:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 28، 2023

محطّات


  • ذات مرّة غرقت سفينة ومات معظم ركّابها ولم ينجُ سوى بضعة افراد تشبّثوا بقارب نجاة في الليل. ولم تكن هناك رياح عاصفة، بل كان البحر قد هدأ نسبيّا. وربّما بسبب صدمة تحطّم سفينتهم، لم يتمكّن أحد من الناجين من تذكّر أيّ شيء من حياته قبل ذلك ولا حتى كيف وصل إلى قارب النجاة.
    ومرّ الوقت بطيئاً، ثم قال أحدهم أنه شعر بنسيم خفيف يلامس وجهه. وحاول الجميع أن يتأكّدوا ما إذا كان هذا صحيحا أم أنه مجرّد تفكير بالتمنّي. ثم شعر به شخص آخر أيضا، ثم آخر، وسرعان ما هبّ نسيم لا لبس فيه وأخذ يحرّك الهواء من حولهم.
    ولم يكن هناك صوت، لكن شخصا آخر ظنّ أنه سمع تلاطم أمواج من بعيد. وأرهف الجميع أسماعهم وسرعان ما سمعوا صوت الأمواج المتكسّرة على الشاطئ. ونُقل القارب في الظلام إلى الشاطئ القريب.
    ثم سأل أحدهم: هل نحن قريبون من الفجر؟ وبعد قليل لم تلبث ألوان الفجر أن بدأت بالظهور فوق أفق البحر. وهكذا بدأت هذه المجموعة الصغيرة من البشر في اختراع أو خلق عالم من العدم: جزيرة بها غابات وأشجار وحياة برّيّة وطيور صغيرة من النوع الذي قد يتخيّله أيّ إنسان.
    في البداية كان لدينا العالم بكلّ أمجاده، مضاءً بنور الفجر بعد هطول أمطار مبكّرة، كلّ شيء كان منعكسا في قطرة ندى، وأصوات الغابة تُسمع في الهواء بالفعل. ولتفسير هذه المعجزة روينا قصصاً كثيرة. ربّما كان ذلك حلما، مجرّد حلم عن الواقع، لكنه حلم حيّ ويتّسم بالثبات.
    كانت الأشياء تسقط دائما إلى الأسفل، ولذلك اخترعنا الجاذبية. وكان القمر يرتفع في السماء، ويكرّر مراحله دائما، وهكذا بدأ الزمن. وقد وضعنا قوانين لتفسير ما رأيناه، وعندما رأينا الأشياء بشكل أعمق، وضعنا قوانين جديدة لتفسير الأشياء الجديدة التي يمكننا رؤيتها. ربّما لم تكن القوانين موجودة أبدا لأنه لم تكن هناك حاجة إليها أبدا حتى بدأنا في التساؤل.
    وبينما كنّا نتساءل عن العالم، كان عليه أن يظلّ ثابتا، وكان عليه أن يشرح لنا نفسه وإلا فإنه سيختفي. وأصبحنا نلاحظ الأشياء بعناية وعن قرب أكبر من أيّ وقت مضى. لم تكن هناك حاجة للذرّة، ولكن الآن اصبحت ضرورية، ووراء الذرّة كان هناك الكوارك. ولم تكن هناك حاجة لمثل هذه الأشياء في البداية.
    لم يكن هناك تفسير للكون، ولكنّنا طلبنا تفسيرا وحاول الكون أن يقدّمه لنا ببطء وشيئا فشيئا. وطالبنا بالمنطق والعقل لتفسير شيء رائع فحسب، لكننا حصلنا عليه، رغم أن شيئا كان مخفيّا عنّا دائما. وكان هناك دائما حجاب، وعندما نحاول النظر الى ما وراءه لا نجد شيئا. ومع ذلك، كان هناك دائما شيء ما.

