:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 10، 2015

أماكن شفّافة


هل سبق لك يوما أن ذهبت إلى مكان ما وشعرت بأنه يدعوك، يجذبك إليه, وينقلك إلى عالم آخر؟ مثل هذه الأماكن الغريبة نرتادها من وقت لآخر في حياتنا، أحيانا دون أن ندري أو نشعر، وبعضنا يدركون طبيعتها الخاصّة والبعض الآخر لا يفعلون.
ذات مرّة، كنّا ثلاثة أشخاص نتسامر ونتبادل الأحاديث والقصص في ليلة هادئة من ليالي الصيف. وقصّ علينا أحدنا كيف انه ذهب في احد الأيّام إلى أعماق الصحراء للنزهة والاستكشاف. وأثناء رحلته حدث أن تاه في بعض تلك النواحي وأضاع طريقه.
وبينما هو يجهد للبحث عن درب آمن يخرجه من التيه ويعيده من حيث أتى، إذا به يتعثّر فجأة بمشهد خُيّل إليه انه ينتمي إلى عالم آخر. وقال انه رأى صروحا فخمة تبرز من وسط الرمال وتعود إلى عصور قديمة، وصخورا منقوشا عليها صور لطيور وحيوانات وبشر.
كان هناك أيضا في وسط ذلك المكان جدول ماء جارٍ تحفّه أشجار وحجارة غريبة الأشكال. كان الصمت المطبق يلفّ المكان مع إحساس بالرهبة والتوجّس. وقال وهو يصف شعوره في تلك اللحظات: داهمني إحساس بالانفصال عن كلّ شيء، ثم شعرت كما لو أن جزءا منّي ثابت على الأرض والجزء الآخر يرقى مرتفعا في الهواء".
وأضاف: للحظات أحسست كما لو أن حجابا انزاح من أمامي وأنني، من مكاني في العالم المنظور الذي أراه وأشعر به، أقف على عتبات عالم آخر خفيّ لا أراه رأي العين لكنّي أتخيّله بعين الإدراك والبصيرة".
كنّا نستمع بفضول إلى حديث صاحبنا وهو يصف المزيد مما رآه في تلك البقعة. ولولا أننا نعرف الرجل جيّدا ونعرف عنه صدقه وركادته لشككنا في حديثه. وبعد أن انتهى من كلامه قلت معلّقا: هذه القصّة وإن بدت غريبة بعض الشيء، إلا أنني لا استغرب حدوثها فعلا. فهناك شيء يُسمّى الأماكن الشفّافة، وهو مصطلح معروف ومتداول منذ القدم. واعتمادا على وصف ذلك الصديق، قد يكون ما رآه احد هذه الأماكن.
الكلت مثلا، وهم قبائل وثنية كانت تسكن غرب أوربّا قبل ظهور المسيحية بزمن طويل، يصفون المكان الشفّاف بأنه مكان يمتزج فيه العالمان الطبيعيّ والمقدّس ويتشارك فيه المرئيّ والمخفيّ على صعيد واحد.
وأنت تدخل أحد هذه الأمكنة، تحسّ وكأنك تمشي بين عالمين، والمكانان ممتزجان معا ومترابطان بحيث تتلاشى الفوارق بينهما ويصبحان بطريقة ما عالما واحدا. ومثل هذه الأماكن لا تُدرك عادة بالحواسّ الخمس، بل إن إدراكها يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك بكثير.
أتذكّر، وكنت ما أزال صبيّا، بعض بيوت الحجر التي كنت أراها في الجبال القريبة من بيتنا. تلك البيوت بُنيت بالكامل من قطع الحجارة قبل مئات، وربّما آلاف السنين ولم يتبقّ منها من الناحية الفيزيائية سوى جدران مهدّمة إنمحت معالمها وحجارة مصفوفة على هيئة دوائر أو مبعثرة هنا وهناك.
كنت أتأمّل تلك البيوت البدائية أو ما تبقّى منها، وأشعر بأرواح من سكنوها وهي تخيّم فوق المكان. ولطالما أحسست بأن هناك قوّة غامضة وقويّة تتخلّل كلّ تفاصيل المكان. إنها القوّة الخفيّة التي تحاول أن تُشعرنا بوجودها، لكنّها عصيّة على كل إثبات، بسبب أنها تختلف عن كلّ ما ندركه بالحواسّ العاديّة ولأنها تتجاوزها وتسمو عليها.
وكنت أتساءل كلّما ذهبت إلى ذلك المكان: ترى من كان يعيش هنا، من مشى بقدميه وسط هذا المكان، ومن لمس بيديه هذه الحجارة، ومن تسلّق تلك الشجرة الضخمة في حضن الجبل والتي عمّرت لمئات السنين، ومن صلّى هنا، وكيف كانت ملامح النساء اللاتي طالما مشين هنا مع أطفالهنّ وأغنامهنّ أو جلسن عند حافّة الغدير الذي غيض ماؤه وتغيّرت تضاريسه كثيرا بعد مرور كلّ هذه القرون.
والناس الذين كانوا يسكنون هذا المكان، ترى كيف كانت حياتهم وكيف كانوا يقضون لياليهم وأيّامهم، وماذا كانت تراودهم من أمانٍ وأحلام؟ الأرجح أن حياتهم كانت بسيطة، وبالتالي كانت طموحاتهم سهلة ومتواضعة.
وبينما أنت تفكّر في هذه الأسئلة، تشعر بأن الوقت قد توقّف، وأنك في حالة توحّد مع روح الإنسان الذي عاش هنا في العصور الخوالي ومع أرواح آلاف البشر الآخرين الذين سيأتون ويعيشون في نفس هذا المكان من بعدنا.
عندما تقف عند أطلال قديمة وتتساءل عن القصص التي حدثت في الماضي هناك ولم تُقل بعد، أو عندما تقف على قمّة جبل وتتأمّل الطبيعة من حولك والتي لا يحدّها حدود، فتلك بلا شكّ تجربة فريدة من نوعها وتتجاوز الحواسّ.
وهذه الأماكن تؤدّي بمعنى ما وظيفة آلات الزمن. فأنت تقف في المكان ثم تطلق العنان لعقلك كي يعود إلى الوراء مئات وآلاف السنين ويتخيّل طبيعة حياة الأقدمين الذين تعاقبوا على سكنى المكان.
ولأن طبيعة الأماكن الشفافّة تتجاوز حدود الزمان والمكان، فإنها تأسر الخيال ويشعر الإنسان إزاءها بالضآلة إذ يصبح هو جزءا من شيء اكبر من أن يدركه أو يفهمه.
والمكان الشفّاف يمكن أيضا أن يكون بحيرة هادئة وسط جبال أو تلال. ويمكنك أن تحسّ بالمكان لأنه يجلب لك وعيا ما، كأن يذكّرك بطفولتك أو بفترة من فترات حياتك مثلا. والجبال والأنهار مفضّلة عادةً كأماكن شفّافة، لكونها علامات على الحدود الأفقية والعمودية التي تفصل بين الأشياء، ومن ثمّ لقدرتها على أن تخلق وعيا بلحظة ما أو حالة أو تجربة معيّنة.
للحديث بقيّة ..