:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يناير 12، 2012

رحلة إلى شُطآن الليل

في العالم القديم، كان الليل يمثّل عنصرا مخيفاً. أحيانا كان يرمز للخوف، وأحيانا أخرى للغموض. وقد استمرّت هذه الفكرة طوال قرون. لكن أصبح للّيل أهمية خاصّة عند الرومانسيين. كانوا يربطونه بالأفكار المتسامية والنبيلة بما يتضمّنه من ذلك المزيج الفاتن من عناصر الجمال والغموض وقوى ما فوق الطبيعة.
الرؤى المرتبطة بالليل تغيّرت على مرّ العصور. الرسّامون الواقعيون كانوا يرسمونه في طبيعة نقيّة. وكانت رسوماتهم تثير أجواءً من التأمّل والاستبطان الحزين. الفنّانون الحداثيون رسموا الليل انطلاقا من الطبيعة الحضرية وحياة المدن وما تضجّ به من ضروب المتعة والتسلية.


الفنّان الروسي من أصل يوناني ارشيب كوينجي رسم الليل في واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الرسم والتي اكتسب الرسّام بفضلها شهرة أسطورية. اسم اللوحة ليلة مقمرة على ضفاف نهر الدنيبر. وقد رسمها في العام 1882م.
عندما عرض الرسّام هذه اللوحة لأوّل مرّة في سانت بطرسبيرغ اصطفّ الناس في طوابير طويلة لرؤيتها. وقد وُضعت داخل غرفة مظلمة، بينما صُفّت حول إطاراتها المذهّبة والفخمة شموع محترقة.
في اللوحة، يصوّر كوينجي إحدى ليالي اوكرانيا الشاعرية والدافئة. القمر الفضّي يطلّ من أعلى المشهد محاطا بهالة خضراء من الغيوم. وفي أسفل المنظر يظهر شريط متوهّج من نهر الدنيبر الذي يفيض فوق مساحات واسعة من السهوب.
ربّما لم يعبّر رسّام من قبل عن سحر وجمال القمر بهذا الشكل المدهش. الصورة تثير إحساسا بالحرّية واللانهائية. فأمامنا عالم واسع مليء بالضوء. وكلّ ما في هذه الطبيعة مشرق وبهيّ. الضوء الفوسفوري الغامض يغمر كلّ شيء على الأرض.
كان على الجمهور أن يدخلوا إلى القاعة ذات الأنوار الخافتة قبل أن يتوقّفوا أمام وهج الضوء البارد المنبعث من اللوحة. بعضهم كان يظنّ أن مصدر الضوء ربّما يكون فانوسا أو مصباحا موضوعا بالجوار. المجال السماويّ الذي رسمه الفنّان فيه فخامة وجلال. قوّة الكون وضخامته تتجلّيان بأوضح صورة في هذا المشهد. التفاصيل على الأرض تتضمّن بيوتا وأشجارا كثيفة ونباتات شوكية ابتلعتها الظلمة.
هذه اللوحة استنسخت مرّات كثيرة في جميع أنحاء روسيا وتحدّثت عنها الكثير من الصحف آنذاك. وقد ابتاعها الأمير الروسي كونستانتينوفيتش الذي شُغف بها منذ رآها لأوّل مرّة. وبلغ من حبّه للوحة انه كان يأخذها معه في تطوافه عبر العالم. وقد حاول الروائي ايفان تورغينيف، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الوقت، إقناع الأمير بعرض اللوحة في احد الغاليريهات الفرنسية، لكنه رفض.
لوحات ارشيب كوينجي تتّسم بالتصوّرات التأمّلية والفلسفية عن العالم. كما أن فيها إحساسا بعظمة الحياة. ولم يكن يهتمّ بتصوير الحالات الدراماتيكية للطبيعة، ولا حتى مظاهر الجمال فيها. كان معنيّاً أكثر بتصوير الإحساس بالكون ووحدة الوجود والتناغم ما بين الطبيعة والإنسان.
الألوان الفوسفورية في اللوحة تستحضر مشاعر متسامية وتثير التأمّل عن طبيعة الحياة على الأرض وعن عالم السماء التي تبدو وهي تتحرّك في إيقاع بطيء. وبعض لوحات الرسّام الأخرى تصوّر عوالم تبدو أشبه ما تكون بالكواكب البعيدة التي لم تُكتشف بعد.

