:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 18، 2010

أعمال فنّية قديمة برؤى جديدة

بعض الأعمال الفنّية العظيمة الموجودة في الناشيونال غاليري بـ لندن تتنفّس حياة ثانية من خلال بعض أعمال الفنّانين المعاصرين، من رسّامين ومصوّرين وشعراء وروائيين.
أليستير سمارت يتحدّث في المقال التالي عن اللوحات القديمة التي أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنّية والروائية والشعرية المعاصرة.

لا شيء في العالم أصعب من رسم بورتريه لامرأة. كان دومينيك آنغر يعتبر نفسه رسّاما للتاريخ. وقد تعذّب وتألّم كثيرا عندما تولّى مهمّة رسم مدام ماري مواتيسييه التي كانت زوجة لأحد تجّار السيغار الأثرياء.
كان آنغر واقعا تحت طغيان الجمال الرهيب لهذه المرأة. وقد لزمه عشر سنوات كاملة كي يتمّ رسمها. لكنّ النتيجة كانت تستحقّ كلّ ذلك الانتظار والعناء.
فقد أتقن الفنان رسم وجه المرأة المرمري وكتفيها العريضين وذراعيها وفستانها الحريري بتطريزه الغنيّ بألوانه المبهجة وزخارفه القشيبة.
غير أن الملمح الأكثر تميّزا في البورتريه هو الطريقة التي تلامس بها المرأة طرف وجهها بأصابعها التي تأخذ شكل سمكة نجمية. هناك أيضا الهيئة الكلاسيكية للمرأة وهي جالسة على الأريكة والتي تعطي انطباعا بالتواضع والاحتشام.
كان بيكاسو معجبا كثيرا بلوحة مدام مواتسييه. وقد أعاد ترجمتها في لوحته بعنوان امرأة مع كتاب. لكنه فعل هذا بطريقة مثيرة عندما تعمّد الكشف عن ثديي الموديل التي استخدمها في اللوحة وهي صديقته ماري تيريز والتر.
بيكاسو قلّد، ليس فقط يد المرأة التي تريحها على وجهها، وإنّما أيضا الجلسة الأنيقة والفستان الزهري وكذلك انعكاس صورتها الجانبية في المرآة. لكنّ المروحة التي تمسك بها السيّدة في لوحة آنغر أصبحت الآن كتابا. لوحة بيكاسو المشاغبة تحمل تأثير ماتيس القويّ. ومن خلال المنحنيات الحسّية التي أودعها بيكاسو في لوحته، نستنتج انه كان مغرما بـ ماري تيريز بقدر ما كان آنغر مغرما بـ ماري مواتيسييه.
لوحة بوتيشيللي المشهورة فينوس ومارس، أو الزهرة والمرّيخ، والموجودة الآن في الناشيونال غاليري، تبدو اقلّ ايروتيكية وإثارة. وفيها يرتاح الإله والإلهة الرومانيان في احد المروج بعد ممارسة الحبّ. لكن "فينوس" تبقى متيقّظة وحذرة، بينما يبدو "مارس" نائما وعاريا، وهو إيحاء بأن الحبّ ينتصر على كلّ شيء بما في ذلك الحرب. في اللوحة أيضا يظهر ملائكة صغار وهم يتلاعبون بخبث بخوذة الإله وسيفه في تأكيد واضح على أن "مارس" قد جُرّد من أسلحته. هذه اللوحة تُقرأ أحيانا كصورة مجازية عن هيمنة الفنون. لكنها أيضا ترمز للصراعات التي كانت تشهدها فلورنسا في القرن الخامس عشر.
المصوّر الأمريكي المعاصر ديفيد لاشابيل مشهور بلقطاته المتوهّجة والمشحونة جنسيا عن المشاهير. وقد كلّف العارضة نعومي كامبل بأن تمثل أمامه ليصوّرها كرمز لأفريقيا. وتظهر العارضة في الصورة التي اختار لها اسم اغتصاب أفريقيا وهي نصف عارية ومتّخذة هيئة فينوس في لوحة بوتيشيللي، بينما يجلس قبالتها رجل ابيض يمثّل العالم الغربي الضائع في سبات عميق والمحاط بالذهب. لاشابيل يقلب الصراع على السلطة عند بوتيشيللي رأسا على عقب. فالأنثى الجميلة تصبح مستعبَدة للرجل الأبيض الذي لا يهمّه سوى الاستحواذ على الذهب والذي اغتصب المرأة للتوّ. ومن الأمور المنذرة بالشؤم في صورة لاشابيل أن الملائكة الصغار المسالمين في "فينوس ومارس" أصبحوا الآن أطفالا مدجّجين بالسلاح.
