:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 28، 2005

قمر في بغداد

هذه القصيدة تعتبر بحقّ من أجمل وأرقّ ما حفظه لنا ديوان الشعر العربي. قائلها هو بن زريق البغدادي الذي لا ُيعرف عنه الكثير، باستثناء انه ارتحل من بغداد إلى بلاد الأندلس تحت وطأة الفقر والعوز وطمعا في مدح أمرائها مقابل ما كان يؤمّله منهم من ثناء وأعطيات.
غير أن شيئا من ذلك لم يتحقّق. وتحكي بعض الروايات أن الشاعر بعد أن تعثّرت أحلامه في التقرّب من أمراء البلاد وولاتها عاد مهموما ذات ليلة إلى النزل الذي كان يسكنه. وفي صبيحة اليوم التالي عُثر عليه ميّتا في فراشه وتحت وسادته هذه الأبيات الحزينة التي يتذكّر فيها زوجته الوفيّة التي لطالما حاولت إقناعه بالبقاء إلى جانبها والعدول عن فكرة السفر والارتحال إلى البلاد النائية.

لا تـعـذليه فــإن الـعـذل يـولـعه
قـد قـلت حـقاً ولكن لـيس يـسمعـهُ

جـاوزت فـي لـومه حـداً أضـرّ به
مـن حـيث قـدّرت أن الـلوم يـنفعهُ

فـاستعملي الـرفق فـي تـأنيبه بـدلاً
مـن عـذله فهو مضنى القلب موجعـهُ

قــد كـان مـضطلعاً بالخطب يـحمله
فـضـّيقت بـخطوب الـدهر أضـلعهُ

يـكفيه مـن لـوعة الـتشتيت أن لـه
مـن الـنوى كـل يـوم مـا يـروّعهُ

مــا آب مــن سـفر إلا وأزعـجه
رأي إلى سـفـر بـالعـزم يـزمعـهُ

كـأنـما هــو فـي حـل ومـرتحل
مــوكّـل بـفـضـاء الله يـذرعـهُ

إن الـزمـان أراه فـي الـرحيل غـنى
ولـو إلى الـسد أضـحى وهـو يزمعهُ

ومــا مـجـاهدة الإنـسان تـوصلـه
رزقـاً ولا دعـة الإنـسـان تـقـطعهُ

قـد وزّع الله بـين الـخلـق رزقـهـمُ
لـم يـخلق الله مـن خـلق يـضيعـهُ

لـكنهم كـلفوا حـرصاً فـلست تـرى
مـسـترزقاً وسـوى الـغايات تـقنعهُ

أستودع الله فـي بـغداد لـي قـمراً
بـالـكرخ من فـلـك الأزرار مطلعهُ

ودّعـتـه وبــودّي لــو يـودّعنـي
صــفـو الـحـيـاة وأني لا أودّعـهُ

وكـم تـشبّث بـي يوم الرحيل ضحى
وأدمــعـي مـسـتهلات وأدمـعـهُ

لا أكـذب الله ثـوب الـصبر مـنخرق
عـنـّي بـفـرقته لـكـن أرقـّعـهُ

إنــي أوسّـع عـذري فـي جـنايته
بـالـبين عـنـه وجـرمي لا يـوسعهُ

رُزقـت مـلكاً فـلم أحـسن سـياسته
وكـل مـن لا يـسوس الـملك يـخلعهُ

ومـن غـدا لابـساً ثـوب الـنعيم بلا
شـكـر عـلـيه فــإن الله يـنـزعهُ

عسى الليالي التي أضنت بفرقـتـنا
جسمي ستجمعنـي يومـا وتجمعـهُ

وإن تـغُـل أحـداً منـا منـيـّتـه
فمـا الـذي بـقضـاء الله يصنعـهُ

الثلاثاء، يوليو 26، 2005

العربية السعيدة

مع أن برترام توماس لم يكن يهتمّ كثيرا بالدعاية لنفسه وبالترويج لكتاباته، إلا انه يعتبر بحقّ من بين أهمّ الرحالة الأجانب الذين طافوا في أرجاء الجزيرة العربية. فلم يكن قد كتب شيئا عن حياته قبل أن تطأ قدماه ارض جزيرة العرب لأوّل مرّة في أواخر عشرينات القرن الماضي.
