تحمل الصحراء دهشة الواحات الخضراء ووعدا بالأسرار الكامنة وراء حُجُبها، وتخيّم عليها أساطيرُ القوافل التي لم تعُد والجيوش التي ابتلعها صمتها والمدن الشاسعة المدفونة تحت الرمال.
وبينما لا ترى العين من الصحراء سوى القليل، فإن أكثر الأشياء إثارةً للرعب فيها هي تلك التي سمعتها الأذن: موسيقى تتسلّل من تحت حوافّ الكثبان الرملية، أصوات ساخرة أو فاتنة تنادي مشردّي القوافل، قرع طبول شبحية واشتباكات بالأسلحة تُسمع من بعيد.
إن أيّ مسح لصحارى التاريخ يكشف عن العجائب. هناك، كلّ رجل يقاتل أخاه، ومع ذلك في كلّ خيمة الجميع آمنون، رجال القبائل الملثّمون يجوبون القفار، جماعات المهرّبين المتخفّين يجتازونها عبر مفازات مهجورة، النسّاك يذبلون ببطء في زنازين الصخر، المتشدّدون يجوبون الهضاب، الحباري والجمال البرّية تظهر في الأفق الغامض، وبقايا شعوب منسيّة تجوب الأرض التي تحته.
الأساطير أنجزت الكثير بأقلّ جهد. يحدث أحيانا أن يرى المسافرون العطشى فجأة بحيرات ماء تتلألأ في الأفق، تحيط بها أشجار النخيل وتنعكس فيها صور المعابد. الرحّالة الڤينيسي ماركو بولو، مثلا، دوّن الكثير من تقاليد الأماكن المهجورة أثناء مروره بصحراء لوب. وهو يؤكّد، كحقيقة معروفة، أن تلك الصحراء مسكن للأرواح الشرّيرة "التي تغوي المسافرين بالوهم وتقودهم الى هلاكهم".
في النهار، إذا تخلّف الرجال عن القافلة أو غلبهم النوم في مكانهم، فإنهم يسمعون أصواتا تناديهم بأصوات أشخاص يعرفونهم، ثم تستدرجهم وتحرفهم عن الطريق فيهلكون وحيدين. وفي الليل، قد يسمع الرجال زحف موكب كبير على أحد جانبي الطريق، فيتبعونه معتقدين أنه صوت أجراس جمال قافلتهم. وبعد ساعات يجدون أنفسهم يسلكون دروبا غريبة لوحدهم. وأحيانا تظهر أجساد لأشباح رجال مسلّحين وكأنها تهاجمهم، وأثناء رعبهم وهروبهم يضلّون الطريق.
ويختم ماركو بولو قصصه المذهلة بقوله: إن أرواح الصحراء هذه تملأ الهواء أحيانا بأصوات جميع أنواع الآلات الموسيقية والطبول ولعلعة السيوف والرماح، ما يجبر المسافرين على توحيد خطّ سيرهم والمضيّ في مجموعات.
وقيل انه كان في صحراء مصر القديمة قبور موتى، وأن أرواحهم، المحكوم عليها بحياة بائسة في أرض قاحلة، تحوّلت إلى شياطين مفترسة ونذير شؤم لأيّ مسافر يعبر الصحراء.
أما في آسيا فما تزال القصص المتداولة هناك تحمل نكهة روايات ماركو بولو التي تعود إلى سبعة قرون خلت. يروي "داوتي" قصّة خيالية يتداولها أهالي تيماء في الجزيرة العربية عن واحة شبحية مجاورة يخرج من بين نخيلها بشر يمتطون خيولا ساحرة، لكنّ كلّ شيء سرعان ما يختفي إذا اقترب منها إنسان.