ثنائي آخر مشهور من العشّاق الأسطوريين المعروضين في الناشيونال غاليري هما باخوس وأريادني اللذين رسمهما تيشيان. إله الخمر باخوس يقع في حبّ الأميرة أريادني من النظرة الأولى فيقفز من عربته المحمّلة بالنمور باتجاهها، بينما يدخل موكب من المحتفلين السكارى إلى الساحة خلفهما.
في الوقت الذي رأى الشاعر الانجليزي جون كيتس هذه اللوحة، كان يعاني من اعتلال الصحة وقلّة المال ومن حزنه على وفاة شقيقته. وكان وقتها قد بدأ يسرف في الشراب.
غير أن "باخوس وأريادني" يعود إليها الفضل، ولو جزئيا، في إلهام كيتس واحدة من أشهر قصائده، وهي تلك التي كتبها في العام 1819 بعنوان قصيدة إلى عندليب. أما مصدر الإلهام الأخر فكان البلبل الذي سمعه الشاعر يغنّي في حديقة إحدى الحانات. وقد كتب كيتس كيف انه يتوق للهرب من مشاكل الحياة الواقعية ويختفي في عالم من أصوات العصافير الجميلة. في البداية كان الشاعر يعتقد أن الكحول يمكن أن يوفّر له مهربا من ضغوط الحياة. غير انه أيقن بعد ذلك أن نشوة الشعر يمكن أن تأخذه إلى عالم أكثر رفعة وسموّاً. "سوف أطير إليك، لا على عربة باخوس ونموره، وإنّما على أجنحة الشعر الخفيّة". هكذا خاطب الشاعر العندليب، رافضا أن يُنقل على عربة إله النبيذ التي تجرّها النمور كما تصوّرها لوحة "باخوس وأريادني"، مفضّلا عليها الأجنحة المجازية للشعر.
هناك أيضا رواية دان براون المثيرة شيفرة دافنشي. موضوع الرواية يعود إلى العام 1480، عندما كُلّف ليوناردو دافنشي برسم لوحة تزيّن إحدى الكنائس في ميلانو. وقد اختار الرسّام عذراء الصخور كي يكون اسما للوحة. ورسم منها نسختين متطابقتين تقريبا، الأولى موجود اليوم في اللوفر والثانية في الناشيونال غاليري في لندن. وفي كلا اللوحتين تظهر العذراء والملاك اورييل والطفلان يسوع ويوحنّا المعمدان. الفرق الوحيد بين اللوحتين انه في الأولى تبدو اورييل وهي تشير بإصبعها باتجاه شيء ما مجهول.
وطبقا لـ براون، لم يكن مجمّع الإخوة في ميلانو راضين عن اللوحة الأولى لأن ليوناردو بدا وكأنه يحاول إيصال رسالة تخريبية وخفيّة مفادها أن الكنيسة غطّت طوال قرون على حقيقة أن مريم المجدلية كانت أمّا لطفل المسيح وأن سلالته استمرّت من بعده على مرّ العصور. يقول براون أن دافنشي طُلب منه أن يرسم نسخة ثانية من "عذراء الصخور" شريطة أن تكون أكثر انسجاما مع الرواية الشائعة والمألوفة عن الموضوع.
من أهم الأعمال الفنّية التي يضمّها الناشيونال غاليري لوحة الرسّام الفرنسي جورج سورا بعنوان مستحمّون في آنيير. عندما ظهرت هذه اللوحة عام 1884 قوبلت بالشكّ وامتنع صالون باريس عن قبولها في حينه. وهي تصوّر مجموعة مجهولة من الشباب يمضون وقتهم على الضفاف العشبية لنهر السين، بينما يبدو كلّ منهم منشغلا بعالمه الخاصّ وغافلا عمّن حوله.
جورج سورا رسم أكثر من 24 اسكتشا تحضيريا لهذه اللوحة. وقد عمل طويلا عليها وبذل لأجل ذلك جهدا شاقّا. والمفارقة أن اللوحة ألهمت هنري كارتييه بريسون صورته الفوتوغرافية المشهورة يوم أحد على ضفاف نهر المارن، والتي يظهر فيها أربعة رجال ونساء فرنسيين وهم يتجاذبون أطراف الحديث على ضفّة النهر.
كان كارتييه بريسون سيّد اللقطات اللحظية وكان يهتمّ بالبحث عن مواضيع مثيرة لصوَره. ولا بدّ وأن لوحة سورا كانت ماثلة في عقله بطريقة غامضة عندما التقط صورته المشهورة.


