:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 10، 2012

ساراساتي: لحن غجري

الموسيقيّ الاسباني بابلو دي ساراساتي كان احد أعظم عازفي الكمان في تاريخ الموسيقى. وقد درس الموسيقى على يد والده وعمره لا يتجاوز الخمس سنوات. وعندما بلغ الثانية عشرة حصل على بعثة لدراسة الموسيقى في كونسيرفاتوار باريس.
ألّف ساراساتي ما يربو على الخمسين عملا موسيقيا. وأشاد بمؤلّفاته بعض أشهر الموسيقيين في القرن التاسع عشر مثل سان سونس وجورج بيزيه. كما امتدحه الكاتب المسرحي الايرلندي برنارد شو وأثنى على براعته في عزف الكمان وقال إن بينه وبين النقّاد مسافة واسعة.
موسيقى ساراساتي تغلب عليها النكهة الاسبانية الواضحة. وبعض ألحانه تذكّر إلى حدّ ما ببعض مقاطع أوبرا كارمن.
أشهر أعماله هو القطعة المسمّاة "لحن غجري". وهذه الموسيقى لها اسم آخر اشتهرت به في ما بعد هو "تسيغونيرفايزن"، وهي كلمة تعني بالألمانية أغنية أو لحن غجري. وقد شاع الاسم الأخير اعتبارا من العام 1980 عندما استخدم المخرج الياباني سيجون سوزوكي هذا اللحن في فيلم له بنفس الاسم.
المعروف أن هذه المقطوعة تحظى بشعبية كبيرة بين عازفي الكمان. وقد سُجّلت عددا لا يُحصى من المرّات وأدّاها عازفون كثر من أشهرهم ياشا هايفيتس وآنا زوفي موتار وايزاك بيرلمان ونايجل كينيدي وساره تشانغ وغيرهم.
كما غنّاها عدد من أشهر مغنّي الاوبرا مثل لوتشيانو بافاروتي وخوسيه كاريراس وبلاسيدو دومينغو. واستُخدمت كثيرا كموسيقى خلفية في العديد من الأفلام وبرامج الدراما.
تبدأ الموسيقى بداية صاخبة وحادّة بمصاحبة الاوركسترا. الجمال والتعبير القويّ هو ما يميّز الاستهلال الرائع لهذه المعزوفة. ثم يدخل الصوت المكتوم للكمان ليعيد عزف نفس المقطع الأوّل مثيرا إحساسا بالحزن وربّما اليأس. ويتبادل الكمان والاوركسترا الأدوار في وتيرة متفاوتة بين السرعة والبطء.
وفي منتصف القطعة تقريبا، تسمع لحنا مرحا يذكّر بموسيقى الغجر الراقصة وبالترحال من مكان إلى آخر. ثم يتحوّل اللحن من الحزن إلى الفرح ومن التشاؤم إلى التفاؤل. وربّما يساورك شعور بأن الموسيقى تبدأ ثم تراوح مكانها ولا تصل أبدا إلى خاتمتها الأصلية.
كتب ساراساتي هذه القطعة عام 1878، وعُزفت لأوّل مرّة في ليبزيغ بـ ألمانيا. وفي ما بعد عزفها أمام ملكة اسبانيا ايزابيلا الثانية فأهدته آلة كمان إعجابا بموهبته.
"لحن غجري" يُعتبر عملا صعبا جدّا من الناحية التقنية. لكنه كان أيضا نتيجة حالة أو لحظة من لحظات الإلهام. وقد ألّف أصلا للبيانو والكمان معا. لكن ساراساتي أعاد كتابته اوركسترالياً بالشكل الذي نعرفه عليه اليوم.
واللحن يذكّر إلى حدّ كبير بلحن غجريّ آخر لا يقلّ شهرة هو الحانة للموسيقيّ الايطالي فيتوريو مونتي.
توفّي بابلو دي ساراساتي في باريس عام 1908 عن خمسة وستّين عاما. وكان قد أوصى قبل وفاته بأن تؤول آلة الكمان الخاصّة به إلى متحف الموسيقى في باريس. وما يزال الكمان يحمل اسمه إلى اليوم وفاءً لذكراه.