وفي الصحراء الصغيرة عند سفح مرتفعات كوهستان، تشقّ الرمال التي تحملها الرياح طريقها نحو فتحات الصخور، محدثةً صوتا يشبه موسيقى قيثارة مصحوبة بقرع طبول بعيدة. أنغام الرياح الجامحة في المساحات المفتوحة تلك شكّلت مصدرا للعديد من الحكايات الغريبة. يقال، مثلا، أنها أناشيد حماسية لجيوش مضت نحو مصير مجهول وغرقت في الرمال، لكنّ صدى أنغامها ما يزال يُسمع إلى اليوم.
وفي مكان ما في افريقيا، يقع بحر الحصى، وهو ظاهرة صحراوية توصف بانها حصى ورمل بدون قطرة ماء، يتدفّق ويعود في أمواج عاتية كغيره من البحار، ولا يهدأ ولا يستقرّ أبدا في أيّ موسم. ولا يمكن لأحد أن يعبر هذا البحر بسفينة أو بأيّ وسيلة بحرية، وبالتالي لا يمكن معرفة أيّ أرض تقع وراءه.
ورغم أنه لا ماء في ذلك البحر، إلا أن البشر يجدون فيه وعلى شطآنه أسماكا تختلف في طبيعتها وشكلها عن تلك الموجودة في أيّ بحر آخر، وهي لذيذة وشهية كطعام للإنسان. وخلف هذا البحر، تقع جنّة أرضية لا يُوصِل إليها إلا طريق واحد يصعب العثور عليه ويسهل فقدانه إذا ما وُجد. ولم يكتشف هذا الطريق السرّيَّ أحد، باستثناء رحّالة إيطالي قيل إنه سلكه حتى نهايته وعاش عشرين عاما خلف تخوم الصحراء في مكان يشبه الحلم وفيه من الأنعم والخيرات ما لا يُوصف.
وتحكي أساطير الخراب عن مدن حلّت عليها لعنة مفاجئة فحوّلت سكّانها إلى حجارة. ولم يغطّهم الرمل بشفقة تليق بهم، بل تركهم مكشوفين في العراء، تشرق الشمس على أسواقهم الصامتة ولا يجوب شوارعهم إلا الرياح الحزينة.
وتشير الخرائط التي رسمها بعض الرحّالة لأسفارهم في تاتاريا إلى مدينة متحجّرة في سهول آسيا الوسطى. ويروي بعض مؤرّخي حضارة الإنكا قصّة مماثلة عن التحجّر، استنادا إلى صور شوهدت في أحد المتاحف، ويظهر فيها مجموعة من الناس والأغنام والجمال وقد تحوّلوا إلى حجارة.
وبينما لا ترى العين من الصحراء سوى القليل، فإن أكثر الأشياء إثارةً للرعب فيها هي تلك التي سمعتها الأذن: موسيقى تتسلّل من تحت حوافّ الكثبان الرملية، أصوات ساخرة أو فاتنة تنادي مشردّي القوافل، قرع طبول شبحية واشتباكات بالأسلحة تُسمع من بعيد.
إن أيّ مسح لصحارى التاريخ يكشف عن العجائب. هناك، كلّ رجل يقاتل أخاه، ومع ذلك في كلّ خيمة الجميع آمنون، رجال القبائل الملثّمون يجوبون القفار، جماعات المهرّبين المتخفّين يجتازونها عبر مفازات مهجورة، النسّاك يذبلون ببطء في زنازين الصخر، المتشدّدون يجوبون الهضاب، الحباري والجمال البرّية تظهر في الأفق الغامض، وبقايا شعوب منسيّة تجوب الأرض التي تحته.
الأساطير أنجزت الكثير بأقلّ جهد. يحدث أحيانا أن يرى المسافرون العطشى فجأة بحيرات ماء تتلألأ في الأفق، تحيط بها أشجار النخيل وتنعكس فيها صور المعابد. الرحّالة الڤينيسي ماركو بولو، مثلا، دوّن الكثير من تقاليد الأماكن المهجورة أثناء مروره بصحراء لوب. وهو يؤكّد، كحقيقة معروفة، أن تلك الصحراء مسكن للأرواح الشرّيرة "التي تغوي المسافرين بالوهم وتقودهم الى هلاكهم".