Credits
en.wikipedia.org

الخميس، يونيو 17، 2010

عودة زيوس

بعض القصص الإخبارية، وإن بدت غريبة بعض الشيء، تشدّ انتباه الناس وتحفّزهم على الحديث، وشيئا فشيئا يتحوّل الخبر إلى موضوع لنقاش كبير ومتّصل.
وأمس جاء في الأخبار أن تمثالا للمسيح بطول مبنى من ستّة طوابق ضربته عاصفة رعدية في ولاية اوهايو الأمريكية، ما أدّى إلى اشتعال النيران فيه قبل أن يتحوّل إلى قطع صغيرة من البلاستيك والفولاذ المتفحّم. الأضرار التي لحقت بالتمثال تقدّر بأكثر من نصف مليون دولار هو المبلغ الذي صُرف على تشييد التمثال قبل حوالي ستّ سنوات.
البرق ظاهرة طبيعية قديمة جدّا. وقد ارتبط في الأساطير باسم زيوس كبير الآلهة الذي يوصف بأنه صانع البرق. أحيانا يضرب البرق بيتا أو إنسانا أو درّاجة أو شجرة. وهذا ممّا لا يثير اهتمام احد في الغالب. لكن العنصر الجديد والمثير في الخبر هو أن البرق استهدف هذه المرة رمزا دينيا مهمّا. والتفسير البسيط لما حدث هو أن التمثال مبنيّ من المعادن، لذا من الطبيعي أن يستهدفه البرق، مثل أيّ شيء آخر على الأرض.
لكن الكثيرين وجدوا في موضوع الخبر مادّة دسمة للتعليقات التي اتسعت وتشعّبت لتتناول أمور الدين والتاريخ والسياسة وأنماط التفكير الاجتماعي.
قصّة التمثال المحترق وفّرت فرصة أخرى لإثارة أسئلة قديمة أهمّها السؤال الذي طُرح في سياق هذه الحادثة والذي يقول: كيف سيفسّر رجال الدين ما حدث وهم الذين يعزون كلّ الكوارث الطبيعية من الزلازل والبراكين وموت البشر والسونامي إلى غضب الله؟ إمّا أن يكون الله مسئولا عمّا حدث للتمثال ذي الرمزية الدينية، وإمّا أن لا يكون مسئولا عن أيّ شيء بما في ذلك موت الأطفال والكوارث الطبيعية الكثيرة.
من خلال بعض النقاشات التي قرأتها عن الموضوع، لاحظت قدرا كبيرا من التعصّب الديني مصحوبا بالميل إلى تنميط الآخرين وتصنيفهم. هناك أيضا طريقة النقاش حول هذه المسألة والتي تشبه إلى حدّ كبير النقاشات التي نثيرها نحن المسلمين حول أحداث مماثلة، بما في ذلك محاولات كلّ طرف تسفيه أفكار الفريق الآخر وتخطئته، بالإضافة إلى الخلط ما بين الظواهر الطبيعية وتلك المنسوبة لغضب السماء.
في مثل هذه النقاشات التي تتناول مسائل غيبية، يُدهش الإنسان من الطريقة التي يتمسّك فيها الناس بآرائهم ودفاعهم المستميت عمّا يؤمنون به، فقط كي يثبتوا أنهم على صواب وأن الآخرين على خطأ. حتى الأمريكيين الذين نتصوّر أنهم أكثر عقلانية منّا يقعون في مثل هذه الأخطاء الفادحة. احد الذين شاركوا في النقاش أبدى ملاحظة مثيرة للاهتمام عندما قال: ما حدث درس للناس كي يفكّروا بعقلانية. إن أهمّ ما يشغل عقل كلّ متديّن في هذا البلد هو أن يعمل على تحويل الآخرين إلى دين طائفته. وإذا ما استمرّ الحال على ما هو عليه فستتحوّل هذه البلاد في غضون سنوات من الآن إلى حكم ثيوقراطي مستبد".
من الأمور الأخرى المهمّة التي اكتشفتها وأنا أتابع وقائع هذا السجال المثير أن هناك في المسيحية من يكره التماثيل ويعتبرها من الأمور المحرّمة، تماما مثلما هو الحال عندنا. "الربّ يكره التماثيل". قالها احدهم مستشهدا بإشارات من الإنجيل. وأضاف: قد تكون هذه إشارة من أبينا الذي في السماء بألا نتّخذ صورا أو أصناما من الحجارة".
بعض المتديّنين ساقوا تفسيرات عديدة لما حدث للتمثال بعضها لا يخلو من طرافة. أحدهم قال: الله يريدنا أن نبني تمثالا اكبر للمسيح يليق به. وقال آخر: المسيح وهب نفسه مرّة أخرى عندما امتصّ انفجار البرق لينقذ حياة الناس وبيوتهم وممتلكاتهم في الجوار. لقد أحرق المسيح نفسه كي يكفّر عن خطايانا. وقال ثالث: الله يريد أن يقول لنا ما الذي سيفعله بأولئك الذين يساندون الإجهاض والزواج المثلي. وقال آخر: لقد رأيت وجه الشيطان في أعمدة الدخان. قد يكون هو من فعل هذا. الأساطير الإفريقية تؤكّد أن البرق لا يضرب إلا حيثما توجد روح شيطانية. ما من شكّ في أن الشيطان هو الذي هاجم التمثال وأحرقه، وبناءً عليه يجب أن نقاتل الشيطان ونهزمه.
لكن كانت هناك تفسيرات وحجج مضادّة كقول احد المتحاورين: هذا هو أسلوب الربّ في استنكار التماثيل وتبديد المال الذي من الممكن أن يُستخدم في الصرف على الفقراء والمحتاجين والمشرّدين. فكّروا في عدد الأطفال الذين سيجوعون بعد أن أعلنت الكنيسة أنها ستعيد قريبا بناء التمثال. وقال آخر: إذا كان هناك أحد يريد أن يعبد الله فليفعل ذلك بينه وبين نفسه وفي بيته. عيشوا حياتكم وتوقّفوا عن الاهتمام بأشياء ليست ذات قيمة. من الصعب في عصرنا أن نتصوّر أن هناك بيننا من لا يزال يعبد الحجارة. وكتب ثالث يقول: زيوس يدمّر كل الأصنام المزيّفة، فاعقلوا وتدبّروا أيها المسيحيون الوثنيون! وقال آخر: لقد حصدتم ما زرعتم أيها الانجيليون المتعصّبون! أنتم بحاجة لأن تخفضوا من نبرة الكراهية في خطابكم وأن تفعلوا مثل ما فعل المسيح.
التعليقات الطريفة على احتراق التمثال كثيرة. أحدهم كتب قائلا: من الواضح أن ما حدث تأكيد للقول القديم بأن الله يتصرّف أحيانا بطرق غامضة. في البدء كان الصلب، والآن الحرق، ترى كم مرّة سيقتل الأب ابنه! ومع ذلك يجب أن تهدءوا قليلا، فسيُبعث حيّا في ظرف يومين.
وقال آخر: البرق الذي ضرب التمثال أرسله إله أقوى بكثير من المسيح. وعلى كلّ، فالتمثال نفسه ليس أكثر من قطعة من الفنّ الرديء. وأستغرب كيف انتظر البرق كلّ هذه المدّة قبل أن يضربه ويدمّره.
وكتب ثالث يقول: اشعر بالارتياح لأن الحادثة وفّرت لنا هذه الفرصة الكوميدية كي نروّح عن أنفسنا وننسى ولو إلى حين هموم الاقتصاد والتأمين الصحّي وبقعة الزيت.

