:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يوليو 27، 2011

عبَق التاريخ

تذكر بعض المصادر التاريخية أن بلقيس ملكة سبأ عندما ذهبت لزيارة الملك سليمان حوالي القرن العاشر قبل الميلاد حملت له معها عددا من الهدايا الثمينة كان من ضمنها بعض العطور النادرة والنفيسة.
كما يقال أن حتشبسوت الملكة المصرية القديمة اقترن اسمها بعطر خاص جمعت مكوّناته بنفسها من الأزهار البرّية النادرة.
طبعا هذا كله أصبح تاريخاً. لكن من يتخيّل أن العطور التي كانت تضعها بلقيس وحتشبسوت وكليوباترا ونابليون وغيرهم من الشخصيات التاريخية يمكن أن يعاد بعثها وتصنيعها هذه الأيّام بنفس مكوّناتها ونِسَبِها التي كانت عليها قبل آلاف السنين؟
ليس هذا فحسب، بل لقد أصبح بإمكان التكنولوجيا الحديثة وشركات صنع العطور إعادة إحياء رائحة زهرة نادرة، حتى عندما تكون الزهرة قد انقرضت منذ مئات السنين.
في المقال المترجم التالي، تلقي الكاتبة كورتني همفريز الضوء على محاولات العلماء الغوص في "الماضي الشمّي" للإنسان واستعادة روائح التاريخ.

هل يمكنك تصوّر انك يمكن فعلا أن تشمّ رائحة الماضي؟ الحقيقة أن التكنولوجيا على وشك أن تجعل ذلك أمرا ممكنا. والمؤرّخون والعلماء وشركات صنع العطور بدءوا يأخذون مأخذ الجدّ فكرة النظر إلى الروائح مثلما ننظر إلى التحف التاريخية. وهم يبذلون جهودا حثيثة لتمكين إنسان هذا العصر من شمّ الروائح العطرية التي كانت تُستخدم منذ قرون، الأمر الذي يوفّر فهما أفضل لطبيعة الروائح التي كانت الثقافات القديمة تقدّرها أو تنفر منها.
عندما تختفي الروائح، فإننا نفقد بعدا كاملا للعالم. فكّر، مثلا، في بعض ذكرياتك الأكثر قوّة. هناك احتمال بوجود رائحة ما مرتبطة بها: رائحة محلول اسمرار البشرة على الشاطئ، رائحة العشب الطازج، رائحة الزهور المنبعثة من عطر والدتك. الروائح مرتبطة إلى حدّ كبير بالذاكرة، وبذكريات الماضي. لكنها ترتبط أيضا بالتعلّم من التجارب، كما يقول خبير العطور كريستوف لودامييل.
وعلى الرغم من الأهمّية الفائقة لحاسّة الشمّ في حياتنا، إلا انه غالبا ما يتمّ تجاهلها عندما نسجّل تاريخنا. ونحن نميل للتواصل مع الماضي بصريّا، عندما ننظر إلى الأشياء المعروضة في متحف أو إلى صور فيلم وثائقي أو إلى الكتابة التي تظهر في مخطوطة قديمة.
أحيانا قد تلمس قطعة أثرية قديمة وتتخيّل الكيفية التي كان الناس يستخدمونها بها. غير أن معرفتنا بالماضي تتضمّن غالبا عنصر رائحة.
يقول مؤرّخ الحواسّ مارك سميث: من الملاحظ أننا نعيش في عالم يتطلّب منّا إعمال جميع الحواسّ كي نبحر فيه. ومع ذلك وبطريقة أو بأخرى، فإننا نفترض أن الماضي يتكوّن من روائح".
إن وضع الروائح في سياق تاريخي معناه أن نضيف بعدا كاملا للكيفية التي نفهم بها العالم. هناك، على سبيل المثال، مكان ما في خليج بوسطن يمتلئ في أوقات مختلفة بروائح المستنقعات المالحة والخيول وعوادم السيارات. بعض الروائح تتلاشى بسرعة، وتظهر مكانها روائح جديدة. وبعضها يتحوّل ويتغيّر بطريقة تخبرنا عن قصّة ثقافية. نفحات الياسمين والجلود من عطر شانيل عام 1927 تساعدنا على فهم النساء الاندروجينيات في ذلك العصر. ونفحة الحلوى المنبعثة من أحدث عطور فيكتوريا سِكرِت تقول لنا شيئا ما عن الأنوثة في عالم اليوم. وما نشمّه في مدننا ومنازلنا والمساحات الطبيعية في البيئة المحيطة بنا ما هو إلا جزء من حياتنا، تماما مثل الأشياء التي نراها ونسمعها ونلمسها.
الشمّ حاسّة فريدة من نوعها من بين جميع الحواسّ، من ناحية طريقة معالجتها في الدماغ. فالمعلومات الشمّية تسافر مباشرة إلى تلك المناطق من الدماغ المسئولة عن الذاكرة والمشاعر.
ويقول العلماء إن الطريقة التي تتمّ بها معالجتها تجعل رائحة الذكريات قويّة جدّا وثابتة. ولكنْ خارج ذاكرتنا، فإن الروائح نفسها سريعة الزوال. فهي تتشكّل من مركبّات كيميائية متطايرة وهشّة يمكن أن تتحلّل وتتبدّد بسهولة. لذا فإن الرائحة هي جزء قويّ من تجاربنا. لكنها في نفس الوقت عنصر سريع الزوال.
وحيث أن الروائح ليست في ثبات الأجسام الصلبة، فقد أوجدت التكنولوجيا وسائل لجعلها أقلّ زوالا وتلاشيا. إذ يمكن حفظ العطور لفترات طويلة من الزمن بإبقائها بعيدا عن الضوء والأوكسجين. ويمكن في كثير من الأحيان تحليل الروائح المحيطة وتقطيرها لتحويلها إلى صيغ كيميائية. ثم يأتي بعد ذلك دور العطّارين المهرة الذين يعيدون تخليقها صناعيّاً.
من روّاد هذا الطريقة كيميائي سويسري يُدعى رومان كيسار طوّر عام 1970 تقنية جعلت من الممكن التقاط وتحليل جزيئات الروائح المنبعثة من الأزهار وغيرها من الأشياء.
وفي ما بعد، أي في العام 1995، ألّف كيسار كتابا بعنوان "الأزهار المتلاشية" ضمّنه رسوما توضيحية لنباتات نادرة ومهدّدة بالانقراض. ثمّ اقنع شركة جيفودان التي كان يعمل عندها، وكانت وقتها اكبر شركة للعطور والنكهات في العالم، بأن تسمح له بالشروع في إنشاء مصنع للروائح.

