:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 23، 2014

عشاء مع أوفيد

أحد أصدقاء هذه المدوّنة سألني مؤخّرا: لو أتيحت لك فرصة السفر إلى الماضي واختيار عشر شخصيّات من التاريخ كي تراها وتتحادث معها على العشاء وتطرح عليها بعض الأسئلة، فعلى من سيقع اختيارك؟
قلّبت هذا السؤال في ذهني لبعض الوقت. وأثناء ذلك عبَرَت رأسي أسماء مثل لا وتسو وباخ وفولتير وهيباتيا وسقراط وكليوباترا ونيتشه وإيسوب وغويا وكاثرين العظيمة وآينشتاين وكونفوشيوس وآخرين.
لكني فضّلت أن استهلّ هذه السلسلة بحديث من جزأين مع وعن أوفيد.
أما لماذا أوفيد، فلأنه أوّل من أنزل الآلهة من برجها العاجيّ في أعالي جبل الأوليمب ووضعها في محترفات الرسم وصالونات الأدب والفلسفة. كما انه أوّل من حوّل الميثولوجيا إلى عالم من لحم ودم مع الكثير من روح المرح والدعابة. وأوفيد هو أيضا أوّل من أنتج أدبا خالصا لوجه الأدب، أي بلا دروس ولا مواعظ أخلاقية.
وكلّ شخص يريد أن يعرف شيئا عن الأساطير الرومانية - الإغريقية، يجب أن يكون قد قرأ كتابه "التحوّلات". وهو عبارة عن ديوان شعر، أو بالأحرى قصيدة طويلة من اثني عشر ألف بيت. وأوفيد يسرد في ثنايا القصيدة قصصا استلهمها من الميثولوجيا الكلاسيكية عن "حالات تَحوُّل" معظمها لبشر وحوريّات يتحوّلون إلى حيوانات ونباتات.
القصص تسجّل الأحداث منذ بداية خلق الكون وحتى موت يوليوس قيصر اغتيالا. وكلّ قصّة من قصص الكتاب تتضمّن تحوّلا جسديّا. والشخصيّات التاريخية فيه تقتصر على الإمبراطورين يوليوس قيصر واوغستوس اللذين يتحوّلان من إنسانين قابلين للفناء إلى إلهين خالدين.
كتاب "التحوّلات" لا يعلّمك شيئا عن فهم الحياة والعالم. لكنه يقول لك كيف تستخدم اللغة وموارد الرواية الخيالية بطريقة ممتعة. وفي الكتاب، ينتصر الأسلوب على الجوهر وننتقل إلى شكل جديد من أشكال التعبير الأدبي، شكل يُحتفى فيه بالفنّ من اجل الفنّ فحسب.
لذا ليس من الصعب أن نفهم سرّ شعبية أوفيد بين الشعراء والفنّانين عبر العصور، بل وحتى بين أولئك الذين يضيفون إلى القصيدة رؤية للعالم أكثر تماسكا واكتمالا.
نسخة أوفيد من الميثولوجيا تقول إن الماضي لم يكن اكبر من الحياة نفسها، كما لم يكن هناك أبطال. والجنس البشريّ يتألّف من بشر مثلنا، وليست هناك آلهة تشرف على مسار الأحداث أو تمثّل مبادئ كالحقّ أو العدالة.
أوفيد يرى أيضا أن ليس هناك كون غامض كي نحتفي به أو نقدّسه أو نخاف منه. هناك فقط المتعة التي يمكن أن نشعر بها عند قراءة القصيدة بمعزل عن أيّة معان أو مرجعيات أخلاقية.