  • في البداية تنسى اسم المؤلّف، ثم العنوان، فالحبكة، فالخاتمة المفجعة، ثم الرواية بأكملها التي تشعر فجأة أنك لم تقرأها من قبل، وربّما لم تسمع عنها.
    وتحسّ كما لو أن الذكريات التي اعتدتَ أن تحتفظ بها واحدةً تلو الأخرى قرّرت الاعتزال في النصف الجنوبيّ من دماغك، أي في قرية صيد صغيرة لا توجد بها هواتف.
    ومنذ فترة طويلة منحتَ أسماء الملهمات التسع قبلة الوداع، وشاهدت المعادلة التربيعية وهي تحزم حقيبتها وتغادر.
    وبينما ما تزال تحفظ ترتيب الكواكب، هناك شيء آخر ينزلق بعيدا، ربّما زهرة، عنوان شخص قريب، أو عاصمة بوليفيا.
    ومهما كان الشيء الذي تجد صعوبة في تذكّره، إلا أنه لا يأتي على طرف لسانك ولا حتى يكمن في زاوية غامضة من عقلك.
    لقد طفا بعيدا أسفل نهر أسطوريّ مظلم يبدأ اسمه بحرف النون بقدر ما تتذكّر. وفي طريقك إلى النسيان ستنضمّ إلى أولئك الذين نسوا حتى كيفية السباحة وركوب الدرّاجة.
    ولا عجب أنك تستيقظ في منتصف الليل أحيانا لتبحث عن تاريخ معركة مشهورة في كتاب عن الحرب، أو لترى القمر من النافذة وقد انحرف خارجاً من قصيدة حبّ كنت في ما مضى تحفظها عن ظهر قلب.



  • لو وضعت قليلا من الملح في كوب ماء، فسيصبح الماء غير صالح للشرب. لكن لو صببت الملح في نهر، فسيستمرّ الناس في سحب الماء من النهر واستخدامه للشرب والطهي والغسيل.
    النهر واسع وكبير، ويمكنه أن يستقبل ويحتضن ويتغيّر. وعندما تكون قلوبنا صغيرة، يصبح فهمنا وتعاطفنا محدودا، ومن ثم نعاني، ولا نعود قادرين على أن نتقبّل الآخرين أو نتسامح مع أوجه ضعفهم وقصورهم، بل قد نطلب منهم أن يتغيّروا لكي نتقبّلهم.
    ولكن عندما تتّسع قلوبنا، فإن هذه الأشياء نفسها لا تجعلنا نعاني، بل سيكون لدينا الكثير من التفهّم والرحمة، بما يمكّننا من احتضان وفهم الآخرين ومن ثم تقبّلهم كما هم ومنحهم الفرصة لأن يتغيّروا الى الأفضل.

  • كان الكاتب الأمريكي إدوارد آبي شخصا مناصرا للبيئة ومتجوّلا في الصحراء طوال حياته. ويقال أنه لم يكتب أحد بطريقة شعرية أكثر منه عن المناظر الطبيعية في الجنوب الغربيّ لأمريكا.
    كانت الصحراء بالنسبة إلى آبي مثل بِركة والدن بالنسبة إلى ثورو، مكانا يتجاوز الواقع اليوميّ ويوقظ سُبات أرواحنا البدائية.
    ألّف آبي 21 كتابا خلال 62 عاما من حياته على هذا الكوكب. وفيما يلي بعض أقواله المأثورة المنشورة في كتابه "صوت صارخ في البرّية".
    - لا أؤمن بخلود الأشخاص. يبدو هذا الخلود غير ضروريّ أبدا. أرني إنسانا واحداً يستحقّ أن يعيش إلى الأبد.
    - الحقيقة القاسية أفضل من الوهم المريح.
    - لماذا أكتب؟ أكتب لتسلية أصدقائي ولإثارة غضب أعدائنا. وأكتب لكشف الكذبة المطويّة وتسجيل حقيقة عصرنا، وبالطبع تعزيز النعيم الجمالي. ومثل أيّ كاتب، أفضّل أن أكون مقروءا على أن أكون ميّتا. ومثل أيّ كاتب جادّ، أفضّل أن أموت على ألا أقرأ على الإطلاق.
    - المجتمع كالحساء. إذا لم تواظب على تحريكه فستحصل على الكثير من الزبَد في الأعلى.
    - لقد قضى شعراؤنا المنتحرون (بلاث وبيريمان ولويل وغاريل وآخرون) الكثير من حياتهم داخل الغرف والفصول الدراسية، في حين كان ينبغي عليهم أن يصعدوا الجبال ويشقّوا طريقهم عبر المستنقعات ويجدّفوا في الأنهار. الحياة داخل البيوت هي ثاني أفضل شيء يُوصل للدفن المبكّر.
    - فقط أنصاف المجانين هم الذين يعيشون حياتهم بالكامل.
    - في الثقافة التقنية الصناعية الحديثة، من الممكن الانتقال من الطفولة إلى الشيخوخة دون المرور بمرحلة الرجولة على الإطلاق.
    - أفضل الكتّاب الأمريكيين جاءوا من المناطق النائية: مارك توين، تيودور درايزر، جاك لندن، همنغوي، فولكنر، وولف وشتاينبك. ومعظم هؤلاء لم يذهبوا حتى إلى الكلّية.
    - إن تدمير الإنسان المتعمّد لبيئته، أي كوكب الأرض، يمكن أن يكون موضوعا مهمّا لكتاب عظيم يستحقّ أن يكتبه ملفيل أو تولستوي حديث. لكن أفضل كتّاب الخيال لدينا منشغلون بكتابة الدراما المحلية، أي المسلسلات التلفزيونية ذات الزخارف الأدبية.