وطوال السنوات العشر التالية سافر كيسار إلى مختلف بلدان العالم ليلتقط روائح المئات من النباتات المهدّدة بالانقراض. وكتابه الصادر مؤخّرا بعنوان "رائحة النباتات المندثرة" يحتوي على قوائم بالموادّ الكيميائية التي تمثّل صيغة كلّ رائحة. كما نجح أيضا في إعادة تخليق العديد من هذه العطورات صناعيا.
وكان هدفه أن يبيّن للناس جمال الروائح العطرية في الطبيعة. لكن للكتاب أيضا قيمة علمية مهمّة. فبفضل المعلومات والتجارب الواردة فيه، سيكون بالإمكان، مثلا، بعد مائتي سنة من الآن إعادة بعث روائح النباتات الموجودة هذه الأيّام عندما تكون جميع هذه النباتات قد انقرضت من على سطح الأرض.
وقد استخدمت شركات صناعة العطور، مثل كريستوفر بروسيوس الأمريكية، هذه الطريقة لإعادة إنشاء روائح أقلّ وضوحا، مثل رائحة معطف فرو قديم أو غلاف كتاب ورقي مهتريء. وهذه الطريقة يمكن أن تكون بداية لبناء قاعدة معلومات واسعة. تخيّل وجود مكتبة للروائح الخاصّة بزمن أو مكان معيّن، على غرار مكتبة الكونغرس للكتب.
ليس مستغربا أن تكون صناعة العطور في طليعة المحافظين على الروائح. وهناك مؤسّسة تدعى اوزموثيك ومقرّها فرساي بـ فرنسا تحتفظ بمجموعة من العطور المهمّة تاريخيا في صيغها الأصلية. وقد وُضعت هذه العطور في قوارير مبرّدة من الألمنيوم. كما تمّ استبدال الهواء في كلّ قارورة بالأرغون، وهو غاز خامل لا يتفاعل مع العطور كما يفعل الأكسجين، ما يساعد على إبقاء الروائح في حالة مستقرّة مهما مرّ عليها من زمن.
باتريشيا دي نيكولاي، صانعة عطور ورئيسة اوزموثيك، أطلقت مؤخّرا عطرا أسمته "قبّلني برِقّة"، وهو عطر حسّاس استلهمته من قاعدة عطر كان مشهورا في القرن التاسع عشر. تقول دي نيكولاي: أحيانا عندما تصادف عطورا قديمة جدّا، يمكنك أن تعثر على فكرة منسيّة تماماً. وهذا في حدّ ذاته مصدر إلهام".
لكن ماذا عن الروائح التي اختفت بالفعل؟
اوزموثيك قامت، وباستخدام ملاحظات دوّنها احد مساعدي نابليون، بإعادة بناء كولونيا صُنعت خصّيصا للزعيم الفرنسي أثناء وجوده في منفاه في جزيرة سينت هيلينا قبل وفاته في العام 1821م.
عندما كان الأستاذ الجامعي جيمس ماك هيو يعمل على أطروحته في الدراسات السنسكريتية والهندية في جامعة هارفارد، وجد ثروة من المعلومات الشمّية في النصوص السنسكريتية القديمة. كانت تلك المعلومات تتضمّن خلطات وصيَغاً تفصيلية عن العطور والبخور وتعليمات استخدامها، فضلا عن أوصاف الروائح التي كان يستخدمها قدماء الهنود في حياتهم اليومية. وأصبح ماك هيو مهتمّا بتحويل هذه القوائم من الكلمات إلى أشياء ملموسة. وقد أثارت جهوده تلك اهتمام شركة لودامييل، ما أدّى إلى صنع سلسلة من العطور على أساس هذه الصيغ القديمة.
يقول ماك هيو إن النصوص التي كانت مكتوبة في الغالب من قبل الأثرياء البراهمة تذكر بعض الروائح بطريقة إيجابية وأخرى بطريقة سلبية. لودامييل استخدمت هذه الأوصاف لخلق نوعين من الرائحة يمثّلان الأفكار المثالية للبراهمة: الأول مكوّن من الزبدة والحليب وأزهار المانغو والعسل وخشب الصندل. والثاني، الذي يشبّهه ماك هيو بالكابوس، قوامه روائح الدخان واللحم المتعفّن والكحول والثوم.