الفنّان الاسباني اليسيو ميفرين روج رسم في واحدة من أشهر لوحاته بعنوان طبيعة ليلية منظرا للقمر وقد غطّته هالة من الغيوم. المنظر الطبيعي كلّه غارق في الليل. والمشهد يشعّ جوّا من السلام والسكون العميق. روج رسم أكثر من لوحة حاول من خلالها التقاط جوهر الليل والمعاني والمشاعر المرتبطة به، بالإضافة إلى السمات الخالدة للطبيعة.
كان ميفرين روج إنسانا ذا طبيعة هادئة ومتأمّلة، كما تشي بذلك لوحاته الجميلة عن الليل والطبيعة البحرية ومناظر الغروب. كما كان أيضا مفتونا برسم الحدائق، ومنها حدائق ارانهويز المشهورة في مدريد. غير انه سجّل في بعض لوحاته الأخرى مقدّمات سقوط وانهيار اسبانيا كقوّة استعمارية أمام القوّة الصاعدة للولايات المتحدة.
وقد كرّس الفنّان كلّ حياته تقريبا للرسم. ولوحاته تُظهر مهارته العالية في استخدام الفرشاة الفضفاضة والألوان الناعمة وفي مزجه بين الأسلوبين الانطباعي والرمزي.


السفن الغارقة والعواصف البحرية والليالي المقمرة والحالمة، تلك هي بعض سمات لوحات الفنّان الروسي من أصل ارمني ايفان ايفازوفسكي.
السنوات التي قضاها ايفازوفسكي خارج روسيا أسهمت إلى حدّ كبير في تشكيل موهبته الفنّية. فقد تعرّف في المتاحف الأوروبية على روائع الرسم العالمي، ما أدّى إلى إثراء مخيّلته الفنّية. كما ألهمته الطبيعة الايطالية السخيّة رسم صور عظيمة مثل سلسلة لوحات خليج نابولي.
في سنواته الأولى كرسّام، اظهر ايفازوفسكي قدرة كبيرة في ملء أعماله بالضوء وفي تجسيد إحساسه العميق بالخطّ واللون والتوليف. ويُعتقد أن مناظره البحرية المضاءة بنور القمر هي أكثر الأعمال غنائية في فنّ هذا الرسّام الكبير.
ايفازوفسكي بدأ رحلته مع الرسم في سبعينات القرن قبل الماضي. وأسلوبه الرومانسي المبكّر في تمثيل العواصف القويّة والصباحات الجميلة وتأثيرات البرق والغيم تحوّلت في ما بعد إلى دراسات أكثر عمقا للطبيعة.
في روما، درس الفنّان أعمال كبار الرسّامين. كما رسم لوحات من الطبيعة، وأخرى من الذاكرة. وكان النجاح حليفه دائما. كما كان له معجبون كثر، بينما بدأ الفنّانون الشباب يقلّدون أسلوبه في رسم الطبيعة الليلية والبحرية.
كان ايفازوفسكي مراقبا دقيقا للطبيعة. كما كان يتمتّع بذاكرة رائعة وموهبة استثنائية في الارتجال، لدرجة انه كان يستطيع رسم لوحة بأكملها في يوم واحد.
وقد قال ذات مرّة ملخّصا فهمه للإبداع: إن الشخص الذي لا يتمتّع بالذاكرة التي تحفظ حالات الطبيعة ربّما يصلح لأن يكون ناسخا ممتازا. لكنه لن يصبح فنّانا حقيقيا. الفرشاة لا تستطيع الإمساك بالعناصر الحيّة. ومن غير المتصوّر أن ترسم البرق أو هبوب الرياح أو رذاذ الأمواج والمطر من الطبيعة مباشرة. إن موضوع اللوحة يتشكّل في ذاكرتي كما يتشكّل موضوع القصيدة في ذهن الشاعر".
في إحدى لوحات سلسلة خليج نابولي، يرسم ايفازوفسكي منظرا ليليا مليئا بالتفاصيل. على سطح الماء تظهر مجموعة من القوارب والسفن الشراعية الراسية في الميناء. ومن بين غلالات الغيوم يلوح من بعيد ضوء القمر المنعكس على الأمواج الهادئة، وأعمدة من الدخان المنبعث من بركان فيزوف. الرسّام استخدم في اللوحة طبقات من الألوان الزرقاء والخضراء والداكنة.
لوحات ايفازوفسكي التي رسمها في ايطاليا كانت من أفضل أعماله. وقد أثار بعضها ردود فعل قويّة في عاصمة الفنون الجميلة آنذاك. لوحة الفوضى، أو خلق العالم "كما تُسمّى أحيانا"، قيل عنها إنها عمل إعجازي ولا يشبه أيّ عمل فنّي آخر. وقد اشتراها البابا غريغوري السادس عشر وأمر بتعليقها في متحف الفاتيكان الذي يضمّ مجموعة من أروع وأشهر اللوحات العالمية.
خلال إقامته في ايطاليا، قابل ايفازوفسكي الرسّام الانجليزي وليام تيرنر الذي أعجب كثيرا بلوحة خليج نابولي في ليلة مقمرة لدرجة انه ألّف عنها قصيدة ذات جرس حزين وأهداها إلى ايفازوفسكي.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت فكرة الليل رائجة على نطاق واسع في الرسم الأوربّي بشكل عام. ومن أشهر الفنّانين الآخرين الذين رسموا الطبيعة الليلية كلّ من فان غوخ وايرت فاندر نير وكاسبار ديفيد فريدريش وايفغيني شيبانوف وجون غريمشو وإدوارد هوبر ورمبراندت وإيساك ليفيتان وغيرهم.