❉ ❉ ❉

من اجل الالتقاء بأوفيد، سأفترض أن عليّ أوّلا أن اذهب إلى توميس، أو كونستانزا كما تُسمّى اليوم. وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأسود في ما يُعرف اليوم بـ رومانيا. وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ تأسّست حوالي عام 600 قبل الميلاد.
أوفيد نفسه يصفها بأنها "ارض شبه مهجورة تقع على الأطراف البعيدة للإمبراطورية الرومانية وبعيدا عن حدود العالم المتحضّر". وقد جرت على أرضها العديد من المعارك والحروب، واحتلّها الرومان عام 29 قبل الميلاد وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، ثم أسموها كونستانتينا تيمّنا باسم شقيقة الإمبراطور الروماني كونستانتين العظيم. وبحسب إحدى الأساطير، فإن جيسون نزل في هذه المدينة مع الارغونوتز بعد عثوره على الفروة الذهبية.
في توميس أو كونستانزا، سألتقي بأوفيد، وعلى الأرجح سنتناول العشاء معا في احد المطاعم القريبة من متحف المدينة الذي شُيّد أمام بوّابته تمثال للشاعر. وسأحمل معي للشاعر هديّة هي عبارة عن نسخة حديثة من كتاب "التحوّلات"، بالإضافة إلى نسخ من بعض الأعمال التشكيلية المشهورة والمستوحاة من قصص التحوّلات، وكذلك نسخة من لوحة أوجين ديلاكروا التي رسم فيها أوفيد بين السيثيين.
بداية، أظنّ أن ملامح أوفيد تشبه إلى حدّ كبير ملامحه في التمثال، فهو على درجة من الوسامة، عيناه متفحّصتان وتشعّان بالذكاء، مع طبع يميل إلى الهدوء والتأمّل. وبالتأكيد سيُسرّ الرجل لمرأى النصب الضخم الذي أقيم تكريما له في هذه البقعة البعيدة عن روما.
وسيُدهش الشاعر ولا شكّ لرؤية الاختلاف الكبير بين توميس اليوم وما كانت عليه عندما كان يعيش فيها قبل حوالي ألفي عام. فبينما كان عدد سكّانها لا يتعدّى المئات آنذاك، فإن عددهم اليوم يتجاوز الـ 400 ألف نسمة، بالإضافة إلى مئات آلاف السيّاح الذين يؤمّون المدينة سنويا للتمتّع بأجوائها المعتدلة وينابيعها المعدنية المشهورة.
هنا في توميس وبعيدا عن روما، توفّي أوفيد عام 17 ميلادية بعد أن عاش فيها منفيّا ثمان سنوات كاملة. وبطبيعة الحال سأسال الشاعر عن حادثة النفي تلك، وعن السبب الحقيقيّ الذي دعا الإمبراطور اوغستوس إلى اتخاذ قرار بنفيه بعد أن كان مقرّبا منه ومن عائلته.
الأسباب التي أوردها المؤرّخون كثيرة وأحيانا متناقضة. ومعظم ما كُتب حول قصّة النفي مجرّد تكهّنات واحتمالات. أوفيد نفسه أشار إلى الأسباب تلميحا وبطريقة غامضة غالبا. فهو، مثلا، ذكر في رسائله التي كتبها لبعض أصدقائه في روما أثناء سنوات النفي أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه هو انه "رأى شيئا ما كان ينبغي له أن يراه".
هذه العبارة دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد بأن الشاعر ربّما كان على علاقة ما بابنة اوغستوس الماجنة "جوليا"، خاصّة بعد أن أصبح احد أفراد الطبقة الضيّقة المحيطة بها.
وقرار النفي كان بناءً على أوامر شخصية من الإمبراطور ودون العودة إلى البرلمان أو القضاء. وأوغستوس نفسه مات عام 14 ميلادية، أي في الوقت الذي كان أوفيد ما يزال في منفاه. ولسوء الحظ، فإن تيبيريوس الذي خلف اوغستوس على سدّة الحكم لم يُنهِ أو يلغِ حكم النفي.

