:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يونيو 13، 2010

أغاني الشمال الحزينة

قد يمضي الشتاء وينصرم الربيع ويتلاشى بعدهما الصيف ثم العام بأكمله. لكنّي متأكّدة أنك ستعود ثانية. وكما وعدتك، ستجدني بانتظارك. وإذا كنت الآن في السماء، فسنجد هناك الحبّ معا ولن نفترق بعد ذلك أبدا. لن نفترق أبدا. "مقطع من أغنية سولفاي".
من المستحيل أن تسمع موسيقى إدفارد غريغ دون أن تشعر بالضوء والنسيم البارد والمياه الزرقاء، أو دون أن تتخيّل منحدرات الجبال والأنهار الجليدية المتموّجة التي تكثر في مناطق غرب النرويج حيث ولد الفنّان وعاش وألّف موسيقاه.
موسيقى غريغ تستمدّ أصولها من أعماق الريف النرويجي. فقد كان مفتونا بعزف الرعاة وبالأغاني الريفية والموسيقى الفولكلورية. كانت هناك دائما علاقة غريبة ووثيقة بين البيئة التي عاش فيها الفنّان والموسيقى التي أبدعها.
المقال المترجم التالي يتناول جوانب من حياة إدفارد غريغ بالإضافة إلى أشهر أعماله الموسيقية.

كان إدفارد غريغ (1843- 1907) يحبّ دائما التجوال في رحاب الطبيعة ويستمدّ منها الصور والأحاسيس التي كان يعبّر عنها من خلال موسيقاه. لكنّ هذه الصورة الرومانسية عنه هي فقط نصف الحقيقة. فقد كان نجاحه مفروشا بالصعاب والتحدّيات، وكانت حياته حافلة بالنضال المتواصل من اجل إثبات نفسه وتأكيد موهبته.
وهناك اليوم إجماع على أن غريغ هو أعظم وأشهر مؤلّف موسيقي نرويجي. ويستغرب المرء كيف لبلد لم يكن يتمتّع بحرّيته الوطنية ولم تكن لديه تقاليد موسيقية طويلة أن ينجب موسيقيّا بمثل هذا التميّز والعبقرية.
حتى العام 1814 كانت النرويج واقعة تحت احتلال الدنمارك. وابتداءً من عام 1814 وحتى 1905 أجبرت النرويج على الدخول في وحدة اندماجية مع السويد. وفي النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، عاش النرويجيون أوقات فقر وعوز. ولم تكن بلدهم قد رسّخت وجودها بعد مع جاراتها الأخريات في اسكندينافيا.
لكن بالنسبة للأشخاص الموهوبين، كان ذلك هو الظرف المثالي الذي يوفّر لهم الدافع نحو النموّ واثبات الذات. وإدفارد غريغ كان احد هؤلاء. كان أسلوبه الموسيقيّ في البداية معتمدا على التقاليد الرومانسية الألمانية. لكنه مع مرور الوقت وضع موسيقى ذات ملامح نرويجية واضحة. تستمع إلى موسيقاه فينشأ لديك انطباع بأنها مرتبطة بقوّة بالطبيعة النرويجية وطريقة حياة الناس في تلك البلاد.
عاش غريغ فترة طويلة من حياته في منطقتي فيورد وأولنسفانغ وألّف فيهما العديد من أعماله الموسيقية المشهورة. كانت فيورد، على وجه الخصوص، مشهورة بجمال طبيعتها وبيئتها البحرية وأكواخها الخشبية وأنهارها الجليدية. وكان من عادته أن يتردّد على تلك المنطقة كلّ صيف. وكثيرا ما كان يذهب إليها في الشتاء. كان محاطا بأكثر مناطق الطبيعة جمالا وتساميا. ومثل اورفيوس، كان يجلس هناك في رحاب الجبال وبين الحيوانات البرّية وفوق الصخور وعلى ضفاف الجداول والأنهار باحثا عن السلام والهدوء الذي كان يحتاجه لموسيقاه.
في عام 1869 غادر غريغ إلى ايطاليا. هناك التقى فرانز ليست ومنحته الأوساط الفنية في روما إلهاما متجدّدا وثقة اكبر بالنفس. وقد أكسبته مهارته في العزف على البيانو لقب شوبان الشمال.

غير انه سرعان ما واجه اختبارا جديدا عندما طلب منه الشاعر والكاتب المسرحيّ هنريك ابسن أن يضع موسيقى مسرحيته بيرغنت. كانت تلك مهمّة سهلة بالنسبة إلى غريغ. لكنّ تجربته تلك أثمرت واحدا من الأعمال الموسيقية الكبرى في سبعينات القرن ما قبل الماضي. وأثناء حياته، سجّلت موسيقى بيرغنت نجاحا عالميا كبيرا. ويعود الفضل في ذلك إلى مقطع موسيقيّ مشهور في المسرحية هو ما أصبح يُعرف اليوم بأغنية سولفاي. وسولفاي هو اسم الفتاة التي تلعب في المسرحية دورا رئيسيا. مصدر الإلهام في أغنية سولفاي هو الموسيقى الفولكلورية وأساطير النرويج القديمة. وتتسم المقطوعة بأنغامها التي يمتزج فيها التوق بالذكريات الحزينة.
في تلك الفترة ألّف غريغ أيضا عددا من الرقصات النرويجية المكتوبة للبيانو، كما وضع سوناتا للكمان والبيانو. وفي بدايات القرن الماضي، أصبحت بيرغنت، وأغنية سولفاي تحديدا، تُعزف في جميع أنحاء العالم. لم تكن تُقدّم في الصالات الموسيقية الكبيرة فحسب، وإنما في المطاعم والمقاهي أيضا. وكان هذا النجاح مقترنا بالصورة التقليدية الشائعة عن الفنّان الذي يتحدّى ظروف الفقر والحاجة كي يهب للآخرين الإبداع والمتعة.
في العام 1957 الذي وافق ذكرى مرور خمسين عاما على وفاته، تنبّأ بعض النقاد بأن غريغ على وشك أن يفقد أهمّيته في أوساط الموسيقى الكلاسيكية. لكن كان للتاريخ رأي آخر. إذ سرعان ما انتعش الاهتمام مرّة أخرى بالموسيقى الرومانسية على أيدي الجيل الحالي من الموسيقيين الشباب الذين أعادوا اكتشاف موسيقى غريغ وقدّروا إسهاماته الموسيقية الكثيرة.
وهناك من الباحثين الموسيقيين من أشاروا إلى تأثير أعماله الأخيرة على الانطباعيين الفرنسيين الذين كانوا يبحثون عن تجارب صوتية جديدة. ومن بين من تأثروا به كلّ من رافيل وبارتوك.
كان هدف إدفارد غريغ هو خلق شكل وطني من الموسيقى يمكن أن يعطي الشعب النرويجي هويّة خاصّة به. ومن هذه الناحية، كانت موسيقاه مصدر إلهام للكثيرين. وعظمة أعماله لا تكمن في هذه الجزئية فحسب، وإنما في حقيقة انه نجح أيضا في التعبير عن الأفكار والانفعالات التي يمكن أن يتماهى معها الناس بسهولة وأن يتأثروا بها.
من الواضح أن إدفارد غريغ كان اكبر من مجرّد مؤلّف موسيقي نرويجي. فموسيقاه تتجاوز الحدود الوطنية وتعلو فوق الحواجز الثقافية.