الثلاثاء، يونيو 15، 2010

رحلة بيلليني إلى الشرق

في منتصف القرن الخامس عشر، استولى السلطان محمّد الثاني على مدينة القسطنطينية، العاصمة الشرقية للإمبراطورية المسيحية، الأمر الذي أثار هلع الكنيسة والعالم المسيحي.
وكان لذلك القرار أثر عميق على فينيسيا بالذات التي كانت تربطها بالقسطنطينية علاقات سياسية وتجارية وثيقة. وكجزء من شروط التسوية بين الجانبين، طلب محمّد الفاتح أن يتمّ إرسال فنّان من فينيسيا إلى بلاطه. ووافقت حكومة فينيسيا على شرطه واختارت أن ترسل له الرسّام المشهور جنتيلي بيلليني. كان الغرض من الزيارة محاولة استعادة العلاقات الطبيعية بين الطرفين ورسم عدد من الأعمال الفنّية التي كان أشهرها البورتريه الذي رسمه بيلليني للسلطان محمّد الثاني.
الروائي التركي اورهان باموك يسجّل في المقال المترجم التالي جانبا من انطباعاته عن رحلة بيلليني المشرقية وعن أهمّية البورتريه الذي رسمه الفنّان الايطالي لمضيفه السلطان العثماني.

عندما استولى محمّد الثاني على القسطنطينية عام 1453 لم يكن عمره يتجاوز الحادية والعشرين. كان هدفه من تلك الخطوة دعم مركزية الدولة العثمانية وتوطيد أركان حكمه. لكنه استمرّ في غزواته في أوربّا مكرّسا نفسه كحاكم قوي ومهاب الجانب. كلّ تلك الحروب والانتصارات ومعاهدات السلام كانت دائما ممّا ينبغي على كلّ طالب تركي في الثانوية أن يحفظه عن ظهر قلب وأن يتلوه بحماسة قومية. وقد أدّت حملات الفاتح في النهاية إلى ضمّ أجزاء كبيرة من البوسنة وألمانيا واليونان إلى الحكم العثماني. واستطاع السلطان أخيرا أن يعقد معاهدة سلام بين العثمانيين وأهالي فينيسيا عام 1479، بعد حوالي عشرين عاما من الحرب والنهب والقرصنة في جزر بحر ايجة وموانئ البحر المتوسط.
وعندما بدأ المبعوثون رحلاتهم بين فينيسيا واسطنبول لتطبيق بنود تلك المعاهدة، عبّر محمّد الفاتح عن رغبته في أن ترسل إليه فينيسيا "رسّاما جيّدا". ورغم أن فينيسيا فقدت أجزاءً كبيرة من أراضيها وحصونها بموجب تلك المعاهدة، إلا أن مجلس الشيوخ الفينيسي كان سعيدا للغاية بمعاهدة السلام وقرّر أن يرسل للسلطان الرسّام جنتيلي بيلليني الذي كان في ذلك الوقت منشغلا بتزيين جدران قصر الدوقية الكبير بلوحاته العملاقة.
قضى بيلليني ثمانية عشر شهرا في اسطنبول كسفير ثقافي ورسم خلال إقامته هناك العديد من اللوحات. غير أن أهمّها وأشهرها هو البورتريه الذي رسمه بالألوان الزيتية للسلطان محمّد الفاتح. وقد استُنسخ هذا البورتريه عديدا من المرّات كما طُبعت منه نسخ معدّلة وذهبت نسخ أخرى لتزيّن الكتب المدرسية وأغلفة الكتب والصحف والملصقات والأوراق النقدية والطوابع، لدرجة انه لم يبقَ تركي لم يرَ البورتريه مئات إن لم يكن آلاف المرّات.
والحقيقة انه لم يكن لسلطان آخر من العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية، بمن فيهم سليمان القانوني نفسه، بورتريه مثل هذا. وقد تميّز البورتريه بواقعيته وتوليفه البسيط وبالقوس المظلل بإتقان، وكلّها عناصر أضفت على الفاتح هالة سلطان منتصر. لم يكن البورتريه مجرّد صورة لمحمّد الثاني، بل كان رمزا لمكانة وهيبة السلطان العثماني، تماما مثلما تحوّل البوستر الشهير لـ شي غيفارا إلى أيقونة ترمز لكلّ رجل ثوري.
التفاصيل الدقيقة في البورتريه، مثل النتوء الملحوظ في الشفة العليا والحواجب الأنثوية، وأهمّ من هذا الأنف "العثمانية" الدقيقة والطويلة، كلّها سمات تعطي انطباعا عن شخص متميّز جدّا، لكنه مع ذلك لا يختلف كثيرا عن الناس الذين تزدحم بهم شوارع اسطنبول كلّ يوم.
في العام 2003 الذي صادف الاحتفال بمرور 550 عاما على الفتح العثماني، بادر احد البنوك التركية الكبرى إلى جلب اللوحة من الناشيونال غاليري بـ لندن حيث تستقرّ منذ سنوات، وأحضرها إلى اسطنبول ثم قام بعرضها في احد المناطق الأكثر ازدحاما في المدنية.
وقد جاء أطفال المدارس في الحافلات، كما اصطفّ مئات الآلاف من الناس كي يحدّقوا في البورتريه بافتتان وانبهار لا يليقان سوى بالشخصيات الأسطورية.