في النهار، إذا تخلّف الرجال عن القافلة أو غلبهم النوم في مكانهم، فإنهم يسمعون أصواتا تناديهم بأصوات أشخاص يعرفونهم، ثم تستدرجهم وتحرفهم عن الطريق فيهلكون وحيدين. وفي الليل، قد يسمع الرجال زحف موكب كبير على أحد جانبي الطريق، فيتبعونه معتقدين أنه صوت أجراس جمال قافلتهم. وبعد ساعات يجدون أنفسهم يسلكون دروبا غريبة لوحدهم. وأحيانا تظهر أجساد لأشباح رجال مسلّحين وكأنها تهاجمهم، وأثناء رعبهم وهروبهم يضلّون الطريق.
ويختم ماركو بولو قصصه المذهلة بقوله: إن أرواح الصحراء هذه تملأ الهواء أحيانا بأصوات جميع أنواع الآلات الموسيقية والطبول ولعلعة السيوف والرماح، ما يجبر المسافرين على توحيد خطّ سيرهم والمضيّ في مجموعات.
وقيل انه كان في صحراء مصر القديمة قبور موتى، وأن أرواحهم، المحكوم عليها بحياة بائسة في أرض قاحلة، تحوّلت إلى شياطين مفترسة ونذير شؤم لأيّ مسافر يعبر الصحراء.
أما في آسيا فما تزال القصص المتداولة هناك تحمل نكهة روايات ماركو بولو التي تعود إلى سبعة قرون خلت. يروي "داوتي" قصّة خيالية يتداولها أهالي تيماء في الجزيرة العربية عن واحة شبحية مجاورة يخرج من بين نخيلها بشر يمتطون خيولا ساحرة، لكنّ كلّ شيء سرعان ما يختفي إذا اقترب منها إنسان.
وفي الصحراء الصغيرة عند سفح مرتفعات كوهستان، تشقّ الرمال التي تحملها الرياح طريقها نحو فتحات الصخور، محدثةً صوتا يشبه موسيقى قيثارة مصحوبة بقرع طبول بعيدة. أنغام الرياح الجامحة في المساحات المفتوحة تلك شكّلت مصدرا للعديد من الحكايات الغريبة. يقال، مثلا، أنها أناشيد حماسية لجيوش مضت نحو مصير مجهول وغرقت في الرمال، لكنّ صدى أنغامها ما يزال يُسمع إلى اليوم.
وفي مكان ما في افريقيا، يقع بحر الحصى، وهو ظاهرة صحراوية توصف بانها حصى ورمل بدون قطرة ماء، يتدفّق ويعود في أمواج عاتية كغيره من البحار، ولا يهدأ ولا يستقرّ أبدا في أيّ موسم. ولا يمكن لأحد أن يعبر هذا البحر بسفينة أو بأيّ وسيلة بحرية، وبالتالي لا يمكن معرفة أيّ أرض تقع وراءه.
ورغم أنه لا ماء في ذلك البحر، إلا أن البشر يجدون فيه وعلى شطآنه أسماكا تختلف في طبيعتها وشكلها عن تلك الموجودة في أيّ بحر آخر، وهي لذيذة وشهية كطعام للإنسان. وخلف هذا البحر، تقع جنّة أرضية لا يُوصِل إليها إلا طريق واحد يصعب العثور عليه ويسهل فقدانه إذا ما وُجد. ولم يكتشف هذا الطريق السرّيَّ أحد، باستثناء رحّالة إيطالي قيل إنه سلكه حتى نهايته وعاش عشرين عاما خلف تخوم الصحراء في مكان يشبه الحلم وفيه من الأنعم والخيرات ما لا يُوصف.