لكن الهدف الأكثر طموحا من الناحية العلمية هو أن علماء الآثار يستخدمون الآن تقنيات تحليلية حديثة في محاولة لجلب الروائح القديمة وإعادتها إلى الحياة. وقد قاموا بتحليل البقايا العضوية المتخلّفة عن القطع الفنّية لدراسة النظام الغذائي وأساليب الطبخ في الثقافات القديمة، ثم بدءوا استخدامها في دراسة العطور.
المتحف المصري التابع لجامعة بون، على سبيل المثال، يعمل الآن على تحليل وإعادة بعث العطر الفرعوني الذي كانت تستخدمه الملكة المصرية حتشبسوت، اعتمادا على بقايا زجاجة يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة عام. ويخطّط المتحف لإعلان التفاصيل قريبا. ويقول أمينه أن العطر يحتوي على أكثر من ثمانين مكوّناً.
من المثير فعلا أن ندسّ أنوفنا في عبق الماضي. لكن ليس كلّ المؤرّخين على ثقة بأننا يمكن أن نعرف أعمق الحقائق عن الماضي من خلال إحياء مثل هذه الروائح. ويقول بعض العلماء انه حتى لو استطعنا إعادة إنتاج روائح من الماضي إلا أننا لن نستطيع استخدامها بنفس الطريقة.
المؤرّخ مارك سميث يعتقد أن دراسة الرائحة والحواسّ الأخرى مهمّة، شريطة أن توضع في سياقها الصحيح. وهناك أمثلة لا حصر لها تشرح كيف أن الظروف تؤثّر على الطريقة التي ننظر بها إلى الروائح. على سبيل المثال، أصبحت شجيرة الشاي الكندي المسطّحة ذات شعبية في صناعة العلكة ومعاجين الأسنان في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. لكن بالنسبة للبريطانيين، فإن هذه الشجيرة تذكّر برائحة المرض، لأنها كانت تُستخدم في صنع المراهم التي كانت تُعالَج بها جروح الجنود. وإذا لم نفهم هذه المعاني، فإننا فقط نشمّ الماضي كما نفعل الآن، وليس كما كان الناس يشمّونه في ذلك الوقت.
غير أن هذا الكلام ينطبق على أيّ تجربة تاريخية. خذ مثلا لوحة زيتية من عصر النهضة. قد تعني اللوحة لنا شيئا مختلفا جدّا عمّا كانت تعنيه للناس في ذلك الوقت. ومع ذلك فإننا ما نزال ندرك قيمتها ونقدّرها. وكما يمكننا وضع الملابس والأمكنة القديمة في سياق تاريخي، يمكننا أيضا أن نفهم المزيد من معاني العطور وغيرها من روائح الحضارة والطبيعة.
كما أن بإمكاننا أن ننظر إلى الماضي بطريقة أكثر شمولا من خلال إشراك أجزاء من الدماغ بشكل مباشر وبأكثر ممّا يمكن أن توفّره حاسّة الإبصار لوحدها.
كحاسّة كيميائية، فإن الشمّ له ارتباط وثيق بما يجري الآن وفي هذه اللحظة بالذات. وبالنسبة للناس اليوم، فإن إضافة روائح لما هو موجود لدينا بالفعل، سواءً كان مصدرها النباتات المنقرضة أو السجّلات والتحف الفنّية القديمة، يمكن أن يعمّق ارتباطنا بالعالم ويوسّع فهمنا له بطرق وأساليب جديدة.

Credits
encyclopedia.com

الاثنين، يوليو 25، 2011

أمام المرآة


هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!