  • Credits
    artincontext.org

    الأحد، سبتمبر 24، 2023

    محطّات


  • هذا العالم، الذي أنت على وشك الدخول إليه والتواجد فيه، لا يتمتّع بسمعة طيّبة. لقد ظلّ جغرافيّاً أفضل منه تاريخيّاً؛ ولا يزال جذّاباً بصريّا أكثر منه اجتماعيّا. إنه ليس مكانا لطيفا، كما ستكتشف قريبا، وأشكّ في أنه سيصبح أجمل عندما تغادره. ومع ذلك، فهو العالم الوحيد المتاح. إذ لا يوجد بديل، وإذا وجد، فليس هناك ما يضمن أنه سيكون أفضل من هذا.
    إنه غابة وصحراء ومنحدر زلق، ومستنقع - بالمعنى الحرفيّ للكلمة. ولكن ما الذي يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، مجازيّاً أيضا. ومع ذلك، وكما قال روبرت فروست: أفضل طريق للخروج هو دائما العبور من الوسط". لكنه قال أيضا في قصيدة مختلفة: أن تكون اجتماعيّا يعني أن تكون متسامحاً".
    حاول ألا تعير اهتماما كبيرا لأولئك الذين سيحاولون جعل حياتك بائسة. سيكون هناك الكثير من هؤلاء. عانِ منهم إذا لم تتمكّن من الإفلات منهم. ولكن بمجرّد الابتعاد عنهم، امنحهم أدنى قدر ممكن من الاهتمام. وقبل كلّ شيء، حاول ألا تروي القصص عن معاملتهم الظالمة لك. تجنّب ذلك بغضّ النظر عن مدى تقبّل القريبين منك لهذا.
    الحكايات من هذا النوع تزيد من وجود خصومك. على الأرجح سيعتمدون على كونك تحبّ الكلام والتحدّث عن تجربتك للآخرين. لا يوجد فرد يستحقّ أن يمارَس ضدّه الظلم. إن نسبة واحد إلى واحد لا تبرّر الجهد المبذول، بل الصدى هو المهم. هذا هو المبدأ الأساسي لأيّ مضطِهد. لذلك، إسرق الصدى أو احتفظ به، بحيث لا تسمح لحدث ما، مهما كان مزعجا أو بالغ الأهمية، أن يستولي على وقت أطول ممّا استغرقه حدوثه.
    ما يفعله خصومك يستمدّ أهميّته أو نتيجته من طريقة ردّ فعلك. لذلك، اندفع عبرهم أو تجاوزهم كما لو كانوا أضواءً صفراء وليست حمراء. لا تطل الانشغال بهم عقليّا أو لفظيّا، لا تفتخر بمسامحتك إيّاهم أو نسيانهم. مارس النسيان أوّلاً. وبهذه الطريقة ستوفّر على خلايا دماغك الكثير من الإثارة غير المفيدة.
    وبها أيضا ربّما يمكنك إنقاذ حتى هؤلاء الأغبياء من أنفسهم، لأن احتمال النسيان أقصر من احتمال الغفران. لذا غيّر القناة، لا يمكنك إخراج هذه الشبكة من التداول، ولكن على الأقل يمكنك تقليل أثرها. الآن، من غير المرجّح أن ترضى الملائكة عن هذا الحل، ولكن، مرّة أخرى، لا بدّ أن يتأذّى الشياطين، وفي الوقت الحالي هذا هو كلّ ما يهمّ حقّا.
    لا أستطيع التكهّن بمستقبلك، ولكن من الواضح جدّا لأيّ عين مجرّدة أن هناك الكثير مما يحدث لك. أقلّ ما يمكن قوله هو أنك ولدت، وهذا في حدّ ذاته نصف المعركة، وتعيش في ظل وطن؛ هذا البيت الذي يقع في منتصف الطريق بين الكابوس والمدينة الفاضلة.
    *من وصايا جوزيف برودسكي