Bellini & Sinan Bey

تحريم الإسلام لرسم الأشخاص كان يعني أن الرسّامين العثمانيين لم يكن باستطاعتهم أن يرسموا بورتريهات واقعية للسلاطين. ولم يكن الحظر مقتصرا على الرسم فحسب. فالمؤرّخون العثمانيون أنفسهم لم يكونوا يجرءون على الكتابة عن الملامح المميّزة للسلاطين ولا عن شخصيّاتهم أو طقوسهم الروحية المعقّدة، رغم عدم وجود نصّ ديني يقول بهذا التحريم.
ويوجد الآن في متحف قصر طوب كابي بورتريه منسوب لرسّام عثماني يُدعي سنان بيه. ومن المؤكّد انه مستوحى من بورتريه بيلليني، ويظهر فيه السلطان محمّد الثاني وهو يشمّ زهرة. هذا البورتريه لا علاقة له بفنّ عصر النهضة في فينيسيا ولا بفنّ المنمنمات الفارسية العثمانية الكلاسيكية. الشيء الوحيد الذي يعوّض عن رداءة تنفيذ البورتريه هو الزهرة التي يشمّها السلطان. وما يجعلنا ندرك وجود هذه الزهرة وحتى رائحتها ليس لونها وإنما الأنف العثماني البارز والمميّز فيها. وعندما نعلم أن سنان بيه الذي رسم اللوحة كان في الحقيقة احد فنّاني الفرنجة الذين عاشوا وسط العثمانيين، وهو على الأرجح كان ايطاليا، فإن هذا يذكّرنا مرّة أخرى بأن التأثيرات الثقافية تعمل في اتجاهين وهي معقّدة إلى حدّ كبير ويستعصي فهمها أو استيعابها في الكثير من الأحيان.
وهناك لوحة أخرى تُعزى لـ بيلليني أثناء إقامته في تركيا، ويظهر فيها رسّام شابّ وهو يجلس أمام صفحة فارغة من كرّاس. ومن خلال تعابير وجه الشابّ ونظراته المستغرقة وشكل شفتيه، يستطيع المرء أن يكتشف مدى تفاني الشابّ وإخلاصه القلبي لعمله. إن تقديري لجمال وجه الشابّ الشاحب وغير الملتحي في الصورة لا يقلّ عن احترامي للعاطفة والحماس اللذين يشعر بهما وهو يرسم اللوحة التي أمامه.
وطبقا لبعض المؤرّخين الغربيين، فإن محمّد الفاتح كان يقدّر كثيرا الشباب ذوي الوجوه الجميلة والملامح الوسيمة. وكان يطلب أن تُرسم لهم بورتريهات متحمّلا في سبيل ذلك بعض المخاطر السياسية. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الملامح الجميلة عنصرا مهمّا في تقاليد القصور العثمانية.
إن جمال الفنان الشابّ والطريقة التي يمنح بها نفسه للوحة التي أمامه وكذلك بساطة الأرضية والجدار الذي خلفه، كلّ ذلك يضفي على اللوحة سمة من الغموض الذي اشعر به في كل مرّة انظر إليها. وإلى ما قبل حوالي مائة عام، كانت هذه اللوحة ما تزال موجودة في اسطنبول، لكنها انتقلت في ما بعد لتصبح ضمن مقتنيات متحف ايزابيلا غاردنر في بوسطن.
ومنذ سنوات، وبينما كنت أتجوّل في قاعات هذا المتحف الضخم مستمتعا بالنظر إلى لوحات سارجنت وتيشيان الكبيرة والفاخرة، رأيت فجأة صورة الرسّام الشابّ. وعندما حدّقت في اللوحة الصغيرة أحسست أن المسافة بيني وبينها هي نفس المسافة التي تفصل ما بين الرسّام وصفحته الفارغة. الرسّام الشاب في لوحة بيلليني الصغيرة معروف جيّدا وإن لم يكن بنفس شهرة بورتريه بيلليني عن محمّد الفاتح. إذ يُعتقد على نطاق واسع أن شخص الرسّام في اللوحة ليس سوى الأمير جِم سلطان الذي عومل بقسوة من قبل شقيقه الأكبر بايزيد الثاني. وقد تحدّثت الكثير من الروايات الميلودرامية عن المصير المشئوم الذي انتهى إليه. كان جِم سلطان الابن الأصغر لمحمّد الفاتح، وكان يُصوّر على انه ذو شخصية منفتحة على الفنون وعلى الثقافة الغربية بشكل عام. كان أميرا يضجّ بالشباب ويتمتّع بالمعرفة وسعة الأفق. بينما كان شقيقه الأكبر بايزيد الثاني، الذي سيدسّ له السمّ في ما بعد، شخصا متعصّبا وكثيرا ما اظهر كراهيته وازدراءه للثقافة الغربية.
بعد عصر النهضة أحسّ الغرب لأوّل مرّة بتفوّقه على الشرق، ليس فقط في ساحات المعارك وإنما أيضا في ميادين الفنّ. وبعد رحلة بيلليني إلى الشرق بمائة عام، وصف جورجيو فاساري كيف أن السلاطين العثمانيين الذين يُلزِمهم دينهم باتخاذ موقف سلبي من الرسم كانوا منبهرين من المهارة التي أظهرها بيلليني في بورتريهاته التركية، كما كانوا يغدقون عليه كلمات المديح والثناء.
وعندما يكتب عن فيليبو ليبي، يروي فاساري كيف أن هذا الرسّام الايطالي وقع ذات مرّة في أسر مجموعة من قراصنة الشرق. وقد حدث أن طلب منه سيّده الجديد أن يرسم له بورتريها. وعندما أتمّ ليبي رسم البورتريه وقدّمه للقرصان، فُتن الأخير كثيرا بموهبة الرسّام وأثنى على واقعيته الشديدة، لدرجة انه أمر في النهاية بإخلاء سبيله.
بعد وفاة محمد الفاتح، خلفه ابنه بايزيد الثاني الذي لم يكن يشارك والده في نظرته للحياة وفي تقديره وحبّه للفنون. وقد قام عند تولّيه الحكم ببيع البورتريه الذي رسمه بيلليني لوالده في المزاد.
بعد تأسيس تركيا الحديثة عام 1923، وكانت حملة التغريب قد بدأت، قال الشاعر القومي يحيى كمال: لو كان عندنا رسم ونثر، ولو أننا ترسّمنا خطى عصر النهضة الأوربية في الفنون والآداب لكنّا أصبحنا اليوم أمّة مختلفة ولكان حالنا أفضل بكثير ممّا نحن عليه الآن".
وعندما وقف الشاعر نفسه أمام بورتريه السلطان محمّد الفاتح، كان أكثر ما أزعجه هو أن اليد التي رسمت اللوحة كان ينقصها الدافع الوطني.
وبوسع المرء أن يشعر بالاستياء العميق الذي يطبع كلمات الشاعر تجاه أوجه القصور التي تعتري ثقافته. لكن من الواضح انه كان يؤمن بالفكرة الخيالية التي تقول انه بالإمكان تبنّي منتجات ثقافة أخرى مختلفة كلّيا عن ثقافتنا من غير أن يضطرّ الإنسان إلى تغيير روحه.