الأربعاء، مايو 09، 2012

الليدي غودايفا

امرأة متجردة تعتلي ظهر حصان. هل في هذا المنظر ما يسترعي انتباهك؟
عندما تتمعّن قليلا في تفاصيل اللوحة، سرعان ما ستكتشف أن صورة المرأة المتجردة فيها ليست ممّا يثير الغرائز أو يخدش الحياء. وحتى لو لم تكن على علم بقصّة اللوحة، سيساورك إحساس بأن ملامح المرأة الرزينة ورأسها المنكّس إلى أسفل ونظراتها المنكسرة تنمّ عن شعورها بالحرج والحياء وتوحي بأنها لم تختر هذا الموقف من تلقاء نفسها وإنما قد تكون دُفعت إليه دفعا ورغما عن إرادتها.
الليدي غودايفا هي بطلة واحدة من أشهر الأساطير التي تناولها المؤرّخون والشعراء والفنّانون منذ ظهورها قبل أكثر من خمسمائة عام. ومن بين من تحدّثوا عنها كلّ من سيغموند فرويد والشاعر الفرد تينيسون والروائي دانيال ديفو. كما جسّدها العديد من الفنّانين مثل جون كالير وآدم فان نورت وجورج واتس، بالإضافة إلى النحّات جون توماس.
الغريب أن الناس اعتادوا على أن ينفروا من صورة الأنثى المتجردة باعتبارها رمزا للعيب والخطيئة. ومع ذلك أصبحت غودايفا، وبرغم عريها، تجسيدا للبطولة والتواضع والتضحية والإحساس بالآم الناس ومعاناتهم.
وطبقا للقصّة، فإن غودايفا، ومعنى الاسم هِبَة الله، كانت زوجة لأمير انجليزي يدعى ليوفريك كان حاكما لمقاطعة كوفنتري خلال العصور الوسطى. كان ليوفريك أميرا مستبدّا أثقل على رعيّته بالضرائب الجائرة وأصبح الناس يعانون الأمرّين جرّاء استهتاره وظلمه.
وقد قصده أعيان المدينة ووجهاؤها يطالبونه بأن يشفق على الناس ويتحسّس معاناتهم ويعيد النظر في سياسته الظالمة. لكن تلك المناشدات وقعت على آذان صمّاء، فلم تليّن قلب الأمير ولم تثنه عن موقفه المتعنّت.
زوجته، الليدي غودايفا، كانت امرأة حكيمة وعاقلة. وقد ناشدته، هي الأخرى، وتوسّلت إليه مرارا أن يخفّف من معاناة الناس ويرفع عنهم سيف الضرائب. لكنه كان يرفض طلباتها بعناد. وعندما سئم من كثرة توسّلاتها وعدها بأن يذعن لطلبها شريطة أن تتجرّد من ملابسها وتركب حصانا يطوف بها، وهي عارية، في طرقات المدينة.
فكّرت غوديفا طويلا في طلب زوجها الغريب. وفي النهاية وافقت على شرطه على مضض.
ثم اصدر ليوفريك إعلانا حدّد فيه يوما معيّنا وطالب فيه الناس بالبقاء في منازلهم وبإغلاق نوافذهم بإحكام ريثما تمرّ الأميرة في شوارع المدينة.
وفي اليوم الموعود، ركبت غوديفا حصانا بعد أن تخلّت عن ملابسها وجالت به في طرقات البلدة. والتزم الجميع بتعليمات زوجها بالحفاظ على حياء المرأة ما عدا شخص تعيس يُدعى توم دفعه فضوله الشهواني إلى حفر ثقب في جدار منزله كي يتمكّن من رؤية الأميرة وهي تمرّ في الشارع متجردة. وتقول الأسطورة أن الرجل المتلصّص عوقب بالعمى من فوره نتيجة استراقه النظر إلى امرأة متجردة.
وفي النهاية، حافظ زوج غوديفا على وعده لها وقرّر إلغاء الضرائب التي كانت تثقل كاهل الناس.
هذه الأسطورة الجميلة تنطوي على بعض المفارقات. وأولّها أن خلاص الناس أتى من زوجة نفس الحاكم الذي كان قد استخفّ بهم وسخر من طلباتهم. والمفارقة الثانية أن المرأة ظلّت على عفّتها واحتشامها، بل إنها أصبحت بطلة في أعين الناس، على الرغم من طوافها في الطرقات وهي متجردة.
في الحقيقة، لا يملك المرء إلا أن يعجب بشجاعة الليدي غوديفا وشهامتها ونبلها وتضحيتها وحسّها الإنساني العالي. لاحظ كيف أن انتماءها للطبقة الحاكمة لم يمنعها من إظهار تعاطفها مع هموم ومعاناة الناس العاديّين. بل لقد قبلت أن تدفع ثمنا باهظا نتيجة إصرارها على أن تساعد الناس وتخفّف من معاناتهم.
فرويد تأثّر بهذه الأسطورة وبنى على نموذجي توم وغوديفا بعض تعريفاته ومفاهيمه عن العري والاستثارة.
وتوم نفسه صار شخصيّة مفضّلة للفنّانين والكتّاب. ومع مرور الوقت، أصبح كبش الفداء الذي يتحمّل، رمزيّا، وزر رغبة العامّة في النظر إلى امرأة متجردة.
بعض المؤرّخين يشيرون إلى أن الليدي غوديفا كانت امرأة حقيقية عاشت في كوفنتري وكانت متزوّجة من احد الولاة المتنفّذين فيها. غير أن القصّة نفسها، بحسب هؤلاء، لم تحدث قطّ. ولا يُعرف حتى الآن كيف ولماذا اخترعت هذه الأسطورة. لكن يقال أن أصولها تعود إلى العصور الوثنية. وقد أضاف إليها مؤرّخو المسيحية في القرون الوسطى عنصرا سرديّا انتقل من جيل إلى جيل حتى أخذت شكلها النهائي الذي تُعرف به اليوم.

