:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يناير 16، 2018

الأفكار واللغة


في الانجليزية، وعلى النقيض من العربية، القمر مؤنّث، والشمس مذكّر، والنهر مؤنّث وهكذا.
لكن ليست هذه قاعدة ثابتة. بمعنى أن هذه الأسماء في الأصل ليس لها جندر، أي ليست مذكّرة أو مؤنّثة في ذاتها، بل سياق الكلام هو ما يحدّد ذلك.
الليل أيضا ليس له جندر. لكن إذا كان الليل هادئا مع نسيم لطيف وروائح أزهار في الظلام فهو مؤنّث. أما إن كان محمّلا بالخوف والتوتّر والخطر فعندها يصبح مذكّرا.
وإذا أردت وصف الشمس كعنصر مغذّ ويمدّ النباتات بالنموّ والنضارة فهي مؤنّث. أما إن أردت وصفها كإله من عصور ما قبل التاريخ وتهيمن على السماء بقوّة فعندها تصبح مذكّرا.
في إحدى الأغاني القديمة ترِد هذه العبارة: الحبّ طائر، وهي بحاجة لأن تطير). لاحظ أن الحبّ أشير إليه بصيغة المؤنّث، والأمر هنا مرتبط بسياق الشعر والأدب.
أي أن المتكلّم أو الكاتب يخلع على هذه المفردات الجندر المناسب بحسب تصوّره لها وباختلاف السياق الذي ترد فيه.
اللغة أيضا ليست فقط وسيلة للتعبير عن الأشياء، بل إنها يمكن أن تغيّر الطريقة التي نفكّر بها. مثلا في العربية أو الانجليزية، يمكنك أن تقول "أنا ذاهب" وتسكت، أو "فلان يمشي" ثم تتوقّف. لكن في الألمانية هذا ليس كافيا، بل يتعيّن عليك أن تقول إلى أين أنت ذاهب وأن تحدّد المكان الذي يمشي إليه الشخص في الجملة الثانية.
في تجربة أجريت قبل سنوات، اختيرت مجموعتان من الأشخاص، الأولى أفرادها يتحدّثون الانجليزية، والثانية يتحدّثون الألمانية. وعُرض على المجموعتين فيلم صامت لا تتجاوز مدّته بضع دقائق ثم طُلب من أفراد كلّ مجموعة أن يصفوا ما رأوه في الفيلم.
وكانت النتيجة أن الذين يتكلّمون الانجليزية تذكّروا ماذا كان الأشخاص في الفيلم يفعلون، أما الذين يتحدّثون الألمانية فقد تذكّروا إلى أين كان الأشخاص ذاهبين. أي أن كلّ مجموعة كانت تفكّر بلغتها الخاصّة. وهذا يؤكّد إلى أي مدى يمكن أن تتحكّم اللغة في تفكيرنا وتؤثّر على حياتنا.
وأختم بقصّة سمعتها قبل سنوات، وهي قد لا تكون وثيقة الصلة بالموضوع، ولكنها عن اللغة والتفكير وعمل الدماغ.
والقصّة عن أكاديميّ أمريكيّ من أصل ألمانيّ كان قد هاجر وهو طفل مع عائلته إلى الولايات المتّحدة بعد استيلاء النازيّة على السلطة في ألمانيا. وفي أمريكا بدأت العائلة حياة جديدة.
في ذلك الوقت، كان هو في سنّ الثامنة، وقد واصل مع شقيقته دراستهما في أمريكا، وبعد سنوات حصل على الدكتوراه بتفوّق، واختارته تلك الجامعة المرموقة ليكون أحد أعضاء هيئة التدريس فيها.
وفجأة حصل له حادث سيّارة أصيب على إثره بارتجاج في المخّ وفقدان للذاكرة. وبعد أن قضى في العناية المركّزة سنوات وهو غائب عن الوعي، بدأ يُفيق شيئا فشيئا بعد أن ظنّت عائلته أن لا أمل أبدا في عودته للحياة الطبيعية.
لكن ما أدهش الأطبّاء وأسرته أن الرجل بعد أن استعاد وعيه نسي تماما اللغة الانجليزية التي كان قد تعلّمها في السنوات الأربعين السابقة وبدأ يتحدّث لغته الأمّ، أي الألمانية، التي كان آخر عهده بها عندما كان طفلا.
الأطبّاء فاجأهم ما حدث واحتاروا في تفسير تلك الحالة، وقال بعضهم إن ما حصل له علاقة بخلايا الذاكرة التي يعوّض بعضها عمل الآخر عند تلفه. وما حدث هو أن الدماغ استعاد المعلومات القديمة التي سبق له أن خزّنها، تماما مثل ما يفعل جهاز الحاسوب عندما يستعيد ملفّات سبق أن خُزّنت في ذاكرته وربّما يكون قد مرّ عليها سنوات دون أن تُفتح أو تُستخدم.
للحديث بقيّة..