الاثنين، يونيو 14، 2010

الوجه الذي ألهم ألف لوحة وقصيدة



عندما تُمعِن النظر في العديد من لوحات رسّام عصر النهضة الايطالي ساندرو بوتيتشيللي، لا بدّ وأن يلفت انتباهك هذا الظهور المتكرّر لامرأة شابّة ذات ملامح جميلة وآسرة.
وجه تلك المرأة هو سمة ثابتة في معظم لوحات بوتيتشيللي. وقد أصبح مع مرور الوقت وجها مألوفا لمحبّي الفنّ في جميع أنحاء العالم.
اسمها سيمونيتا فيسبوتشي. وكانت هي الموديل التي اختارها بوتيتشيللي للوحاته الأكثر شهرة وعلى رأسها لوحته الايقونية مولد فينوس.
والحقيقة انه لا يوجد سوى القليل من المعلومات حول حياة سيمونيتا المبكّرة. لكن يُعتقد أنها ولدت في جنوا، بينما يذهب آخرون إلى القول إنها قدمت من بلدة بورتوفينيري في ليغوريا التي يُفترض أنها مسقط رأس إلهة الجمال فينوس.



بعد وقت قصير من وصولها إلى فلورنسا، أصبحت سيمونيتا فيسبوتشي محطّ اهتمام الشعراء والفنّانين وعلى رأسهم بوتيتشيللي. وتنافس هؤلاء على استلهامها في إبداعاتهم الفنية.
وعندما بلغت الخامسة عشرة، تزوّجت من ابن عمّ لـ اميريغو فيسبوتشي المستكشف الايطالي المشهور الذي سُمّيت أمريكا على اسمه. وكانت تربط بوتيتشيللي علاقة صداقة مع عائلة فيسبوتشي. ومن خلال تلك العلاقة أصبح مقرّبا أكثر من سيمونيتا. ثم أصبح هاجسه الدائم أن يرسمها.
يقول المؤرّخون أن هذه المرأة كانت أجمل امرأة في فلورنسا في زمانها. كانت جميلة جدّا لدرجة أن الفنّانين ظلّوا يرسمونها بعد أكثر من عشرين عاما على وفاتها. وكانت تحيط نفسها بنوع من عبادة الشخصية. وكان أتباعها في الغالب من الشعراء والموسيقيين والرسّامين الذين لازموها خلال حياتها واستمرّ افتتانهم بها حتى بعد وفاتها.
كانت سيمونيتا فيسبوتشي موضوعا للعديد من الأعمال الشعرية والفنّية. فكُتبت عنها الكثير من القصائد ورُسمت لها لوحات لا تُحصى. بل إن صورتها ما تزال منقوشة إلى اليوم على بعض العملات المعدنية الأوربّية.
الشاعر الايطالي بوليزيانو كتب ذات مرّة أن منزل سيمونيتا كان في منطقة ليغوريا فوق ساحل البحر. "هناك، ومثل فينوس، ولدت من بين أمواج البحر.