الاثنين، مايو 07، 2012

ميرزا غالب

"من الذي يملك عمرا كافيا ليتطلّع في طيّات شعرك؟! كلّ قطرة ندى تنتظر الموت عند وصول أشعّة الشمس. وأنا أيضا انتظر أن أتحرّر عندما ترمقينني بنظرة".
"سمعنا عن طرد آدم من الجنّة. بمزيد من الإذلال سأرحل عن الشارع الذي تقيمين فيه".
"في الحبّ، لا فرق بين الحياة والموت. نحيا على صورة الكافر الذي قد نموت لأجله".
"أيّتها المستبدّة! سيعرفك الجميع إذا انزلقت خصلات شعري المجعّد من تحت عمامتي".

بعض الشعراء يتحدّثون عن الثورة. وبعضهم الآخر عن تعاسة الحبّ. والبعض الثالث عن معنى الحياة. و ميرزا أسد الله خان غالب (1797-1869) يمكن اعتباره شاعر الجنون: جنون العشق، جنون الوجود، وجنون الفناء.
ومحاولة الكتابة عن هذا الشاعر هي في حدّ ذاتها انتقاص من شعره وما يمثّله. وبعد قراءة شعره، سيبدو لك الكثير من الشعراء الآخرين باهتين مقارنة به.
عالم غالب بوتقة حقيقية من المشاعر الإنسانية. وبقدر ما يطمح قارئه في أن يفهم شعره، بقدر ما يكتشف أن ذلك الشعر مثل العنقاء، غامض وبعيد المنال. بعض أشعاره بسيطة بشكل خادع. وهناك منها ما قد تأخذ منك أشهرا قبل أن تكشف لك عن أسرارها الكامنة.
بالإضافة إلى شعره، فإن ما يحبّب الكثيرين إلى شعر غالب هو شخصيّته. ومن خلال رسائله التي هي انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي في عصره، تستطيع أن تستنتج، مثلا، انه تعّرف إلى بعض الأسرار الغامضة للكون أثناء حديثه مع فتاة جميلة رآها ذات يوم في حانة. ويبدو أن غالب كان يتنقّل على حدود عالَمَين في وقت واحد. وهذا أمر نادر جدّا بين الشعراء.
في مسائل الحبّ خاصّة، كان الجنون هو ما يميّز غالب ويبرزه. وبعض تعابيره القويّة عن العشق تذكّر بمجنون ليلى.
"لماذا يخاف قاتلي/معشوقي؟ لا احد سيعتبره مسئولا عن الدم الذي سينهمر من عينيّ بلا انقطاع طوال حياتي".
"إن كان هناك من يريد أن يكتب لها رسالة، فيمكن له أن يسألني. ففي كلّ صباح أغادر بيتي وقلمي فوق أذني".
"من كنت أتوقّع منه الإنصاف والثناء على ضعفي تبيّن انه مثخن أكثر بنفس السيف القاسي".
على الرغم من أن غالب كان رجلا مؤمنا، إلا انه لم يكن أبدا إنسانا متديّنا. ومثل الكثير من الصوفيين الذين أتوا قبله وبعده، لم يكن يعترف بأيّ تمييز بين طبقة وأخرى أو بين دين وآخر. ويمكن اعتبار شعره صدى لهذه الرسالة العالمية.
وجاذبية شعر غالب هي اليوم أكثر قوّة ممّا كانت عليه أثناء حياته. ربّما لأن شعره هو انعكاس للطبيعة المتأصّلة فيه كإنسان. وهو في شعره يتناول شتّى المشاعر الإنسانية كالحبّ والبؤس والوجود والعدم.
"بحقّ الله، لا ترفع العباءة التي تغطّي الكعبة. أخشى أن يكون الكافر الذي تحتها معشوقي".
"شتّان ما بين باب المسجد وباب الحان. ما أعلمه أنني عندما غادرت الحان بالأمس رأيت الفقيه يدخله".
"أوه، يا ربّ! ليست الخطايا التي ارتكبتها هي ما اندم عليه، بل تلك التي لم تواتِني الفرصة لارتكابها".
"انوي الذهابُ إلى مكانٍ اختلي فيه مع نفسي. في ذلكَ المكان، لا أحد غيري ولا أحد حولي. أريد أن ابني لي بيتا بلا باب ولا جدران ولا حرس أو جيران. وعندما أرحل عن هذه الحياة، لن يكون هناك من يندبُ حظّه أو يذرف الدموع".

