بعض الأعمال الفنّية العظيمة الموجودة في الناشيونال غاليري بـ لندن تتنفّس حياة ثانية من خلال بعض أعمال الفنّانين المعاصرين، من رسّامين ومصوّرين وشعراء وروائيين.
أليستير سمارت يتحدّث في المقال التالي عن اللوحات القديمة التي أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنّية والروائية والشعرية المعاصرة.
لا شيء في العالم أصعب من رسم بورتريه لامرأة. كان دومينيك آنغر يعتبر نفسه رسّاما للتاريخ. وقد تعذّب وتألّم كثيرا عندما تولّى مهمّة رسم مدام ماري مواتيسييه التي كانت زوجة لأحد تجّار السيغار الأثرياء.
كان آنغر واقعا تحت طغيان الجمال الرهيب لهذه المرأة. وقد لزمه عشر سنوات كاملة كي يتمّ رسمها. لكنّ النتيجة كانت تستحقّ كلّ ذلك الانتظار والعناء.
فقد أتقن الفنان رسم وجه المرأة المرمري وكتفيها العريضين وذراعيها وفستانها الحريري بتطريزه الغنيّ بألوانه المبهجة وزخارفه القشيبة.
غير أن الملمح الأكثر تميّزا في البورتريه هو الطريقة التي تلامس بها المرأة طرف وجهها بأصابعها التي تأخذ شكل سمكة نجمية. هناك أيضا الهيئة الكلاسيكية للمرأة وهي جالسة على الأريكة والتي تعطي انطباعا بالتواضع والاحتشام.
كان بيكاسو معجبا كثيرا بلوحة مدام مواتسييه. وقد أعاد ترجمتها في لوحته بعنوان امرأة مع كتاب. لكنه فعل هذا بطريقة مثيرة عندما تعمّد الكشف عن ثديي الموديل التي استخدمها في اللوحة وهي صديقته ماري تيريز والتر.
بيكاسو قلّد، ليس فقط يد المرأة التي تريحها على وجهها، وإنّما أيضا الجلسة الأنيقة والفستان الزهري وكذلك انعكاس صورتها الجانبية في المرآة. لكنّ المروحة التي تمسك بها السيّدة في لوحة آنغر أصبحت الآن كتابا. لوحة بيكاسو المشاغبة تحمل تأثير ماتيس القويّ. ومن خلال المنحنيات الحسّية التي أودعها بيكاسو في لوحته، نستنتج انه كان مغرما بـ ماري تيريز بقدر ما كان آنغر مغرما بـ ماري مواتيسييه.
لوحة بوتيشيللي المشهورة فينوس ومارس، أو الزهرة والمرّيخ، والموجودة الآن في الناشيونال غاليري، تبدو اقلّ ايروتيكية وإثارة. وفيها يرتاح الإله والإلهة الرومانيان في احد المروج بعد ممارسة الحبّ. لكن "فينوس" تبقى متيقّظة وحذرة، بينما يبدو "مارس" نائما وعاريا، وهو إيحاء بأن الحبّ ينتصر على كلّ شيء بما في ذلك الحرب. في اللوحة أيضا يظهر ملائكة صغار وهم يتلاعبون بخبث بخوذة الإله وسيفه في تأكيد واضح على أن "مارس" قد جُرّد من أسلحته. هذه اللوحة تُقرأ أحيانا كصورة مجازية عن هيمنة الفنون. لكنها أيضا ترمز للصراعات التي كانت تشهدها فلورنسا في القرن الخامس عشر.
المصوّر الأمريكي المعاصر ديفيد لاشابيل مشهور بلقطاته المتوهّجة والمشحونة جنسيا عن المشاهير. وقد كلّف العارضة نعومي كامبل بأن تمثل أمامه ليصوّرها كرمز لأفريقيا. وتظهر العارضة في الصورة التي اختار لها اسم اغتصاب أفريقيا وهي نصف عارية ومتّخذة هيئة فينوس في لوحة بوتيشيللي، بينما يجلس قبالتها رجل ابيض يمثّل العالم الغربي الضائع في سبات عميق والمحاط بالذهب. لاشابيل يقلب الصراع على السلطة عند بوتيشيللي رأسا على عقب. فالأنثى الجميلة تصبح مستعبَدة للرجل الأبيض الذي لا يهمّه سوى الاستحواذ على الذهب والذي اغتصب المرأة للتوّ. ومن الأمور المنذرة بالشؤم في صورة لاشابيل أن الملائكة الصغار المسالمين في "فينوس ومارس" أصبحوا الآن أطفالا مدجّجين بالسلاح.