كان الكثيرون يعتبرونها تجسيدا خالصا للجمال المثالي كما فهمه رسّامو عصر النهضة الايطالي ومن ضمنهم بوتيتشيللي الذي كان يعتقد أن الجمال الخارجي يعكس الجمال الداخلي أو جمال الروح. وقد درج الرسّام على وصفها بأنها "المرأة التي لا نظير لها".
كان بوتيتشيللي يرسم سيمونيتا بعينين بنّيتين وبشرة بيضاء وعنق طويل وشعر مذهّب وملامح تبدو حزينة بعض الشيء. وهي لم تكن "فينوس" بوتيتشيللي فحسب. بل لقد رسمها الفنّان بييرو دي كوزيمو الذي أعار ملامحها لـ كليوباترا وصوّرها والأفاعي تلتفّ حول عنقها. توفّيت سيمونيتا بعد عام واحد من زواجها، أي ليلة السادس والعشرين من أبريل عام 1476 جرّاء إصابتها بمرض السلّ الرئوي. وكان عمرها وقت وفاتها لا يتجاوز الثانية والعشرين.
ويوم موتها خرجت فلورنسا بأسرها في جنازتها. ورافق الآلاف من الناس نعشها إلى حيث دُفنت في باحة إحدى الكنائس. وأثناء الجنازة كُشف عن وجهها كي يراه الناس. وقيل إن وجهها في لحظات الموت كان أكثر جمالا منه في أثناء حياتها.
وفي عام 1485، أي بعد تسع سنوات من وفاتها، أتمّ بوتيتشيللي رسم لوحته مولد فينوس التي تأخذ فيها الشخصية الرئيسية ملامح سيمونيتا. واستمرّ بوتيتشيللي يرسم صورتها في لوحاته طوال الثلاثين عاما التي تلت رحيلها.
ويقال انه كان واقعا في حبّها بدليل انه لم يتزوّج أبدا. وقبيل وفاته أوصى بأن يُدفن إلى جوار ضريحها. وقد تحقّق له ما أراد عندما ووري جثمانه الثرى بالقرب من ضريحها في إحدى كنائس فلورنسا الكبيرة. "مترجم".

الأحد، يونيو 13، 2010

أغاني الشمال الحزينة

قد يمضي الشتاء وينصرم الربيع ويتلاشى بعدهما الصيف ثم العام بأكمله. لكنّي متأكّدة أنك ستعود ثانية. وكما وعدتك، ستجدني بانتظارك. وإذا كنت الآن في السماء، فسنجد هناك الحبّ معا ولن نفترق بعد ذلك أبدا. لن نفترق أبدا. "مقطع من أغنية سولفاي".
من المستحيل أن تسمع موسيقى إدفارد غريغ دون أن تشعر بالضوء والنسيم البارد والمياه الزرقاء، أو دون أن تتخيّل منحدرات الجبال والأنهار الجليدية المتموّجة التي تكثر في مناطق غرب النرويج حيث ولد الفنّان وعاش وألّف موسيقاه.
موسيقى غريغ تستمدّ أصولها من أعماق الريف النرويجي. فقد كان مفتونا بعزف الرعاة وبالأغاني الريفية والموسيقى الفولكلورية. كانت هناك دائما علاقة غريبة ووثيقة بين البيئة التي عاش فيها الفنّان والموسيقى التي أبدعها.
المقال المترجم التالي يتناول جوانب من حياة إدفارد غريغ بالإضافة إلى أشهر أعماله الموسيقية.