في كتابه جزيرة العرب السعيدة يروي توماس كيف أن سلطان مسقط وعمان عرض عليه أن يعمل مستشارا ماليا لديه. ثم يسهب في شرح الصعوبات التي لاقاها أثناء أدائه تلك المهمّة. وبعد ذلك ينتقل للحديث عن حرارة الطقس البالغة الشدّة في مسقط والتي نادرا ما تنخفض في الليل عن مستواها أثناء ساعات النهار. أما معدّلات الرطوبة فترتفع إلى أن تصل إلى أقصاها، سيّان إن كان الوقت نهارا أو ليلا.
وفي بداية ساعات الليل اعتاد توماس على التجوال في شوارع المدينة النائمة. وفي إحدى الليالي قام بتسلّق أسوار المدينة المبنية من اللبن والتي يعود تاريخها إلى القرون الوسطى. ومن هناك، من فوق الأسوار، أخذ يرنو بناظريه نحو الأفق البعيد باتجاه الشمال حيث الجبال الممتدّة خلف الساحل. وكان يعرف أن القمر الذي ينير ليل مسقط هو نفس القمر الذي يرسل حزمة من ضوئه الحالم على ذلك البحر الخضمّ من الرمال الهائلة المتوارية وراء الأفق. وكان هذا هو السبب الخفيّ الذي دفعه للمجيء إلى هنا.
كانت تراود توماس رغبة عارمة في أن يكون أوّل مواطن غربي يعبر تلك الصحراء الشاسعة. هذا مع انه يتذكّر قول فيلبي من قبل أن لا أحد قادر على إنجاز مهمّة كتلك إلا على متن طائرة. وفي إحدى ليالي أكتوبر من عام 1930 م ودون علم صديقه السلطان، انسلّ توماس في قلب الظلام إلى خارج مسقط. وحرص على أن يختفي عن الأنظار بسرعة وقبل بزوغ الشمس، متوقّعا أن تنتشر أخبار اختفائه في الصباح وتروج الشائعات والقصص التي يغذّيها خيال شرقيّ خصب.
واستقلّ ناقلة نفط عابرة باتجاه مدينة صلالة الجنوبية. وهناك وجد دليلا، وأعدّ العدة لبدء رحلته الاستكشافية.
يذكر توماس في كتابه أن رجال القبائل الذين يقطنون الجبال يتحدّثون لغة غريبة غير العربية، ويعتبرون أنفسهم منحدرين من سلالة قوم عاد الأسطورية. ويسرد في الكتاب مشاهد تقديم الضحايا والنذور وطقوس طرد الأرواح التي تمارسها تلك القبائل وتقام وسط سحب البخور المحترق والنيران المتأجّجة.
وخلف الجبال، يقع سهل قاحل ومهجور إلا من بعض أسراب الظباء العربية التي يمكن مشاهدتها على البعد وهي تعدو مسرعة من حين لآخر. ومشى توماس ودليله على مدى بضعة أيّام إلى أن بلغوا بئر شيزر وهو اسم لحصن تاريخي بدا مهجورا ومهملا.
يتحدّث توماس في الكتاب أيضا عن "ظاهرة الرمال التي تغنّي" والتي شُغل العلماء بدراستها وكشف غموضها منذ وقت طويل. ويصف كيف انه ورفاقه كانوا يمشون في عمق الصحراء الشاسعة وبين تلال الكثبان الرملية العملاقة عندما كسر الصمت فجأة أزيز نغمات موسيقية صاخبة. ويشير أحد رفاقه، واسمه المرّي، إلى إحدى التلال العالية مؤكّدا أنها مصدر تلك الأصوات الغريبة. لكن العرب، يقول توماس، يعزون تلك الأصوات إلى الأرواح المدفونة تحت كثبان الرمال. ويضيف: كانت الأحوال مواتية لدراسة ظاهرة موسيقى الرمال، وكانت الحركة الأولى من ذلك الكونشيرتو الغريب طويلة بما فيه الكفاية. لقد كان الأمر أشبه ما يكون بقرع الطبول وأحيانا يُخيّل إليك انك تصغي إلى هدير محرّك طائرة. أما مرافقيّ فقد كانوا منشغلين بتأدية بعض الحركات الطقوسية التي كانت فيما يبدو موجّهة نحو الجنّ الذين ُيفترض انهم مسئولون عما يحدث".