الاثنين، يناير 09، 2012

تشارلي شابلن الهندي


أحد أشهر أفلام السينما الهندية يحكي عن رجل متشرّد من طراز تشارلي شابلن يرتدي حذاءين رثّين وبنطالا قصيرا ويعتمر قبّعة غريبة الشكل. ويظهر الرجل في الفيلم وهو يمشي على طريق ريفي ويتغنّى بهذه الكلمات باللغة الهندية: حذائي ياباني، وبنطالي انجليزي، وعلى رأسي قبّعة حمراء روسية. ثم يقول مشيرا إلى صدره: لكنّ قلبي ما يزال هنديّا".
هذا القلب هو قلب راج كابور، أشهر ممثّلي السينما الهندية في عصرها الذهبي. وأغنيته هذه، التي هي عبارة عن بيان بسيط عن الوطنية الهندية، داعبت وترا حسّاسا في نفوس الناس في الجمهورية الهندية الشابّة عندما ظهرت في فيلم "السيّد 420" الذي أنتج في العام 1955م. ولم يكن نجاح هذه الأغنية كبيرا في الهند فحسب، بل تعدّاها إلى الشرق الأوسط والاتحاد السوفيّتي أيضا.
راج كابور "1924- 1988" كان يُلقّب في زمانه بالاستعراضيّ الكبير. وكان تأثيره واسعا على المشهد السينمائي الهندي كلّه. لكن كيف يمكن تقديم كابور وأعماله لأولئك الذين لا يعرفون سوى القليل عن السينما الهندية؟
كان كابور ممثّلا رائدا. ولطالما لعب ادوار الشعراء والعشّاق. وقد شكّل، مع الممثّلة نرجس، احد أعظم الثنائيات الرومانسية في تاريخ السينما الهندية. لكنّه كان أيضا مخرجا ومنتجا. وفي صناعة رسمية ومحافظة غالبا، قدّم أفلاما مبتكرة وممتعة وسهلة المنال. لكنها كانت بنفس الوقت شيئا أكثر من ذلك. كانت أفلامه ذات النبرة الاشتراكية تخاطب وعي الناس وتتحدّث عن بناء الأمّة. وقد ساعدت تلك الأفلام، إلى حدّ كبير، في التعريف بالهند المستقلّة حديثا والمنشغلة بإعادة اكتشاف نفسها.
ظهور كابور في فيلمه النار، بحركاته التي لا تهدأ وبتأثيراته البصرية المبتكرة، كان إعلانا عن مقدم ممثّل متميّز ومختلف. وقد صنع ذلك الفيلم وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين. وتم تصوير "النار" بأسلوب الأسود والأبيض الرائع. وفيه تظهر بِرَك من الظلمة تتخلّلها أعمدة من الضوء، بينما تتوهّج عيون لأشخاص تختفي وجوههم في الظلّ. الفيلم يجمع بين التعبيرية والميلودراما المحليّة. وهو يحكي قصّة شابّ من الطبقة الرفيعة يقرّر الانفصال عن عائلته التقليدية كي يمارس مهنة في المسرح.
