيلو الذي استغرق وقتا أطول قبل أن يعرفه الناس. ولهذا السبب، قيل إن ميكيل انجيلو كان يضمر شيئا من الحسد والكراهية لرافائيل، حتى قبل أن يقابله، بل لقد اتّهمه بالسرقة والتآمر ضدّه.

البعض يشبّه رافائيل بفيدياس النحّات الاثيني الذي أشرف على بناء معبد البارثينون، الرمز الباقي لليونان القديمة. الإغريق يرون أن فيدياس لم يبتكر شيئا من عنده، بل جمع ومزج كلّ ما ابتكره الذين أتوا قبله لينجز في النهاية مستوى عاليا من التناغم والإحكام. وهذا هو بالضبط ما حقّقه رافائيل في أعماله التي كانت تبدو جديدة ومبتكرة بالنسبة لمعاصريه.
في عام 1511، تلقّى رافائيل تكليفا من البابا جوليوس كي يرسم جدارية في دير سان سيستو في بياتشينسا، شرط أن تتضمّن شخصيّات مثل القدّيس سيستوس البابا السابع للكنيسة، والقدّيسة باربرا وهي امرأة عاشت في القرن الثالث للميلاد واستشهدت بسبب دفاعها عن معتقداتها، ويعرفها مسيحيّو الشرق باسم "باربارة" ولها عيد سنويّ باسمها.
وبالفعل بدأ الفنّان تنفيذ المهمّة، فرسم جدارية تظهر فيها المادونا وهي تمسك بطفلها بينما تقف على بساط من الغيم. ثم رسم على يمينها سيستوس وهو ينظر إليهما ويشير إلى الناظر، بينما تاجه المثلّث موضوع عند قدميه، في إشارة إلى تواضعه إذ يرفض رمزا من رموز السلطة.
من الأشياء اللافتة في هذه الصورة أن المادونا تبدو غير مبالية أو مكترثة بالناظر. ما من شكّ في أن ملامحها جميلة وأن الفنّان رسمها بطريقة ناعمة، غير أنها اقلّ الشخصيات في اللوحة إثارة للاهتمام.
ومن الأسئلة التي تثار دائما: لماذا المادونا وطفلها يبدوان في مزاج حزن وحداد؟ ربّما يكمن السبب في أن الطفل كان يرى موته وأن أمّه ستكون شاهدة على تلك النهاية الحزينة.
وإلى يمين اللوحة، تظهر القدّيسة باربرا ذات الملامح الجميلة والهادئة وهي تجثو على ركبتيها لتلقي نظرة على أروع شخصيات اللوحة، أي الملاكين الصغيرين عند قدميها.
الملاكان المجنّحان الصغيران يُعتبران لوحدهما قصّة مثيرة للاهتمام. وقد تحوّلا إلى أشهر ملاكين في تاريخ الرسم، وصارت لهما حياة خاصّة بمعزل عن اللوحة منذ أصبحا يُستنسخان لوحدهما على الورق والبورسيلين منذ نهاية القرن الثامن عشر. ويبدو أن الثقافة الحديثة جعلت الملاكين الصغيرين هما ما يربط الناس باللوحة. إذ يمكن العثور عليهما اليوم مطبوعين على الأدوات المكتبية والمنزلية وعلى ورق التغليف والسيراميك والصيني في العديد من الأماكن حول العالم.