  • كلّما كانت الموجة أكبر، تعيّن علينا الغوص بشكل أعمق. فالشفاء يتأتّى من الغوص العميق في الظلام. هذا هو المكان الذي نحتفظ فيه بأعمق نقاط ضعفنا وأدقّ أسرارنا.
    تأخذ قصصنا حياة خاصّة بها، وفي كثير من الأحيان تقودنا إلى خارج المسار. نسعى إلى التحقّق من صحّة ما نعتقد أننا عليه دون أن نعرف ونقبل من نحن حقّا.
    إن البقاء في المياه الضحلة هو الطريق الأقلّ مقاومةً. يجب علينا أن ندخل المحيط ونغامر بالخروج إلى الأعماق لتحقيق النموّ الحقيقي. هذا هو المكان الذي يصبح فيه الأمر حقيقيّا، حيث يتعيّن علينا إمّا أن نسبح أو نموت.


  • كان أفلاطون يعتقد أن الجنود يجب ألا يقرءوا قصائد عن التسامح قبل المعركة لئلا تأخذهم شفقة أو رحمة بالعدو أثناء القتال. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل ينبغي على الناس الترفيه عن أنفسهم بالفنّ الذي يجعلهم حزانى ومكتئبين؟
    الفنّ المحبِط أو الباعث على الحزن يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على العالم. خذ مثلا لوحة إيليا ريبين "إيفان الرهيب يقتل ابنه" من عام 1885، وكذلك صور وليام براس لمعسكرات الاعتقال الألمانية. كلا الفنّانين يصوّران الى أيّ حدّ يمكن أن تقودنا أقسى الدوافع البشرية وتلهمنا في النهاية لنكون بشرا أفضل.
    وهناك أيضا الفيلم الياباني "أسوق سيّارتي" من عام 2021 والمقتبس عن رواية لأنطون تشيكوف. الفيلم يناشد مشاهديه بأن يتحمّلوا الألم الذي لا مفرّ منه والمعاناة التي ستُلقى في طريقهم، بدلاً من الاستسلام لها.
    ومؤخّرا تساءل كاتب عن سبب احتلال الحزن مكانة بارزة في الفنّ أكثر من مساحة السعادة. وضرب مثلا بلوحة هنري واليس (1856) التي يصوّر فيها الشاعر الرومانسي تشاتيرتون بعد انتحاره في سنّ السابعة عشرة بتناوله الزرنيخ. وفي حين أن هناك أدلّة على أن تشاتيرتون لم ينتحر أبدا، فإن إضفاء الطابع الرومانسي على موته دفع العديد من الشباب الإنغليز الغاضبين في زمانه إلى الاقتداء به.
    وحدث نفس الشيء مع رواية غوته "أحزان فيرتر"، حيث يطلق البطل الشابّ النار على نفسه هربا من مثّلث حبّ. وقد ألهمت هذه الرواية الصادرة عام 1774 العديد من حالات الانتحار، لدرجة أنه أشير الى هذه الظاهرة باسم "تأثير فيرتر Werther Effect"، وهو مصطلح ظهر بعد حالات انتحار متكرّرة.
    ويرتبط "تأثير فيرتر" ارتباطا وثيقا بأسطورة الفنّان المعذّب، ما يشير إلى وجود علاقة بين الذكاء والإبداع والمرض العقليّ. وهناك اعتقاد شائع حول أشهر فنّان معذّب، أي فان غوخ، وهو أن جنونه كان مصدر موهبته.
    لكن كتابات فان غوخ ترسم صورة مختلفة. فهو كان فنّانا موهوبا، ليس لأنه كان مريضا عقليّا، وإنما على الرغم من ذلك. وقد ساعده الرسم، أثناء احتجازه في ملجأ بعد قطع أذنه، على التمسّك بعقله الذي كان يتآكل بشكل مطّرد. وكتب مرّة في إحدى رسائله: آه لو كان بإمكاني العمل بدون هذا المرض الملعون، ما الأشياء التي كان من الممكن أن أفعلها".
    ويعتقد غالبية المعالجين اليوم أن هناك بالفعل صلة بين الصحّة العقلية والإبداع. ومع ذلك، فهي ليست تلك التي تقدّمها أسطورة الفنّان المعذّب. وبينما لا يبدو أن الاكتئاب يساعدك على صنع الفنّ أو تقديره، إلا أنه يساعدك في تخفيف أعراض الاكتئاب. ولهذا السبب يُعتبر الفنّ حاجة أساسية للإنسان.

  • Credits
    vangoghgallery.com.nl