الذين تحدّثوا عن غالب وشعره كثيرون. وأشهر هؤلاء هو رالف راسل، الأستاذ في كلّية لندن للدراسات الشرقية والأفريقية، الذي ألّف أكثر من ستّة كتب عن الشاعر.
ولد غالب في اغرا بالهند في 27 ديسمبر 1797 لعائلة تعود أصولها إلى السلاجقة الأتراك. والده تزوّج من أسرة موسرة في اغرا. لكنّه توفّي عندما كان غالب في الخامسة من عمره. وقد قضى الصبيّ معظم طفولته في منزل جدّيه لأمّه، وتلقّى تعليمه بالفارسية والعربية والأردية، كما درس المنطق والفلسفة. وطوال حياته، عاش غالب حياة متقشّفة. كان دائما بحاجة إلى المال وكان يعيش على الديون.
بدأ الشاعر الكتابة باللغة الأوردية في سنّ مبكّرة جدّا، وباللغة الفارسية عندما بلغ الحادية عشرة. وقد تزوّج في سنّ المراهقة، وأنجب العديد من الأطفال. لكنّهم جميعا توفّوا وهم صغار.
وخلافا لأسلافه القدامى، قرّر غالب أن يعيش من القلم بدلا من السيف. ولأن البلاط الملكي كان مقرّه في دلهي، فقد انتقل غالب إلى هناك كي يحصل على رعاية الإمبراطور المغولي بهادور شاه ظفر، الذي كان هو نفسه شاعرا. وكان أيضا يطمح في نيل رضا النبلاء الذين كانوا يتردّدون على القصر، وكذلك الانجليز.
في رسالة إلى ملكة بريطانيا آنذاك، يكتب غالب ممنّيا النفس بأعطية أو مكافأة: من عادة ملوك بلاد فارس أن يملئوا أفواه الشعراء باللؤلؤ أو يمنحوهم وزنهم ذهبا أو يفتحوا لهم خزائنهم". المفارقة أن الرجل الذي أثرى الأدب الفارسي والأوردي بقي متسوّلا طوال حياته.
كان ميرزا أسد الله خان غالب شاعرا منفلتا على طريقته. وعلى الرغم من أنه كان يوقّر الله والرسول، إلا انه لم يكن مواظبا على الصلوات، ولم يكن يصوم رمضان، كما لم يذهب لأداء الحجّ في مكّة.
وكان معروفا عنه ارتياده لبيوت المتعة ومصاحبته للمحظيّات. كما كان مولعا بشكل مفرط بالخمرة. كان يفضّل النبيذ الفرنسي، وكان يحبّ أيضا النبيذ الاسكتلندي الذي كان يشربه مساءً ممزوجا بالماء المعطّر أثناء نظمه لأشعاره. وكان يرى أن من لم يذق طعم النبيذ ولم يعرف القمار ولم يُضرب بحذاء معشوقة يوما ولم يدخل السجن لا يمكن أن يكون شاعرا!
"أهل العرفان منهكون من تعب الطريق. معظمهم تخلّوا عن المهمّة ولم يستدلّوا أبدا على عنوانك".
"إضغط على قلبك لتزيل ذلك السهم القاتل. إذا خرج سيخرج معه قلبك".
"واحسرتاه! ليس هناك من ممدوح يستحقّ المدح. وليس هناك من معشوق يستحقّ الغزل".
يُروى انه بعد إخماد ثورة عام 1857، قام الانجليز بطرد جميع المسلمين من دلهي. والتزم غالب منزله في الوقت الذي كان فيه التمرّد مستمرّا. وقد استدعاه كولونيل انجليزي وسأله: ألست مسلما؟ فقال: نصف. فسأله الانجليزي: ماذا تقصد؟ فأجاب: أنا لا آكل لحم الخنزير، لكنّني اشرب الخمر".
وعلى الرغم من أن غالب عاش حياة بساطة وزهد، إلا انه كان شغوفا بالقمار. وقد عوقب ذات مرّة بالسجن ثلاثة أشهر لإدارته محلا للقمار.
الغريب أن غالب كان يعتقد أن المشاعر العميقة لا يمكن التعبير عنها بلغة الأوردو. وكان يفضّل أن يكتب شعره بالفارسية بدلا من الاوردية. لكن لحسن الحظ انه غيّر رأيه في الوقت المناسب وترك لنا هذا الكنز الثمين من القصائد والأشعار النفيسة بالاوردية.
صحيح أن أشعاره تفقد الكثير من بريقها ووهجها وموسيقيّتها بفعل الترجمة. لكن شيئا من المعنى يصل في النهاية.
حاول غالب التنبّؤ بسنة وفاته. ولكنه اخطأ في تخمين ذلك. وقد كان أقرب ما يكون إلى الحقيقة عندما كتب يقول: الحياة تمرّ بوتيرة متهوّرة، لا أعرف أين ومتى ستتوقّف. يداي ليستا في السلاسل وقدماي ليستا في الرِكاب".
ميرزا غالب ما يزال يتمتّع بشعبية كبيرة في الثقافة المعاصرة. وقد تغنّى بأشعاره الغزلية العديد من مشاهير الغناء الهنود والباكستانيين مثل عابدة برفين ونور جيهان ونصرت فاتح علي خان وغيرهم. كما كان موضوعا لأكثر من عمل سينمائي ومسرحي. "مترجم".