كان إدفارد غريغ (1843- 1907) يحبّ دائما التجوال في رحاب الطبيعة ويستمدّ منها الصور والأحاسيس التي كان يعبّر عنها من خلال موسيقاه. لكنّ هذه الصورة الرومانسية عنه هي فقط نصف الحقيقة. فقد كان نجاحه مفروشا بالصعاب والتحدّيات، وكانت حياته حافلة بالنضال المتواصل من اجل إثبات نفسه وتأكيد موهبته.
وهناك اليوم إجماع على أن غريغ هو أعظم وأشهر مؤلّف موسيقي نرويجي. ويستغرب المرء كيف لبلد لم يكن يتمتّع بحرّيته الوطنية ولم تكن لديه تقاليد موسيقية طويلة أن ينجب موسيقيّا بمثل هذا التميّز والعبقرية.
حتى العام 1814 كانت النرويج واقعة تحت احتلال الدنمارك. وابتداءً من عام 1814 وحتى 1905 أجبرت النرويج على الدخول في وحدة اندماجية مع السويد. وفي النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، عاش النرويجيون أوقات فقر وعوز. ولم تكن بلدهم قد رسّخت وجودها بعد مع جاراتها الأخريات في اسكندينافيا.
لكن بالنسبة للأشخاص الموهوبين، كان ذلك هو الظرف المثالي الذي يوفّر لهم الدافع نحو النموّ واثبات الذات. وإدفارد غريغ كان احد هؤلاء. كان أسلوبه الموسيقيّ في البداية معتمدا على التقاليد الرومانسية الألمانية. لكنه مع مرور الوقت وضع موسيقى ذات ملامح نرويجية واضحة. تستمع إلى موسيقاه فينشأ لديك انطباع بأنها مرتبطة بقوّة بالطبيعة النرويجية وطريقة حياة الناس في تلك البلاد.
عاش غريغ فترة طويلة من حياته في منطقتي فيورد وأولنسفانغ وألّف فيهما العديد من أعماله الموسيقية المشهورة. كانت فيورد، على وجه الخصوص، مشهورة بجمال طبيعتها وبيئتها البحرية وأكواخها الخشبية وأنهارها الجليدية. وكان من عادته أن يتردّد على تلك المنطقة كلّ صيف. وكثيرا ما كان يذهب إليها في الشتاء. كان محاطا بأكثر مناطق الطبيعة جمالا وتساميا. ومثل اورفيوس، كان يجلس هناك في رحاب الجبال وبين الحيوانات البرّية وفوق الصخور وعلى ضفاف الجداول والأنهار باحثا عن السلام والهدوء الذي كان يحتاجه لموسيقاه.
في عام 1869 غادر غريغ إلى ايطاليا. هناك التقى فرانز ليست ومنحته الأوساط الفنية في روما إلهاما متجدّدا وثقة اكبر بالنفس. وقد أكسبته مهارته في العزف على البيانو لقب شوبان الشمال.

غير انه سرعان ما واجه اختبارا جديدا عندما طلب منه الشاعر والكاتب المسرحيّ هنريك ابسن أن يضع موسيقى مسرحيته بيرغنت. كانت تلك مهمّة سهلة بالنسبة إلى غريغ. لكنّ تجربته تلك أثمرت واحدا من الأعمال الموسيقية الكبرى في سبعينات القرن ما قبل الماضي. وأثناء حياته، سجّلت موسيقى بيرغنت نجاحا عالميا كبيرا. ويعود الفضل في ذلك إلى مقطع موسيقيّ مشهور في المسرحية هو ما أصبح يُعرف اليوم بأغنية سولفاي. وسولفاي هو اسم الفتاة التي تلعب في المسرحية دورا رئيسيا. مصدر الإلهام في أغنية سولفاي هو الموسيقى الفولكلورية وأساطير النرويج القديمة. وتتسم المقطوعة بأنغامها التي يمتزج فيها التوق بالذكريات الحزينة.
في تلك الفترة ألّف غريغ أيضا عددا من الرقصات النرويجية المكتوبة للبيانو، كما وضع سوناتا للكمان والبيانو. وفي بدايات القرن الماضي، أصبحت بيرغنت، وأغنية سولفاي تحديدا، تُعزف في جميع أنحاء العالم. لم تكن تُقدّم في الصالات الموسيقية الكبيرة فحسب، وإنما في المطاعم والمقاهي أيضا. وكان هذا النجاح مقترنا بالصورة التقليدية الشائعة عن الفنّان الذي يتحدّى ظروف الفقر والحاجة كي يهب للآخرين الإبداع والمتعة.
في العام 1957 الذي وافق ذكرى مرور خمسين عاما على وفاته، تنبّأ بعض النقاد بأن غريغ على وشك أن يفقد أهمّيته في أوساط الموسيقى الكلاسيكية. لكن كان للتاريخ رأي آخر. إذ سرعان ما انتعش الاهتمام مرّة أخرى بالموسيقى الرومانسية على أيدي الجيل الحالي من الموسيقيين الشباب الذين أعادوا اكتشاف موسيقى غريغ وقدّروا إسهاماته الموسيقية الكثيرة.
وهناك من الباحثين الموسيقيين من أشاروا إلى تأثير أعماله الأخيرة على الانطباعيين الفرنسيين الذين كانوا يبحثون عن تجارب صوتية جديدة. ومن بين من تأثروا به كلّ من رافيل وبارتوك.
كان هدف إدفارد غريغ هو خلق شكل وطني من الموسيقى يمكن أن يعطي الشعب النرويجي هويّة خاصّة به. ومن هذه الناحية، كانت موسيقاه مصدر إلهام للكثيرين. وعظمة أعماله لا تكمن في هذه الجزئية فحسب، وإنما في حقيقة انه نجح أيضا في التعبير عن الأفكار والانفعالات التي يمكن أن يتماهى معها الناس بسهولة وأن يتأثروا بها.
من الواضح أن إدفارد غريغ كان اكبر من مجرّد مؤلّف موسيقي نرويجي. فموسيقاه تتجاوز الحدود الوطنية وتعلو فوق الحواجز الثقافية.