وتحكي أساطير الخراب عن مدن حلّت عليها لعنة مفاجئة فحوّلت سكّانها إلى حجارة. ولم يغطّهم الرمل بشفقة تليق بهم، بل تركهم مكشوفين في العراء، تشرق الشمس على أسواقهم الصامتة ولا يجوب شوارعهم إلا الرياح الحزينة.
وتشير الخرائط التي رسمها بعض الرحّالة لأسفارهم في تاتاريا إلى مدينة متحجّرة في سهول آسيا الوسطى. ويروي بعض مؤرّخي حضارة الإنكا قصّة مماثلة عن التحجّر، استنادا إلى صور شوهدت في أحد المتاحف، ويظهر فيها مجموعة من الناس والأغنام والجمال وقد تحوّلوا إلى حجارة.
ولدى العرب قصّة عن معسكر متحجّر في مكان من الجزائر يُدعى "حمّام المسخوطين"، وُجدت فيه خيام حجرية منصوبة وأغنام متحجّرة تنتشر في السهول. وأكثر هذه الأساطير تداولا هي قصّة "رأس سم"، وهي قرية متحجّرة في برقة بليبيا. وساد اعتقاد أنها قد تكون مكان الغورغون أو الميدوسا في القصّة الكلاسيكية، أي المرأة التي كانت نظرتها المخيفة تحوّل كلّ من ينظر إليها إلى حجر.
وهذه القرية تظهر في كتب الرحلات القديمة التي يعود تاريخ أحدها إلى عام ١٥٩٤. وربّما كان رحّالة يُدعى "ديغبي" قد رآها عندما نشر قصّة رحلته الى مدينة متحجّرة في شمال أفريقيا. كانت "راس سم" آنذاك بلدة كبيرة ذات شكل دائري بشوارعها ومتاجرها وقصرها الذي يتوسّطها. وديغبي يصفها بقوله: كانت أشجار الزيتون والنخيل منتصبة في الأفنية، لكن الأشجار كانت قد تحوّلت إلى رماد. وكان هناك أيضا أشخاص في أوضاع مختلفة.
وبعض هؤلاء الأشخاص، قبل أن يتحجّروا، كانوا يمارسون تجارتهم ومهنهم في الأسواق أو يحملون الأقمشة والخبز بأيديهم، كما لو كانوا يريدون جذب المارّة. وكانت هناك نساء يرضِعن أطفالهن أو ينحنين على المواقد أو المعاجن. وفي قصر البلدة، كان رجل مستلقيا على سرير فاخر وحرّاس مسلّحون بالرماح والنبل يقفون عند الباب. كان سكّان القصر، وكذلك الرجال والنساء في الخارج، من نفس الحجر المزرقّ. وكانت رؤوس بعضهم مفقودة، بينما فقد آخرون ساقاً أو ذراعاً.
ويضيف: كانت هناك جمال وثيران وحمير وخيول وأغنام في السوق وطيور ضخمة تجثم على الجدران، وفي المنازل كلاب وقطط وحتى فئران. وكلّها، كأسيادها ومضيفيها، كانت في حالة تحجّر. أما العملات التي كانت قد جُلبت من هناك، فكانت تحمل رسم رأس حصان على أحد وجهيها، وبعض الحروف غير المعروفة على الوجه الآخر".
وقد أُرسل بعض الأشخاص إلى هناك للتأكّد من الأمر، لكن لم يعثروا على أثر لجدران أو مبان أو حيوانات أو أوان في الموقع الذي قيل إن البلدة كانت فيه. لكنهم عثروا على شيء واحد لم يستطع أحد تفسيره. كان اشبه ما يكون برغيف صغير من الخبز المتحجّر. كما عُثر على برك صغيرة من الماء الثقيل كشفت عنها الرياح. وقد يكون هذا هو السائل الذي تسبّب في عملية التحجّر.
أساطير الصحراء التقليدية تدور حول مدن شامخة غطّتها الرمال وحجبت معها حقائق وآثارا. لكن الصحراء عادةً لا تكشف عن أسرارها دفعة واحدة، بل بالتدريج وعلى مضض.
