:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، ديسمبر 26، 2013

أغنية البلبل

أنطوني دي ميللو كاهن هنديّ ولد في بومباي عام 1931 وتوفّي في نيويورك عام 1987. درس دي ميللو الفلسفة وعلم النفس واللاهوت. وضمّن أفكاره وتجاربه في العديد من الكتب التي تُرجمت إلى لغات كثيرة.
من أشهر هذه الكتب كتابه "أغنية البلبل" الذي يحتوي على مجموعة من الحكم البليغة والقصص الموحية جمعها من ثقافات متعدّدة ومختلفة. وهو يترك لكلّ قصّة الفرصة لكي تكشف عن عمقها ومعناها الداخلي الذي يذهب بالقارئ إلى ما هو أبعد وأكبر من الكلمات.
في بداية الكتاب، يحدّد المؤلّف الجمهور الذي يستهدفه بالكتاب فيقول: كتبت هذا الكتاب للناس من شتّى الأديان والمذاهب. ومع ذلك لا أستطيع إخفاء الحقيقة عن قرّائي وهي أنني كاهن كاثوليكي. وقد تجوّلت بحرّية في التقاليد الصوفية غير المسيحية وحتى تلك التي لا علاقة لها بالأديان وتأثّرت بها بعمق".
ومن خلال كتاباته، يصحّ اعتبار دي ميللو مزيجا من المعلّم الروحاني وعالم النفس، كما أن في شخصيّته شيئا من الفيلسوف الذي يتمتّع ببصيرة نافذة تتأمّل سلوكيات البشر ودوافعهم.
السطور التالية عبارة عن فقرات مختارة من الكتاب.

  • قال المعلّم لأحد أتباعه: أنت تلميذ، فقط لأن عينيك مغمضتان. وفي اليوم الذي تفتحهما سترى أن لا شيء يمكنك تعلّمه منّي أو من أيّ شخص آخر. وظيفة المعلّم هي أن يجعلك ترى أن وجود معلّم غير مجدي".

  • قال قائد قوّات الاحتلال لعمدة القرية الجبلية: نحن نعرف أنكم تخبّئون خائنا. وما لم تسلّموه لنا فإننا سننتقم من أهل قريتك بكلّ وسيلة".
    كانت القرية بالفعل تخفي رجلا كان في واقع الحال شخصا بريئا. ولكن ماذا بوسع العمدة أن يفعل غير أن يضمن سلامة القرية التي هي الآن في خطر؟
    ودارت مناقشات في مجلس القرية استمرّت أيّاما لكنها لم تؤدّ إلى أيّة نتيجة. لذا اخذ العمدة المسألة إلى كاهن القرية. قضى الاثنان، الكاهن والعمدة، ليلة كاملة للبحث في الكتاب المقدّس عن حلّ للمسألة. وأخيرا وجدا نصّا يقول: من الأفضل أن يموت إنسان واحد كي تُنقذ الأمة".
    وبناءً عليه سلّم العمدة الرجل الهارب إلى جنود الاحتلال. وبعد ليلتين سُمع صدى صرخاته يتردّد في طرقات القرية بينما كان يتعرّض للتعذيب إلى أن مات.
    بعد ذلك بعشرين عاما، جاء نبيّ إلى تلك القرية، وذهب مباشرة إلى العمدة وقال له: كيف يمكن أن تكون قد فعلت هذا؟ ذلك الرجل أرسله الله لكي يكون مخلّصا لهذا البلد وقد سلّمته وعرّضته للتعذيب والقتل".
    فردّ العمدة: ولكن أين اخطأت؟ لقد نظرت أنا والكاهن إلى الكتاب المقدّس وفعلت ما أمر به. قال النبيّ: وهذا هو الخطأ الذي ارتكبتماه. لقد نظرتما في الكتاب وكان ينبغي أن تنظرا في عيني الرجل.

  • الألم ليس بالشيء الايجابي ولا السلبي. انه جزء من الحياة. والحياة عبارة عن نموّ. وأيّ نموّ لا بدّ وأن يكون الألم جزءا من مكوّناته.

