تتفاوت النسبة بين ما هو موضوعي وبين ما هو ذاتي عند الكتابة عن حياة الشخصيّات المشهورة. والمؤلّف الذي يؤرّخ لحياة مبدع ما ويتناول نتاجه بالنقد والتقييم، كثيرا ما تفرض عليه انطباعاته وأفكاره المسبقة نوعية الأحكام والمواقف التي يضمّنها كتابه عن هذه الشخصية أو تلك.
هذه المشكلة لا تقتصر على مؤلّف الكتاب فحسب بل قد تمتدّ أحيانا لتشمل المتلقّي نفسه الذي قد يقرأ الكتاب وفي ذهنه القناعات والمواقف التي كوّنها عن الشخصيّة في مرحلة سابقة.
جيكوب ويسبيرغ يستعرض في المقال التالي ثلاثة كتب تتناول سيرة حياة ثلاثة من كبار الرسّامين، هم على التوالي هنري ماتيس ودييغو ريفيرا وسلفادور دالي.
كقاعدة عامّة، يمكن القول إن حياة الروائيين اقلّ نشاطا وحيوية من حياة الرسّامين. فبينما يجلس الكاتب لوحده إلى طاولة، فإن الفنّان يؤدّي عمله وسط دعم فريق كامل من الرعاة والزبائن والمساعدين.
وبينما يحاول الروائي أن يكون له أسلوبه الخاصّ في الكتابة، فإن الرسّام من حقّه أن ينضمّ إلى تيّار جماعي أو أن يختار طريقه بمفرده.
وعندما يتعلّق الأمر بالسلوك الاجتماعي، فإنه لا توجد مقارنة على الإطلاق بين الروائي والرسّام. وليام فوكنر، مثلا، قد يتناول خِفية جرعة من الكحول من درج مكتبه، بينما يستطيع جاكسون بولوك أن يسكر على الملأ. وهمنغواي بإمكانه أن يتخذ له زوجة أو عشيقة، بينما يستطيع بيكاسو أن يدّخر لنفسه عشرات الخليلات. وإذا كان لدى الكاتب عشيقة، فإن الرسّام يمكن أن يعيش حياة تتسم بالمجون والعربدة.
لهذه الأسباب أصبحت كتب السيرة، منذ جورجيو فاساري في القرن السادس عشر، نوعا من التسلية الجيّدة. ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت مثل هذه القصص تساعدك على تقدير وتقييم إبداعات أصحابها. إذا أردت، مثلا، أن تعرف طبيعة إسهامات هاري ترومان، فما عليك إلا أن تقرأ سيرة جيّدة له، لأنه لا يمكنك الذهاب إلى متحف كي ترى سياسة الاحتواء المزدوج. الفنّانون في المقابل يسعون للوصول إلينا دون حاجة إلى كلام النقّاد أو مؤرّخي الفنّ، مع أن هؤلاء قد يلفتون اهتمامنا إلى أشياء ربّما تفوتنا. لكن هل بإمكان كاتب السيرة أن يقرّبنا أكثر من التجربة الفنّية؟
الكتب الثلاثة التالية تقدّم إجابات مختلفة ومتباينة عن هذا السؤال.
الكتاب الأوّل، وهو أفضلها، عنوانه ماتيس المجهول: السنوات الأولى للكاتبة هيلاري سبورلنغ.
كتاب سبورلنغ هو عبارة عن قصّة تكشف فصولها بالتدريج عن سيرة حياة رسّام عظيم. السؤال الذي يطرح نفسه عن ماتيس هو: كيف استطاع ابن تاجر بذور من ريف شمال فرنسا الفقير أن يصبح مبتكر الحداثة وسيّد اللون والضوء المتوسّطيين؟
الكتاب يُطلعنا على خطوات ماتيس الصغيرة وإخفاقاته الكثيرة. وشيئا فشيئا ينقلنا للتعرّف على أسلوبه المبتكر وإبداعاته الثورية.
تشرح المؤلّفة كيف نضج أسلوب ماتيس الفنّي وكيف سقط بعد ذلك في فترة مظلمة دامت سنتين إثر فضيحة مالية نشأت عن تزوير أوراق تورّط فيها والدا زوجته. هذه الفترة من حياة ماتيس شغلت كلّ وقته واستنزفت موارده الشحيحة أصلا وسبّبت له الانهيار. ولم يتمكّن من الوقوف ثانية على قدميه إلا بعد أن تمّت تبرئة أصهاره. ثم تشرح المؤلّفة كيف تأثّر الفنّان بأنماط الأقمشة المزركشة في قريته وبلوحات تيرنر التي رآها أثناء قضائه شهر العسل في لندن وبإحدى لوحات سيزان التي اشتراها بمال بقالة العائلة.
الشيء الجدير بالإعجاب في شخصيّة ماتيس هو نزاهته وإخلاصه. فطوال عشرين عاما صمد هذا الرجل المتحفّظ وذو العادات الثابتة في وجه الفقر والمرض وسوء فهم الآخرين له ورفضهم للوحاته الثورية. والده اعتبره عارا على العائلة وحرمه من نصيبه من الميراث. المعلّمون في باريس اخبروه أن حالته ميئوس منها. معاصروه اعتبروا لوحاته المعْلَمية سخيفة ومضحكة. بعض لوحاته مثل العارية الزرقاء صدمت حتى منافسه العتيد بيكاسو. "إذا أراد أن يرسم امرأة فليرسم امرأة. وإذا أراد أن يضع تصميما فليضع تصميما. لكن هذه اللوحة هي شيء بين الاثنين". بيكاسو قال هذا عن ماتيس، لكنّه عن قريب سيقوم بتقليده.