كان العرب يعتبرون الأماكن المهجورة والميّتة موطنا للأرواح الشرّيرة، فكانوا يسرعون الخطى كلّما مرّوا بأحدها. أما بدو آسيا الوسطى فيتحدّثون عن مدن فخمة محتها العواصف الرملية في ليلة خاطفة، وعن كنوز يمكن العثور عليها إذا ما حفر المرء بحثا عنها وحالفه شيء من الحظّ.
وإحدى الأساطير المشهورة تحكي عن مدينة صينية مندثرة، وعن مغامرين وأثرياء قدموا من أماكن عدّة للتنقيب بين أطلالها بحثا عن كنوز مطمورة. لكن في كل مرّة يحاولون فيها حفر الرمال، تهبّ ريح عنيفة، مثيرةً دوّامات من الدخان والضباب الكثيف الذي يجرف الطريق ويقذف بالعمّال إلى داخل الصحراء.
وهناك مقطع من نصّ هنديّ قديم يصف مدينة اندثرت قبل ألفي عام. كانت المدينة، واسمها أنورادابورا، مشهورة بمعابدها وقصورها التي لا تُحصى وبقبابها الذهبية التي تلمع تحت أشعّة الشمس. كانت شوارعها تمتلئ بالجنود المسلّحين بالأقواس والسهام، مع فيلة وخيول وعربات ومشعوذين وراقصين وموسيقيين من بلدان عديدة.
في مثل تلك الأراضي القديمة، ليس من المستبعد أن تختفي، ليس المدن فحسب، بل الدول أيضا، تحت الرمال. وقد استسلمت تلك المدن لمصيرها المحتوم بالتدريج، مع زحف الصحراء عليها عبر دورات متعاقبة من الجفاف وشحّ الأمطار.
لكن أحيانا كان الدمار يحدث بسرعة خرافية. وقد رأى أحد الرحّالة الرمال وهي تتصاعد فوق أسوار مدينة يزد الفارسية وتتدحرج في شوارعها. ولا بدّ أن هذا حدث في أزمنة منسيّة في المساحة الشاسعة المحيطة بصحراء لوب. والأساطير التي تتحدّث عن هذا كثيرة.
في صحراء غوبي في الصين، اكتُشفت إحدى هذه المدن التي كانت الرياح قد دفنتها تحت الرمال. حدث هذا قبل قرون لا تُحصى. وكانت المدينة ذات أسوار وجداول وبساتين وارفة الظلال. وكان في حدائقها وفرة من أشجار المشمش وأشجار التوت التي تتغذّى عليها دودة القزّ. وكانت هناك أسواق تعجّ بصخب الحرفيين. كان اسم المدينة "تكلا مكان"، الذي يعني "المكان الذي لا عودة منه".
وما وجده المستكشفون من بقاياها كان غابة ميّتة وآثارا تمتدّ لأميال. كانت أخشاب مئات المنازل لا تزال قائمة، وخشب الحور كان أبيض كالطباشير وهشّا كالزجاج. ووجدوا أيضا أجزاءً من صور جبسية لبوذا ولنساء بوجوه ذات ملامح آريّة وهنّ يصلّين، مع صور لقوارب تتمايل على أمواج بحار هامدة. وجميعها مرسومة بذوق جماليّ رفيع.
كان مستكشفو المدن المندثرة يتساءلون كلّما مرّوا بواحدة: في أيّ فترة كانت هذه المدينة الغامضة مأهولة؟ ومتى نضج آخر محصول من المشمش تحت الشمس؟ ومتى اصفرّت أوراق أشجار الحور الخضراء الحامضة في خريفها الأخير؟ ومتى سكت هدير طواحينها إلى الأبد؟ ومتى هجر أهلها اليائسون مساكنهم آخر مرّة ليبتلعها فم الصحراء الجائع؟ ومن هم الناس الذين عاشوا هنا؟ وما اللغة التي كانوا يتحدّثونها؟ ومن أين في البرّية جاء سكّانها المجهولون؟ وكم من الوقت ازدهرت مدينتهم، وإلى أين ذهبوا عندما رأوا أنه لم يعد بإمكانهم العثور على مسكن آمن داخل أسوارها؟!