  • عثر رجل على بيضة نسر ووضعها في عشّ الدجاج الملحق بفناء بيته. وبعد أيّام فقست البيضة وخرج منها نسر صغير عاش وترعرع مع الكتاكيت.
    وطوال حياته، كان النسر يفعل ما تفعله الكتاكيت ظنّا منه انه دجاجة. كان مثلا يحفر الأرض بحثا عن الديدان والحشرات ويزقزق كالدجاج ويفرد جناحيه ويطير بضعة أقدام في الهواء.
    ومرّت السنوات وكبر النسر في السنّ. وذات يوم رأى طائرا رائعا فوقه في السماء الصافية. كان الطائر يتأرجح في جلال ورشاقة بين تيّارات الرياح القويّة بجناحيه الذهبيين القويين.
    نظر النسر العجوز إلى فوق في رهبة وقال: من ذلك الطائر الذي يحلّق في السماء؟ فردّ جاره الديك: هذا هو النسر ملك الطيور.
    فقال النسر: ذاك مكانه السماء ونحن مكاننا الأرض. إننا دجاج.
    لذا عاش النسر ومات وهو دجاجة لأن ذلك هو ما كان يعتقده طوال حياته.

  • بعد أن عاد الراهب من الصحراء سأله الناس: أخبرنا ماذا يشبه الله"؟
    ولكن كيف يمكن أن يقول لهم ما أدركه بقلبه؟ هل يمكن وصف الله في كلمات؟!
    وأخيرا أعطاهم وصفة غير دقيقة وغير كافية على أمل أن تغري البعض منهم بأن يجرّبوا بأنفسهم. أمسَكوا الوصفة وجعلوا منها نصّا مقدّسا. ثم فرضوها على الآخرين كعقيدة مقدّسة. وذهبوا بعيدا لنشرها في أقاصي الأرض. بل إن بعضهم ضحّى من اجلها بحياته.
    شعر الناسك بالحزن. فكّر انه ربّما كان من الأفضل لو أنه لم يقل لهم شيئا.

  • جاء الناسك لتحويل سكّان المدينة وهدايتهم للإيمان. في البداية كان الناس يستمعون إلى خُطبه باهتمام. ولكن شيئا فشيئا اخذ الملل يتسرّب إلى نفوسهم حتى لم يعد احد منهم يأتي للاستماع إلى كلامه. ومع ذلك استمرّ الرجل يلقي مواعظه بلا جمهور.
    وذات يوم جاء إليه احد الأشخاص وسأله: لماذا تستمرّ في الوعظ مع أن أحدا لا يستمع إلى كلامك؟ فقال النبيّ: في البداية كنت آمل أن أغيّر هؤلاء الناس. وإذا كنت ما أزال مستمرّا في الصراخ إلى اليوم فلكي أمنعهم من تغييري".

  • قال متصوّف عربي: إن فعل الإثم ليس بمثل ضرر الرغبة والتفكير في فعله. وهناك فرق بين أن ينغمس الجسد في متعة للحظة، وبين أن يلوكها ويمضغها العقل والقلب إلى ما لا نهاية.

  • لسنوات كنت إنسانا عصبيّا وقلقا ومكتئبا وأنانيّا. وكان الجميع يحثّونني على أن أتغيّر. كنت مستاءً منهم ومتّفقا معهم بنفس الوقت. كنت أريد أن أتغيّر. ولكنّني لم استطع بالرغم من محاولاتي الكثيرة.
    وما آلمني أكثر هو أن اقرب صديق لي كان أيضا مثل الآخرين يحثّني على أن أتغيّر. لذا شعرت بالعجز وبأنّني محاصَر.
    وفي احد الأيّام قال لي ذلك الصديق: لا تتغيّر. أنا أحبّك كما أنت".
    كانت تلك الكلمات كالموسيقى لأذني. "لا تتغيّر. أنا أحبّك كما أنت".
    أحسست بالارتياح، وبأنني ما زلت على قيد الحياة.
    و فجأة، تغيّرت!
    الآن اعرف أنه ما كان يمكنني أن أتغيّر حقّا لولا أنني وجدت شخصا يحبّني كما أنا، سواءً تغيّرت أم لا.
    هل هكذا تحبّني يا الله؟!

  • كان كاهن القرية يتعرّض لإزعاج الأطفال وهو في صلاته. ولكي يتخلّص منهم ويصرفهم بعيدا قال لهم: أسرعوا بالذهاب إلى النهر، وسترون هناك وحشا ينفث النار من فمه.
    لم يمض طويل وقت حتى كانت القرية بأكملها قد سمعت عن ظهور الوحش وأسرعت إلى النهر لمعاينته.
    ثم لم يلبث الكاهن نفسه أن انضمّ إلى الحشد. وبينما كان يلهث وهو في طريقه إلى النهر قال لنفسه: صحيح أنني اخترعت القصّة. ولكن ما يدريني أنها غير صحيحة؟!
    "أفضل طريقة للإيمان بآلهة خلقناها هي أن نقنع الآخرين بوجودها".