هذه السيرة عن هنري ماتيس مكتوبة بطريقة جيّدة. غير أنها لا تتحدّث كثيرا عن أسرار الإلهام الفنّي. سبورلنغ تخبرنا أن النمط الذي يظهر على ورق الحائط وقماش المائدة في لوحة ماتيس هارموني بالأحمر مستوحى من قماش قطني ازرق كان الرسّام قد لمحه من نافذة قطار. وأثناء مراجعة اللوحة قام بتغيير خلفيّتها من الأزرق إلى الأحمر.
هذه المعلومة على بساطتها ممتعة. لكنّها لا تقوّي استمتاعنا بهذه التحفة بالذهاب إلى ما وراء المعلومة.
الكتاب الثاني عنوانه الحلم بعينين مفتوحتين: حياة دييغو ريفيرا للكاتب باتريك مارنهام. الكتاب عبارة عن حكاية صاخبة لا تخلو من ثرثرة. ثم هو بعد ذلك عن الرسم.
دييغو ريفيرا عاش حياة أكثر جموحا من ماتيس وأنتج فنّا اقلّ أهمّية. وهذا ما تعكسه بوضوح السيرة التي كتبها مارنهام عن الفنّان المكسيكي.
ارتبط ريفيرا طوال حياته بالماركسية والسياسة المكسيكية. كما عُرف بكثرة عشيقاته وفضائحه النسائية المشهورة وكذلك بزواجه الغريب من الرسّامة فريدا كالو.
كان ريفيرا أيضا ناسج أساطير من طراز غابرييل غارثيا ماركيث. ولطالما تحدّث عن قصص يصعب تصديقها، مثل أكله للحوم البشر عندما كان طالبا وقتاله إلى جانب الثائر ايميليانو زاباتا.
يقول المؤلّف: القصص الحقيقية هي تقريبا بمثل جودة القصص الخيالية. فرغم أن ريفيرا لم يحاول اغتيال هتلر كما كان يزعم متباهياً، إلا انه قد يكون وراء جريمة اغتيال تروتسكي. فقد طرد ريفيرا تروتسكي من منزله في مكسيكوسيتي عندما اكتشف أن الأخير كان يقيم علاقة عاطفية مع زوجته. وكانت كالو قد راودت تروتسكي بسبب غيرتها من علاقة الحبّ التي أقامها ريفيرا مع شقيقتها.
وبعد أن أصبح تروتسكي بلا حماية، وجد نفسه فريسة سهلة لعملاء ستالين.
ويحكي مارنهام عن قصّة العلاقة بين ريفيرا وكالو في إطار من الكوميديا السوداء. "في إحدى المرّات، أسَرّ ريفيرا إلى بعض أصدقائه أن زوجته أصبحت مكتئبة جدّا إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه إدخال السعادة على قلبها بإخبارها عن آخر فتوحاته الجنسية".
لكنْ في هذه السيرة أيضا نتعلّم بعض الحقائق عن تطوّر الفنان دون أن نفهم كيف حدث ذلك. في باريس، قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، كان ريفيرا عضوا في حركة الطليعيين الفرنسيين. وكان يرسم أعمالا تكعيبية من قبيل لوحته بعنوان حياة ساكنة مع زجاجة كحول.
وبعد زيارة له إلى ايطاليا رأى خلالها بعض جداريات عصر النهضة، تراجع ريفيرا عن التكعيبية وأصبح يرسم الجداريات الضخمة.
الكتاب الثالث عنوانه الحياة المُشينة لـ سلفادور دالي للكاتب إيان غيبسون. هذا الكتاب يتنمي إلى تلك النوعية من الكتب التي تحفل بالتنظيرات السيكولوجية والمواقف والآراء الانفعالية الحادّة والقاطعة.
ففي كتابه عن دالي، يغرقنا غيبسون بالتفاصيل الساذجة والمملّة. فهو يتحدّث مثلا عن أصول أسلاف دالي وعن هواجسه الجنسية والصراعات داخل الحركة السوريالية التي طُرد منها الرسّام في النهاية بسبب تأييده للفاشية.
نظرية غيبسون الكبرى هي أن حياة دالي كانت مجلّلة بالعار. وهذا ليس بالأمر المفاجئ من شخص رسم لوحة عنوانها المستمني العظيم.
وعلى النقيض من ريفيرا وماتيس، كان وصول دالي مبكّرا وسريعا. فقد أعطته السوريالية طريقة للتعبير عن مكنونات نفسه. ومن الصعب أن تجادل في براعة دالي الفنية كما أثبتها في لوحته مولد الرغبات السائلة التي رسمها عام 1932 عندما كان في سنّ الثامنة والعشرين.
لكن دالي، بحسب المؤلّف، سرعان ما أصبح شخصا راكدا وفاسدا وفي النهاية مثيرا للشفقة.
غيبسون يسرد تجربة دالي الطويلة، لكنّه لا يحاول أن يحلّلها أو يشرحها.
بعد قراءة هذه الكتب الثلاثة، ذهبت لزيارة متحف الفنّ الحديث في نيويورك، في محاولة لاختبار ردود فعلي على الفنّانين الثلاثة.
واستنتجت أن غيبسون حوّل دالي إلى قزم وإلى رسّام بلا قيمة.
بينما حرّضني مارنهام على أن اذهب إلى المكسيك لرؤية المزيد من جداريات ريفيرا.
وأثناء معاينتي للصالة المخصّصة للوحات ماتيس، أحسست بأن احترامي لهذا الفنّان قد تضاعف، خاصّة بعد ما قرأته في كتاب سبورلنغ عن نضاله وعصاميّته. وأزعم أن بإمكاني الآن أن ألقي محاضرة موجزة عن سنواته الأولى.