وكان البدو المترحّلون يسألون أنفسهم أيضا بعض هذه الأسئلة الغريبة. ومن الإجابات التي ألهمتهم إيّاها خرافاتهم وخيالاتهم نُسجت أسطورة الصحراء.
وهذه القرية تظهر في كتب الرحلات القديمة التي يعود تاريخ أحدها إلى عام ١٥٩٤. وربّما كان رحّالة يُدعى "ديغبي" قد رآها عندما نشر قصّة رحلته الى مدينة متحجّرة في شمال أفريقيا. كانت "راس سم" آنذاك بلدة كبيرة ذات شكل دائري بشوارعها ومتاجرها وقصرها الذي يتوسّطها. وديغبي يصفها بقوله: كانت أشجار الزيتون والنخيل منتصبة في الأفنية، لكن الأشجار كانت قد تحوّلت إلى رماد. وكان هناك أيضا أشخاص في أوضاع مختلفة.
وبعض هؤلاء الأشخاص، قبل أن يتحجّروا، كانوا يمارسون تجارتهم ومهنهم في الأسواق أو يحملون الأقمشة والخبز بأيديهم، كما لو كانوا يريدون جذب المارّة. وكانت هناك نساء يرضِعن أطفالهن أو ينحنين على المواقد أو المعاجن. وفي قصر البلدة، كان رجل مستلقيا على سرير فاخر وحرّاس مسلّحون بالرماح والنبل يقفون عند الباب. كان سكّان القصر، وكذلك الرجال والنساء في الخارج، من نفس الحجر المزرقّ. وكانت رؤوس بعضهم مفقودة، بينما فقد آخرون ساقاً أو ذراعاً.
ويضيف: كانت هناك جمال وثيران وحمير وخيول وأغنام في السوق وطيور ضخمة تجثم على الجدران، وفي المنازل كلاب وقطط وحتى فئران. وكلّها، كأسيادها ومضيفيها، كانت في حالة تحجّر. أما العملات التي كانت قد جُلبت من هناك، فكانت تحمل رسم رأس حصان على أحد وجهيها، وبعض الحروف غير المعروفة على الوجه الآخر".
وقد أُرسل بعض الأشخاص إلى هناك للتأكّد من الأمر، لكن لم يعثروا على أثر لجدران أو مبان أو حيوانات أو أوان في الموقع الذي قيل إن البلدة كانت فيه. لكنهم عثروا على شيء واحد لم يستطع أحد تفسيره. كان اشبه ما يكون برغيف صغير من الخبز المتحجّر. كما عُثر على برك صغيرة من الماء الثقيل كشفت عنها الرياح. وقد يكون هذا هو السائل الذي تسبّب في عملية التحجّر.
أساطير الصحراء التقليدية تدور حول مدن شامخة غطّتها الرمال وحجبت معها حقائق وآثارا. لكن الصحراء عادةً لا تكشف عن أسرارها دفعة واحدة، بل بالتدريج وعلى مضض.
كان العرب يعتبرون الأماكن المهجورة والميّتة موطنا للأرواح الشرّيرة، فكانوا يسرعون الخطى كلّما مرّوا بأحدها. أما بدو آسيا الوسطى فيتحدّثون عن مدن فخمة محتها العواصف الرملية في ليلة خاطفة، وعن كنوز يمكن العثور عليها إذا ما حفر المرء بحثا عنها وحالفه شيء من الحظّ.