الأحد، مايو 06، 2012

عزف على الوتر الرابع

في عصر الباروك، أي الزمن الذي عاش فيه يوهان سيباستيان باخ، لم تكن الحياة سهلة أو مُريحة. لم تكن هناك أجهزة تدفئة أو راديو أو تلفزيون أو هاتف أو سيّارات أو طائرات. والقليلون فقط، أي أفراد الطبقة الارستقراطية، هم من كانوا يعيشون في راحة ويُسر. أما معظم الناس فكان عليهم أن يكدّوا ويكدحوا لساعات طوال يوميا كي يؤمّنوا عيشهم. الرعاية الطبّية كانت بدائية. والكثيرون كانوا يعانون تحت حكم الملوك والملكات والأباطرة. إذ لم تكن أفكار الحرّية والديمقراطية قد ظهرت بعد.
في ذلك الوقت أيضا، كانت مهنة الموسيقيّ مختلفة عمّا هي عليه اليوم. كان هناك فقط نوعان من الوظائف الموسيقية: إما العمل للكنيسة أو العمل لدى الأسرة الحاكمة. وعندما تحصل على وظيفة موسيقيّ، لم يكن مسموحا لك بأن تتركها إلا بعد موافقة صاحب العمل. باخ، مثلا، ترك الخدمة في بلاط فيمار ليلتحق بوظيفة أخرى فتشاجر مع الدوق ثم أرسل إلى السجن ليمكث فيه شهرا. كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي عرف فيها السجن. ولم يكن وقته في السجن ضائعا، بل استمرّ يؤلّف الموسيقى وهو رهن الاعتقال.
عندما نتذكّر عصر الباروك فإننا نتحدّث عن فترة امتدّت من بداية القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر، أي حوالي مائة وخمسين عاما. هذا التحديد الزمني قد لا يكون دقيقا بالضرورة. لكنّه يمثل الحقبة التي كانت خلالها الفنون، من رسم ونحت وموسيقى ورقص ومعمار، تحمل نفس الملامح: التأثيرات الدراماتيكية الكبيرة، والحركات التعبيرية العنيفة، والأنماط المعقّدة، والألوان القويّة، والتباين الهائل بين الضوء والظلّ، والخطوط المتعرّجة والمزخرفة.
كان الباروك فترة رائعة بحقّ. كان عصر المغامرات والاكتشافات الكثيرة. الفلكيّون، أمثال كوبرنيكوس وغاليليو، كانوا يحدّقون في أعماق السماء ليكتشفوا أن الأرض تدور حول الشمس. و انتون ليفنهوك كان يكتشف عالما جديدا كليّا تحت عدسات الميكروسكوب: البكتيريا وخلايا الدم، وغيرهما كثير. و وليم هارفي كان يكتشف الدورة الدموية. وإسحق نيوتن.. الجاذبية. وكان جيمس كوك في طريقه لاكتشاف الجزر الجنوبية النائية في المحيط الهادئ.