ثنائي آخر مشهور من العشّاق الأسطوريين المعروضين في الناشيونال غاليري هما باخوس وأريادني اللذين رسمهما تيشيان. إله الخمر باخوس يقع في حبّ الأميرة أريادني من النظرة الأولى فيقفز من عربته المحمّلة بالنمور باتجاهها، بينما يدخل موكب من المحتفلين السكارى إلى الساحة خلفهما.
في الوقت الذي رأى الشاعر الانجليزي جون كيتس هذه اللوحة، كان يعاني من اعتلال الصحة وقلّة المال ومن حزنه على وفاة شقيقته. وكان وقتها قد بدأ يسرف في الشراب.
غير أن "باخوس وأريادني" يعود إليها الفضل، ولو جزئيا، في إلهام كيتس واحدة من أشهر قصائده، وهي تلك التي كتبها في العام 1819 بعنوان قصيدة إلى عندليب. أما مصدر الإلهام الأخر فكان البلبل الذي سمعه الشاعر يغنّي في حديقة إحدى الحانات. وقد كتب كيتس كيف انه يتوق للهرب من مشاكل الحياة الواقعية ويختفي في عالم من أصوات العصافير الجميلة. في البداية كان الشاعر يعتقد أن الكحول يمكن أن يوفّر له مهربا من ضغوط الحياة. غير انه أيقن بعد ذلك أن نشوة الشعر يمكن أن تأخذه إلى عالم أكثر رفعة وسموّاً. "سوف أطير إليك، لا على عربة باخوس ونموره، وإنّما على أجنحة الشعر الخفيّة". هكذا خاطب الشاعر العندليب، رافضا أن يُنقل على عربة إله النبيذ التي تجرّها النمور كما تصوّرها لوحة "باخوس وأريادني"، مفضّلا عليها الأجنحة المجازية للشعر.
هناك أيضا رواية دان براون المثيرة شيفرة دافنشي. موضوع الرواية يعود إلى العام 1480، عندما كُلّف ليوناردو دافنشي برسم لوحة تزيّن إحدى الكنائس في ميلانو. وقد اختار الرسّام عذراء الصخور كي يكون اسما للوحة. ورسم منها نسختين متطابقتين تقريبا، الأولى موجود اليوم في اللوفر والثانية في الناشيونال غاليري في لندن. وفي كلا اللوحتين تظهر العذراء والملاك اورييل والطفلان يسوع ويوحنّا المعمدان. الفرق الوحيد بين اللوحتين انه في الأولى تبدو اورييل وهي تشير بإصبعها باتجاه شيء ما مجهول.
وطبقا لـ براون، لم يكن مجمّع الإخوة في ميلانو راضين عن اللوحة الأولى لأن ليوناردو بدا وكأنه يحاول إيصال رسالة تخريبية وخفيّة مفادها أن الكنيسة غطّت طوال قرون على حقيقة أن مريم المجدلية كانت أمّا لطفل المسيح وأن سلالته استمرّت من بعده على مرّ العصور. يقول براون أن دافنشي طُلب منه أن يرسم نسخة ثانية من "عذراء الصخور" شريطة أن تكون أكثر انسجاما مع الرواية الشائعة والمألوفة عن الموضوع.
من أهم الأعمال الفنّية التي يضمّها الناشيونال غاليري لوحة الرسّام الفرنسي جورج سورا بعنوان مستحمّون في آنيير. عندما ظهرت هذه اللوحة عام 1884 قوبلت بالشكّ وامتنع صالون باريس عن قبولها في حينه. وهي تصوّر مجموعة مجهولة من الشباب يمضون وقتهم على الضفاف العشبية لنهر السين، بينما يبدو كلّ منهم منشغلا بعالمه الخاصّ وغافلا عمّن حوله.
جورج سورا رسم أكثر من 24 اسكتشا تحضيريا لهذه اللوحة. وقد عمل طويلا عليها وبذل لأجل ذلك جهدا شاقّا. والمفارقة أن اللوحة ألهمت هنري كارتييه بريسون صورته الفوتوغرافية المشهورة يوم أحد على ضفاف نهر المارن، والتي يظهر فيها أربعة رجال ونساء فرنسيين وهم يتجاذبون أطراف الحديث على ضفّة النهر.
كان كارتييه بريسون سيّد اللقطات اللحظية وكان يهتمّ بالبحث عن مواضيع مثيرة لصوَره. ولا بدّ وأن لوحة سورا كانت ماثلة في عقله بطريقة غامضة عندما التقط صورته المشهورة.