لكن صورة الملاكين مطبوعة أيضا في عقول الكثيرين بنظراتهما الحالمة المتّجهة إلى السماء. ويقال أن رافائيل استلهمهما من صورة صبيّين رآهما في الشارع وهما يتسوّلان الطعام. لكن يقال أيضا أن الموديل التي قامت بدور القدّيسة كان لها طفلان وكانت تجلبهما معها إلى محترف الفنّان بينما كان يرسمها. النظرات الملولة على وجهيهما ربّما توحي بإحساسهما بالسأم وهما يريان أمّهما تجلس لساعات طويلة أمام الرسّام.
الأطفال الصغار بأجنحة يمكن رؤيتهم بوفرة في لوحات عصر النهضة وعصري الباروك والروكوكو. ووجود ملاك صغير في لوحة هو رمز للحبّ، سواءً كان حبّا إلهيا أو ذا طبيعة أرضية. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن ترى ملاكا دميما، فهو دائما جميل جدّا لدرجة انك تريد أحيانا أن تحتضنه.
الأشخاص الثلاثة الرئيسيون في هذه اللوحة يظهرون في فراغ تخيّلي محاط بستارة ثقيلة تفتح على مشهد سماويّ. والثلاثة تجمعهم علاقة صورية متوازنة ومتناغمة، بينما يحتلّ كلّ منهم فضاءه الخاصّ. ونسب الوجوه الثلاثة محسوبة بعناية كي تنتج تأثيرا جماليّا، وهي سمة تعزّزها مهارة رافائيل في تمثيل درجات البشرة باستخدام تقنية "الكياروسكورو"، أو التباين القويّ بين الضوء والظلّ.
رداء القدّيس يتألّف من اللونين الذهبي والأبيض، أي لوني البابا والكنيسة. وفي الخلفية تظهر قلعة وراء الستارة، وهي إشارة إلى أن القدّيسة حُبست في قلعة بسبب إيمانها.
وهناك هالات حول رؤوس الشخصيات، لكنها لا تّرى إلا بالكاد بسبب بَهَتان وتقادم الألوان بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال. وهناك خلفية وراء الشخصيات رُسمت بنعومة ويظهر فيها ملائكة صغار وهم يمتزجون بالغيم.
أيضا تتبدّى براعة رافائيل في رسم الستائر المنسدلة. وألوان عصر النهضة توجّه اهتمام الناظر وتضيف دفئا وغنى إلى التوليف.
في عام 1754، أزيلت اللوحة من مكانها في دير سان سيستو وحُملت عبر جبال الألب لتستقرّ أخيرا في بلاط اوغستوس الثالث ملك بولندا ودوق ليثوانيا.
كان من المفروض ألا تُنقل اللوحة إلا عندما يحلّ فصل الربيع. لكن عندما تمّت صفقة البيع، لم تمنع ثلوج وأمطار جبال الألب وكلاء اوغستوس من المضيّ في مهمّة نقل اللوحة الثمينة.

كان اوغستوس مصرّا على أن يضيف هذه اللوحة إلى مجموعته الفنّية. وكان بحوزته لوحات عديدة لرسّامين كثر. لكن كانت تنقصه لوحة لرافائيل. ويقال انه دفع مقابلها مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيّام.
وصلت اللوحة إلى عاصمة اوغستوس الثالث في ديسمبر من عام 1754. وفي العام التالي، عُلّقت في غرفة منفردة في متحف دريسدن الملكيّ.
لكن عند عرضها لأوّل مرّة، كانت لوحة لأنطونيو دا كوريجيو مثار اهتمام الناس في ألمانيا وقتها. لذا تمّ تخزين لوحة مادونا دي سان سيستو بعيدا عن الأنظار طوال المائتي عام التالية. وقبل ذلك لم يكن احد، غير رهبان الدير، قد رأى اللوحة بعد أن أتمّ رافائيل رسمها في العام 1512. حتى جورجيو فاساري مؤرّخ حياة الرسّامين الايطاليين لم يكتب عنها في كتابه سوى سطر واحد يصفها فيه بأنها "عمل نادر وغير عاديّ".
ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت اللوحة قد أصبحت مشهورة، بل وغدت أشهر المادونات جميعا وأشهر لوحة لرافائيل في أوربّا. وبين وقت وآخر، كانت تثير نقاشا لا ينتهي حول علاقة الفنّ بالدين.
وقد نجت اللوحة من القصف الذي تعرّضت له مدينة دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كانت مخزّنة مع أعمال فنّية أخرى في نفق بسويسرا إلى أن عثر عليها الجيش الأحمر.
وفي عام 1946، أي بعد انتهاء الحرب، نُقلت المادونا إلى متحف بوشكين للفنون في موسكو. وفي عام 1955، أي بعد موت ستالين، قرّر الروس إعادتها إلى ألمانيا كبادرة حسن نيّة وبهدف تحسين العلاقات بين البلدين.
"لا مادونا دي سان سيستو" يمكن اعتبارها قطعة من التاريخ وتحفة فنّية من ذروة عصر النهضة الايطالي. وهي اليوم إحدى أكثر اللوحات المألوفة للعين، بالنظر إلى أنها استُنسخت عددا لا يُحصى من المرّات وكان لها تأثير على أجيال متعاقبة من مؤرّخي الفنّ وعلى الناس العاديين. وقد احتفل متحف دريسدن الألماني قبل عامين بذكرى مرور 500 عام على رسم اللوحة.

Credits
visual-arts-cork.com
historyofpaintings.com