وإحدى الأساطير المشهورة تحكي عن مدينة صينية مندثرة، وعن مغامرين وأثرياء قدموا من أماكن عدّة للتنقيب بين أطلالها بحثا عن كنوز مطمورة. لكن في كل مرّة يحاولون فيها حفر الرمال، تهبّ ريح عنيفة، مثيرةً دوّامات من الدخان والضباب الكثيف الذي يجرف الطريق ويقذف بالعمّال إلى داخل الصحراء.
وهناك مقطع من نصّ هنديّ قديم يصف مدينة اندثرت قبل ألفي عام. كانت المدينة، واسمها أنورادابورا، مشهورة بمعابدها وقصورها التي لا تُحصى وبقبابها الذهبية التي تلمع تحت أشعّة الشمس. كانت شوارعها تمتلئ بالجنود المسلّحين بالأقواس والسهام، مع فيلة وخيول وعربات ومشعوذين وراقصين وموسيقيين من بلدان عديدة.
في مثل تلك الأراضي القديمة، ليس من المستبعد أن تختفي، ليس المدن فحسب، بل الدول أيضا، تحت الرمال. وقد استسلمت تلك المدن لمصيرها المحتوم بالتدريج، مع زحف الصحراء عليها عبر دورات متعاقبة من الجفاف وشحّ الأمطار.
لكن أحيانا كان الدمار يحدث بسرعة خرافية. وقد رأى أحد الرحّالة الرمال وهي تتصاعد فوق أسوار مدينة يزد الفارسية وتتدحرج في شوارعها. ولا بدّ أن هذا حدث في أزمنة منسيّة في المساحة الشاسعة المحيطة بصحراء لوب. والأساطير التي تتحدّث عن هذا كثيرة.
في صحراء غوبي في الصين، اكتُشفت إحدى هذه المدن التي كانت الرياح قد دفنتها تحت الرمال. حدث هذا قبل قرون لا تُحصى. وكانت المدينة ذات أسوار وجداول وبساتين وارفة الظلال. وكان في حدائقها وفرة من أشجار المشمش وأشجار التوت التي تتغذّى عليها دودة القزّ. وكانت هناك أسواق تعجّ بصخب الحرفيين. كان اسم المدينة "تكلا مكان"، الذي يعني "المكان الذي لا عودة منه".
وما وجده المستكشفون من بقاياها كان غابة ميّتة وآثارا تمتدّ لأميال. كانت أخشاب مئات المنازل لا تزال قائمة، وخشب الحور كان أبيض كالطباشير وهشّا كالزجاج. ووجدوا أيضا أجزاءً من صور جبسية لبوذا ولنساء بوجوه ذات ملامح آريّة وهنّ يصلّين، مع صور لقوارب تتمايل على أمواج بحار هامدة. وجميعها مرسومة بذوق جماليّ رفيع.
كان مستكشفو المدن المندثرة يتساءلون كلّما مرّوا بواحدة: في أيّ فترة كانت هذه المدينة الغامضة مأهولة؟ ومتى نضج آخر محصول من المشمش تحت الشمس؟ ومتى اصفرّت أوراق أشجار الحور الخضراء الحامضة في خريفها الأخير؟ ومتى سكت هدير طواحينها إلى الأبد؟ ومتى هجر أهلها اليائسون مساكنهم آخر مرّة ليبتلعها فم الصحراء الجائع؟ ومن هم الناس الذين عاشوا هنا؟ وما اللغة التي كانوا يتحدّثونها؟ ومن أين في البرّية جاء سكّانها المجهولون؟ وكم من الوقت ازدهرت مدينتهم، وإلى أين ذهبوا عندما رأوا أنه لم يعد بإمكانهم العثور على مسكن آمن داخل أسوارها؟!
وكان البدو المترحّلون يسألون أنفسهم أيضا بعض هذه الأسئلة الغريبة. ومن الإجابات التي ألهمتهم إيّاها خرافاتهم وخيالاتهم نُسجت أسطورة الصحراء.
Credits
talesfromthedesert.com
chinaxiantour.com
talesfromthedesert.com
chinaxiantour.com