كان عمر أوفيد قد تجاوز الخمسين عندما نُفي. وكان مشهورا جدّا في روما في ذلك الوقت. بل يمكن القول انه كان آنذاك أشهر شاعر في المدينة بعد انتهاء جيل فيرجيل وهوراس.
قصائده التي كتبها في منفاه تتضمّن رسائل لأصدقائه وأعدائه في روما. ومن بين تلك القصائد واحدة يعبّر فيها عن يأسه ويدعو لإعادته إلى روما. وهناك أيضا قصائد على هيئة رسائل موجّهة لبعض الشخصيّات في روما وأخرى إلى زوجته وإلى الإمبراطور نفسه. يقول الشاعر في إحدى تلك الرسائل موجّها حديثه إلى شخص ما: أين المتعة في إغماد رمحك في لحمي الميّت؟ ليس في جسدي مكان يحتمل المزيد من الطعنات أو الجراح".
وفي بعض تلك الرسائل، يحاول أوفيد أن يقنع الإمبراطور بإنهاء نفيه، وذلك من خلال وصفه لحالة الحزن التي يعيشها بعيدا عن الوطن وقسوة الحياة والأخطار في توميس والحالة الاجتماعية والذهنية المتردّية التي يمرّ بها.
وقد صوّر نفسه في إحدى تلك الرسائل كشخص عجوز ومريض وبعيد عن عائلته ومحروم من مسرّات ومتع روما. بالنسبة لأوفيد، كانت روما هي نبض العالم المتوهّج. والنفي أدّى به إلى حالة من الإحباط واليأس. ومع ذلك، لا ينسى الشاعر أن يمدح الإمبراطور وعائلته ويثني على نجاحه في المعارك والحملات العسكرية، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ترقيق قلبه.
لقد كُتب الكثير عن واقعة النفي. أوفيد نفسه كتب مرّة يقول إن النفي دمّر عبقريته الشعرية وأن نفيه كان بسبب "قصيدة وخطأ"، وأن ما فعله لم يكن غير قانوني، ولكنه كان "أسوأ من جريمة".
أشعاره في المنفى مليئة بالإشارات إلى أن ما فعله كان "خطأ تسبّب به الغباء" وأنه فعله عن غير عمد وأن الإمبراطور يدرك ذلك بدليل انه لم يحكم عليه بالقتل ولم يجرّده من الجنسية.
أوفيد قد لا يجد غضاضة، خاصّة بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال، في أن يبوح بالسبب الحقيقيّ لنفيه. هو لم يتحدّث عن هذا الأمر صراحة أثناء حياته، لأنه كان يؤمّل في أن يُصدر الامبراطور عفوا عنه، وهذا ما لم يحدث.
وهناك نقّاد كثر يعتقدون أن اوغستوس الذي كان يُقدّم نفسه كحارس للأخلاق الرومانية ربّما كان قد ارتكب زنا المحارم أو جناية أخلاقية ما. وقد يكون أوفيد نفسه قد تورّط بعلاقة مع جوليا ابنة الإمبراطور أو أنه رأى المرأة، أو والدها، في حالة مريبة مع شخص ما. بل إن هناك من يقول إن ثمّة احتمالا في أن أوفيد كان ضالعا في مؤامرة ضدّ الإمبراطور، ولهذا نُفي.
سأسأل أوفيد أيضا عن ما اعتبره بعض النقّاد محاولة منه لـ "أسطرة" حالة النفي تلك، أي تحويلها إلى أسطورة. وسأسأله كذلك عن رأيه في زعم بعض المؤرّخين بأن نفيه لم يكن حقيقيّا وأنه لم يغادر روما أبدا إلى المنفى وأن أعماله في المنفى لم تكن سوى ثمرة خيال خصب.
وبالتأكيد أنا لست مع هذا الرأي. فقصّة النفي حقيقية وهناك شواهد كثيرة تدعمها وتؤكّدها. وعلى كلّ حال، لا بدّ من سماع رأي الرجل في بعض ما قيل عنه.

❉ ❉ ❉

ما من شكّ في أن أوفيد سيشعر بقدر كبير من السعادة عندما يرى كيف أن كتاب التحوّلات أثّر في كثير من مشاهير الكتّاب مثل شكسبير ودانتي وميلتون ودي ثيرفانتيس وغيرهم، واستلهمه عدد كبير من الفنّانين الذين رسموا مئات اللوحات التي تصوّر قصصا وردت في الكتاب. وقد أسأله بشكل خاصّ عن رأيه في لوحة الفنّان اوجين ديلاكروا التي صوّر فيها الشاعر وهو في ضيافة السيثيين.
والسيثيون هم جماعة من الفرس القدماء كانوا يسكنون توميس عندما قدم إليها أوفيد. وقد تناول هيرودوت أسلوب حياتهم في كتابه "التواريخ" ووصفهم بالبدو المترحّلين. وأوفيد نفسه وصفهم بالقبيلة البرّية.
وأغلب الظنّ أن هذه اللوحة ستثير اهتمام الشاعر على الرغم من انه يظهر فيها واجما وحزينا. وسبب حزنه على الأرجح هو إحساسه بالغربة في هذه الأرض النائية وبعده عن الأهل والوطن. بالإضافة إلى انه عندما حلّ في ضيافتهم لم يكن احد منهم يتكلّم اللاتينية برغم أنهم كانوا تابعين لروما. وهذا أمر فاجأه وأحبطه كثيرا.
لوحة ديلاكروا هي عبارة عن تناول جميل لفكرة الحضارة مقابل البدائية. وقد رسم السيثيين وهم يعاملون الشاعر بتعاطف وفضول في طبيعة تتضمّن بحيرة وجبالا مغطّاة بالخضرة، مع أكواخ من الخشب توحي بثقافة رعوية بدائية. وقد تفحّص هؤلاء أوفيد باهتمام عندما وصل إلى أرضهم. والبعض الآخر ذهبوا إلى بيوتهم ليحضروا له فاكهة وحليبا.
فكرة البرّية والإنسان العبقريّ الذي يُساء فهمه كانت احد المفاهيم الأساسية في الحركة الرومانسية التي كان ديلاكروا احد أقطابها. وقد رسم من هذه اللوحة طبعتين وذلك قبل وفاته بعام على الأرجح لحساب صاحب إحدى المجموعات الخاصّة.

في الجزء الثاني: حديث عن التحوّلات