صُدم الطبيب وهو ينظر إلى نتائج الفحوصات والتحاليل التي كان قد أمر بإجرائها لمريضه وتأكّد له ما كان يتوقّعه. فقام بجمع أبناء المريض وسألهم: كم مضى على والدكم وهو يدخّن؟ كان للسؤال وقع المفاجأة عليهم وأخذوا ينظرون إلى بعضهم البعض بدهشة قطعها قول احدهم: لم يعرف والدنا السيجارة أبدا. ولم يدخّن طوال حياته. التدخين في بيئتنا يعتبر من الأمور المعيبة. قال الطبيب: هذا مستحيل. رئتا الوالد تالفتان تماما وقد انتشر فيهما الورم الخبيث طولا وعرضا.
ووسط ذهول الأبناء ممّا سمعوه انتقل الطبيب إلى الغرفة المجاورة ليتحدّث إلى المريض. طلب منه في البداية أن يشرح له بعض عاداته اليومية. فقال: حياتي بسيطة وليس فيها ما يستدعي الاهتمام. في الصباح الباكر أصحو وأصلّي الفجر ثم اتجه إلى الخيمة الملحقة بالبيت. هناك أشعل بعض الحطب وأجهّز القهوة وانتظر مجيء جارنا الذي اعتدت تناول القهوة وتبادل الحديث معه. سأله الطبيب: قلت انك تستخدم الحطب، صف لي هذا الحطب، مثلا ما أنواعه ومن أين تجلبه عادة؟ قال: الحطب موجود في الصحراء كما تعرف. وأنواعه كثيرة. هناك مثلا الطلح والسُمَر والغضى والعرار والحمض إلى آخر تلك الأنواع من الأشجار التي تنمو في الصحراء. عادة نقطع الشجرة ثم نتركها تجفّ وفي ما بعد نستخدمها حطبا لإيقاد النار وإعداد الطعام والقهوة. قال الطبيب: عندما يشتعل الحطب هل يخلّف دخانا؟ ضحك المريض ممّا بدا له انه سؤال ساذج من الطبيب وقال: أكيد، أكثر الأشجار البرّية ذات روائح عطرية ودخانها في الغالب من النوع الحارق ولا مفرّ من أن يستنشقه الإنسان حتى دون أن يقصد.
الحكاية الثانية هي عن مريض آخر ظهر الورم الخبيث في رئتيه. هو أيضا لم يدخّن طيلة حياته أبدا. وعندما طلب منه الطبيب أن يحدّثه عن أسلوب حياته قال: حياتي عاديّة جدّا. لا أتذكّر أنني فعلت شيئا مختلفا عن ما يفعله سائر الناس. في نهاية الأمر اكتشف الطبيب أن مريضه اعتاد منذ سنوات طويلة على أن يبخّر نفسه بأغلى أنواع العود الذي يُجلب عادة من جنوب شرقي آسيا والهند.
هاتان الحكايتان سمعتهما مؤخّرا من أحد معارفنا. وفي النهاية قد يكون ما رواه مجرّد حالتين معزولتين. ولا توجد أنماط متكرّرة أو متواترة يمكن القياس عليها أو بناء استنتاجات مؤكّدة تربط ما بين الإصابة بسرطان الرئة ودخان الحطب أو البخور.
صحيح أن كيمياء الجسم تختلف من شخص لآخر وكذلك مستوى المناعة والقابلية للإصابة بالأمراض. غير أن مما لا شكّ فيه أن استنشاق الدخان، أيّ دخان، يعتبر أمرا مضرّا بالصحّة. كما أن العلاقة بين الصحّة والمرض يدخل فيها عامل البيئة والثقافة المحلّية وأساليب الحياة مما يعرفه الأطبّاء والمتخصّصون.
أتذكّر أنني قرأت مؤخّرا نتائج دراسة طبّية أشارت إلى وجود علاقة ما بين ظاهرة الانتشار الواسع وغير الطبيعي لوباء الكبد الفيروسي النوع بي في مناطق معيّنة من المملكة وبين ميل الأهالي في تلك المناطق لاستخدام أواني طبخ مصنوعة من الحجر. كما ذكرت دراسة أخرى أن هناك علاقة ما بين انخفاض الهرمونات الذكورية عند الرجال وشرب المياه الصحّية المعبّأة في قناني بلاستيكية.
وبعض الدراسات الطبّية التي أجريت في الغرب أشارت إلى أن الغازات الكيميائية والسموم التي تنتج عن الحطب المحترق شبيهة بتلك التي تنتج عن تدخين التبغ، كما أن تأثيرها لا يقلّ عن التدخين السلبي. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن منتجات الايروسول والغازات المنبعثة من عوادم السيارات.
ترى هل تنتقم الطبيعة من الإنسان الذي يقطع الأشجار ويحرق الغابات ويلوّث المياه ويفسد البيئة؟
بعض الناس يظنّون أن التعرّض للأدخنة لا ينتج عنه أيّ ضرر بالنظر إلى أن أجدادنا الأوائل ألفوا العيش وسط الأشجار المحترقة التي كانوا يستخدمونها لأغراض التدفئة وإعداد الطعام.
وإلى فترة ليست بالبعيدة، ساد اعتقاد مؤدّاه أن تدخين التبغ يُعدّ من الأمور الصحّية. لكن عندما نُشرت إحصائيات تقارن بين معدّلات حالات الوفاة عند من يدخّنون ومن لا يدخّنون أصبح الناس على وعي بمخاطر التدخين الصحّية.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .