:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، سبتمبر 03، 2018

في مجلس سلطان المغول

في عام 1556، وفي سنّ الثالثة عشرة، أصبح "اكبر" ثالث سلاطين المغول، وحَكَم الهند لخمسين عاما. ثمّ خلفه ابنه المسمّى "جهانغير" أو فاتح العالم. وفي الجيل التالي من هذه السلالة، تولّى ابن جهانغير "أي شاه جهان" أو ملك العالم، الحكم في عام 1627.
كانت طموحات هذه العائلة كبيرة وبلا حدود. وامتدّ حكمها من عام 1526 إلى عام 1857، وسيطرت على أراضٍ في الهند وباكستان وبنغلادش وأفغانستان، وكان لها نفوذ كبير في سائر أنحاء العالم الإسلاميّ.
وقد مزج هؤلاء الحكّام قوّتهم بحبّهم للفنون، فأصبحوا رعاة كباراً للأدب والفنّ، ووظّفوا ذلك لشرعنة حكم عائلتهم، خاصّة أثناء عهد اكبر وجهانغير وشاه جهان.
كان المغول معروفين أيضا بجمعهم للأعمال الفنّيةّ، وكانت منزلة الحاكم عندهم تقاس باتّساع مكتبته. ويقال انه عند وفاة اكبر عام 1605، كان في مكتبته أكثر من خمسة وعشرين ألف كتاب، كما رعى تأليف عدد من النصوص المصوّرة وملأ القصور بالفنّانين الذين تلقّوا تدريبهم في بلاد فارس وغيرها، بمن فيهم الرسّام المشهور مير سيّد علي.
بعد سنوات من تولّي أكبر الحكم، وبالتحديد عندما بلغ الثامنة والعشرين، أصبح يقلقه أنه لم يكن قد وُلد له ولد كي يخلفه على العرش. لذا استشار في الأمر شيخا صوفيّا يقال له سليم، فأكّد له الشيخ انه سيُرزق عمّا قريب بمولود ذكر.
ولم يمرّ طويل وقت حتى رُزق بولد اسماه سليم تيمّنا باسم الشيخ. وعندما اعتلى سليم العرش عام 1605، قرّر أن يمنح نفسه اسماً شرفيّا هو "نور الدين" ولقباً هو "جهانغير" أي فاتح العالم.
وأثناء عهد جهانغير، رسم له بختيار رسّام القصر هذه اللوحة/المنمنمة مع بعض ضيوفه. وفيها يجلس السلطان الذي يعتمر غطاء رأس مذهّب أمام خلفية هي عبارة عن قرص ذهبيّ ضخم بداخله شمس، بينما يلامس حوافّ القرص قمر أو هلال صغير، في ما يبدو وكأنه رمز لسلطة الحاكم المطلقة وللحقيقة المقدّسة.
هنا يجلس جهانغير على مقعد مرتفع مرصّع بالجواهر يحاكي شكله الدائريّ شكل القرص في الأعلى. والسلطان هو أضخم الأشخاص الخمسة المرسومين. وهو يواجه أربعة رجال ملتحين يقفون على سجّادة زرقاء تزيّنها نقوش أزهار وأرابيسك.
وعلى نفس مستوى السلطان، يقف شيخ صوفيّ يتسلّم منه كتابا هديّة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة. وبحديثه المتبسّط مع الشيخ فإن جهانغير يؤكّد على توجّهاته الروحية. والكلام المنقوش على اللوحة يشير إلى أن السلطان يفضّل زيارة رجل دين على مجالسة الملوك.
إلى جانب الشيخ مباشرةً يقف سلطان عثمانيّ لا تُعرف هويّته، يرتدي ملابس خضراء مطرّزة بالذهب وعمامة تميّزه كأجنبيّ. وهو ينظر باتجاه العرش ويداه مترابطتان في لفتة احترام.

أما الشخص الثالث الذي ينتظر استقبال جهانغير له فيُفترض انه جيمس الأوّل ملك انجلترا. وهو مميّز بملابسه الأوربّية ووشاحه وبوضعية ظهوره من الأمام ونظرته المباشرة، بالإضافة إلى المجوهرات والقبّعة التي يعتمرها فوق رأسه.
أما الشخص الأخير في الأسفل فهو بختيار، رسّام هذه المنمنمة، وهو يرتدي ثوبا اصفر في إشارة إلى انه هندوسيّ ويعمل في خدمة البلاط المغوليّ، وهذا تذكير بأن الفنّانين الذين أبدعوا الفنّ الإسلاميّ لم يكونوا دائما مسلمين.
أثناء حكم المغول، كان الفنّانون يعامَلون حسب مواهبهم الخاصّة، بعضهم لإتقانه رسم اللوحات النباتية، والبعض الآخر لبراعة تناوله للطبيعة، بينما كان آخرون يقيَّمون لمهارتهم في كتابة الخطّ. وبختيار كان بارعا في رسم البورتريه واشتُهر خاصّة بتصويره الرائع للأيدي.
يدا الشيخ العاريتان في اللوحة ويدا جهانغير اللتان تزيّنهما المجوهرات توضّح الفرق بين الغنيّ والفقير والتوفيق بين الماديّ والروحيّ.
لاحظ كيف أن الشيخ حريص على أن يتسلّم هديّة السلطان، ليس بيديه مباشرة، بل ملفوفةً في قطعة قماش، وبذا يتجنّب الاتصال الجسديّ المباشر مع الذات الملكية، الأمر الذي كان يُعتبَر وقتها "تابو" ثقافيّا.
وهناك مبدأ مشابه يظهر في تصرّف السلطان العثمانيّ الذي يضغط يديه معا على طريقة الهنود في إيماءة احترام. ومن خلال موافقته على تبنّي عادة التحيّة في بلد غريب يزوره كضيف، فإن العثمانيّ يقدّم آيات الإجلال والخضوع لمضيّفه.
وبالنسبة للملك الانجليزيّ، يمكن رؤية إحدى يديه فقط وهي موضوعة بالقرب من سيفه، لكنها لا تلامسه.
الرسّام أيضا صوّر نفسه ممسكا بمنمنمة ذات إطار احمر من صنعه وكما لو أنها كنز ثمين. وفي هذه الصورة الصغيرة داخل اللوحة، يعيد رسم ردائه الأصفر كي يؤكّد على هويّته الدينية، ويضع نفسه جنبا إلى جنب مع حصانين وفيل قد تكون هدايا من السلطان إليه. وهو يرسم نفسه في الصورة منحنيا أمام السلطان كعلامة عرفان وتواضع.
وتحت مقعد جهانغير، هناك ملاكان صغيران اقتبسهما الرسّام على ما يبدو من الرسومات الأوربّية وتتوسّطهما عبارة بالفارسية تقول: أيّها السلطان، ليطل الله في عمرك ألف عام". أما الساعة الرملية الضخمة فهي تذكير واضح بمرور الزمن الذي يتسرّب سريعا من حياة الإنسان.
والحقيقة أن لا احد يدري إن كان جهانغير قابل ذلك الشيخ فعلا أو زاره سلطان عثمانيّ. لكن المؤكّد أن أيّا من ملوك انجلترا لم يزر البلاط المغوليّ أبدا. غير أن الرسّام حقّق رغبة مليكه وراعيه في أن يبدو حاكما قويّا وفي مكانة تعلو فوق مكانة غيره من الملوك الآخرين، مع مضمون روحيّ.
لقد وضع الرسّام كلّ هذه العناصر نصب عينيه في اللوحة، لكنّه أيضا وظّفها بذكاء كي يخلّد نفسه أيضا.

Credits
khanacademy.org