لم يكن باخ يحظى بتقدير كبير أثناء حياته. والقليل من موسيقاه نُشر وهو حيّ. لكن ذلك لم يكن علامة على عدم الاحترام. كانت الموسيقى في ذلك العصر تُكتب لكي تُعزف في وقتها ودونما تفكير في المستقبل. وكان يُنظر إلى الموسيقى كخدمة تُؤدّى لصاحب العمل؛ أي كمنتج استهلاكي وليس سلسلة من الإبداعات الفنّية التي يمكن أن تعيش مع الناس لقرنين أو ثلاثة.
في موسيقى الباروك ثمّة إحساس بالروعة والإثارة وديناميكية الحركة والطاقة الإيقاعية الكبيرة التي تكشف عن خطوط موسيقية تستمرّ وتدوم ونادرا ما تتوقّف. حتى الملابس وتصفيف الشعر والأثاث والحدائق كانت تعكس هذه السمات. الحدائق المشهورة في فرساي خارج باريس هي مثال جيّد على هذا. كان الباروك عصرا من الروعة والترف والإبداع. وكلمة "رائع" التي نستخدمها عادة لوصف الأعمال الفنّية المتميّزة تنطبق في الواقع على العديد من إبداعات عصر الباروك.
من أشهر وأروع القطع الموسيقية التي انتقلت إلينا من ذلك العصر موسيقى باخ المسمّاة "أغنية على الوتر الأدنى للكمان" (1720م). الكلمة في بداية الاسم تشير إلى قطعة موسيقية يؤدّيها مغنّ منفرد بمصاحبة آلات موسيقية.
لكن أين هو المغنّي في هذه القطعة؟ المغنّي هنا هو الكمان نفسه. أي أن الكمان، بمعنى ما، يقوم بدور المؤدّي. أما لماذا "الوتر الأدنى للكمان" فلأن للكمان أربعة أوتار، وكلّ وتر مخصّص لطبقة صوتية أو نغمية مختلفة. وأدنى هذه الأوتار أو الدرجات أو السلالم هو الذي يُصدر صوتا ثريّا ومكتملا. وهذا هو السبب في أن باخ تعمّد أن يعزف المقطوعة بأكملها على هذا الوتر بالذات.
هذه المعزوفة سهلة جدّا. ومع ذلك فإن لها تأثيرا عميقا في نفس السامع. تشعر وأنت تستمع إليها كما لو أن الموسيقى تأخذك إلى عالم آخر. بإمكانك أن تغلق عينيك وأنت تسمعها لتتخيّل شيئا ما جميلا وبعيدا جدّا. ليس من المستغرب إذن انه من بين أكثر من ألف مقطوعة موسيقية كتبها باخ، فإن هذه القطعة تُعتبر أشهر أعماله على الإطلاق.
لم يكن باخ شخصا غنيّا أبدا في حياته. ولم يبتكر أشكالا موسيقية جديدة. كما انه لم يكن يتمتّع بشهرة واسعة، على الأقل حتى وفاته. لكنه اليوم يقف على رأس قائمة المؤلّفين الموسيقيين العظام. وبعض النقّاد يعتبرونه الأعظم بينهم. هذا طبعا مجرّد رأي. لكن ما يزال لموسيقاه ذلك التأثير العميق والقدرة على إثارة المشاعر والأفكار.