  • الدعاء يمكن أن يكون خطرا في بعض الأحيان. يروي سعدي الشيرازي هذه القصّة المعبّرة. يقول: كان لي صديق، وكان سعيدا بأن زوجته أصبحت حاملا. كان يتوق لأن يولد له طفل ذكر. وقد اخذ على نفسه وعدا بأن ينذر لله نذرا إن هو استجاب لدعائه ورزقه بصبيّ ذكر.
    وقد أنجبت زوجته صبيّا. وفرح صديقي وأقام في منزله حفلا دعا إليه جميع أهالي القرية.
    بعد سنوات عديدة، وفي طريق عودتي من مكّة، مررت بقرية صديقي وقيل لي انه في السجن. سألت: لماذا، ما الذي حدث له؟ فقالوا: لقد قُبض على ابنه وهو في حالة سكر، وقد قتل رجلا ثم هرب. لذلك قُبض على أبيه وأودع السجن.
    "أن نواظب على طلب أن يستجيب الله لما نريد شيء جدير بالثناء. ولكنه أيضا أمر محفوف بالمخاطر أحيانا".

  • حذّر الله قوما من زلزال يبتلع مياه الأرض. وأبلغهم بأن المياه الجديدة التي ستأتي عقب الزلزال ستصيب كلّ من يشرب منها بالجنون.
    وكان هناك نبيّ هو فقط من اخذ تحذير الرب على محمل الجدّ. وقد ادّخر النبيّ بعض الماء في كهفه الجبليّ بما يكفيه حتى موته.
    وكان لا بدّ أن يأتي الزلزال، فاختفت المياه وجرت في الينابيع والبحيرات والأنهار مياه جديدة. وبعد بضعة أشهر نزل النبيّ من الجبل قاصدا السهول. كان كلّ شخص في القرية قد أصبح مجنونا. وقاموا بالهجوم عليه لأنهم اعتقدوا انه مجنون.
    لذا عاد النبيّ إلى كهفه الجبليّ وكان سعيدا بالماء الذي سبق وأن ادّخره. لكنه لم يستطع تحمّل الشعور بالوحدة، لذا نزل إلى السهول مرّة أخرى. غير انه ووجه بالرفض ثانية من الناس لأنه لم يكن يشبههم.
    ثم استسلم النبيّ في النهاية، وألقى بالماء الذي كان قد احتفظ به بعيدا وشرب الماء الجديد مع الناس وأصبح مثلهم مجنونا.
    "الطريق إلى الحقيقة ضيّق. وأنت تمشي فيه لوحدك".

  • كان واعظ القرية مشغولا في منزل أحد الأهالي يجيب على أسئلة الجدّة على فنجان من القهوة.
    سألت السيّدة العجوز الواعظ: لماذا يرسل لنا الربّ الأوبئة بين الحين والآخر؟
    قال الواعظ: حسنا، أحيانا يصبح الناس أشرارا جدّا، ما يحتّم إزالتهم. ولهذا يسمح الرب الطيّب بأن تأتي الأوبئة.
    وهنا تعترض الجدّة على كلامه قائلة: ولكن لماذا يجب أن يموت أناس طيّبون كثيرون مع الأشرار؟
    فيردّ الواعظ: الطيّبون يُستدعَون كشهود. والربّ يريد أن يمنح كلّ إنسان محاكمة عادلة.
    "لا يوجد سؤال لا يمكن للمؤمن المتحمّس أن يجد له جوابا".

  • كان التلاميذ مثقلين بالكثير من الأسئلة عن الله. قال المعلّم: الله غير معروف، مجهول. وكلّ تصريح عنه، وكلّ إجابة على سؤال من أسئلتكم هي تشويه للحقيقة.
    واحتار التلاميذ من كلام المعلّم وقالوا: إذن لماذا تتحدّث عنه دائما؟
    ردّ المعلم: ولماذا يغنّي الطائر؟ انه يغنّي، لا لكي يقول كلاما، وإنما لأن عنده أغنية. كلمات المعلّم يجب أن تُسمع كما يستمع المرء إلى الرياح في الأشجار وإلى صوت النهر وإلى أغنية البلبل.