ويضيف توماس: "بدأ الصباح بداية بطيئة وكنا نشعر بالإنهاك والضعف بسبب الجوع والبرد القارس عندما لمحنا فجأة جماعة من العرب الذين اخذوا يلوّحون لنا بأيديهم. وعندما اقتربنا منهم بدءوا يشيرون إلى الناحية الأخرى من الطريق صائحين: انظر يا صاحب! تلك هي الطريق إلى عَبَر. عَبَر؟! تساءلتُ مندهشا. إذن فهذه هي المدينة العظيمة التي كان آباؤنا يحدّثوننا عنها دائما. إنها اتلانتيس الرمال! مدينة موغلة في القدم وغنية بالكنوز وبحدائق النخيل وبحصنها الأسطوري ذي اللون الفضّي المائل للحمرة. وهي الآن مدفونة تحت الرمال. وكان الكثير من العرب قد حدّثوني عن عَبَر، ولكن لا أحد منهم كان يعرف موقعها على وجه اليقين.
يتحدّث القرآن الكريم وليالي ألف ليلة وليلة والكثير من القصص الشعبية عن مدينة تشبه الأسطورة. وكثيرا ما يشار إليها باعتبارها أهمّ الكنوز المفقودة في الجزيرة العربية. وتروي كتب التاريخ والأساطير حكايات كثيرة عن تلك المدينة الرائعة الجمال والتي كانت مليئة بالكنوز والخيرات العظيمة إلى أن دُمّرت فجأة، كما حدث لسدوم وعمّورية، بعد أن حلّ عليها غضب الربّ وُدفنت تحت الرمال.
يقول المستعرب الشهير فيلبي: كان ملك هذه المدينة قد تمادى في فسقه وفجوره وكان يعيش في ما يشبه الفردوس الأرضي مع خيوله وعبيده المخصيين وخليلاته الكثيرات إلى أن انتقم الله منه وأرسل عليه الريح الغربية العاصفة التي أحالت مدينته إلى يباب واستحال كل شيء في لمح البصر إلى كومة من رماد.
كان بيرترام توماس قد عقد العزم على مواصلة رحلته وبلوغ عَبَر. لكن نفاد الماء جعله يغيّر رأيه في المضيّ قدما باتجاه المدينة الغامضة واُجهِض حلمه في الوصول إلى ابعد نقطة في الصحراء، فانحرفوا عن الطريق المفترض أن يأخذهم إلى عَبَر وواصلوا سيرهم في الاتجاه الآخر. وبعد مرور خمسة وتسعين يوما على مغادرته صلالة والبحر العربي، لمح توماس على البعد مدينة الدوحة ومياه الخليج العربي.
فيما بعد كتب لورنس العرب يقول: لقد تمكّن بيرترام توماس أخيرا من عبور الربع الخالي الذي يعتبر الصحراء الوحيدة المجهولة في العالم. وما فعله يمثل نهاية لتاريخ الرحلات الاستكشافية. لكنّ بعض المؤرّخين يؤكّدون بأن توماس، وإن كان قد تمكّن من عبور الربع الخالي، إلا انه في حقيقة الأمر لم يستكشفه، إذ انتهى به المطاف على عتبات مدينة مفقودة ولم يتمكّن من إنجاز ذلك التحدّي على الوجه المطلوب.