البطل الذي يعيش بشروطه الخاصّة يبحث عن الحقيقة والجمال وعن الحبّ المفقود منذ زمن طويل. لكن هذه ليست قصّة الشاب وحده، بل قصّة الكثير من الشباب غيره. وهو يعلم أن خلق هويّة خاصّة به ليست بالمهمّة السهلة أو البسيطة. لكنه يفضّل هذا الطريق المليء بالعقبات على الحياة المريحة التي كان يعيشها في منزل والديه.
فيلم بارسات أو المطر، الذي صوّره كابور في كشمير عام 1949، يحكي قصّة حبّ تجري أحداثها في عالم من الأسود والأبيض، تتخلّله الظلال والأضواء والهالات التي تنيرها إضاءة خلفية. ومع أغنيات فريق شانكار جيكيشن، الذي ستصبح موسيقاه علامة فارقة على أفلام كابور، يسرد الفيلم قصصا موازية عن اثنين من فتيان المدينة، احدهما شاعر "كابور" والثاني صديقه العاطفي الساخر "بريم ناث" الذي يقع في حبّ فتاة ريفية.

اقترن راج كابور مع الممثّلة نرجس. وأفلامهما تخلو من القُبلات. وهذه هي إحدى سمات السينما الهندية التي تحظر القُبلات على الشاشة منذ زمن طويل. ومع ذلك فإن كابور، المخرج، لم يكن يعدم الوسائل لإضفاء شحنة ايروتيكية على مشاهد أفلامه. شاهده مثلا وهو يمسح على رأس نرجس أو يداعب شعرها أو يناديها من خلال نغمات كمانه. وهي أيضا لا تتردّد في لعق أصابعه التي تصلّبت من اثر العزف على الكمان.
في فيلمه المتشرّد "1951م" والذي يُعتبر، ربّما، أفضل أفلامه، يحاول كابور للمرّة الأولى الخروج من أسر شخصيّته النمطية كمتشرّد. هو هنا لا يظهر كفتى مدلّل من أبناء الطبقة العليا، وإنما كصبيّ يتيم اسمه راجو، ينشأ في احد أحياء بومباي الفقيرة، ثم لا يلبث أن يقع في حبّ فتاة متعلّمة اسمها فيديا "وتقوم بدورها نرجس". لكنّه يستسلم لإغراء حياة المجون والجريمة التي يوفّرها له رجل أعمال مستغلّ وامرأة سيّئة السمعة. فيديا تحاول جاهدة أن تصنع من راجو إنسانا طيّبا. لكنها تفشل في ذلك، فيزداد احتقارها له. ومع مرور الأيّام، يصبح راجو شخصا ثريّا. لكنه سرعان ما يدرك انه دفع ثمنا باهظا مقابل ذلك.
"المتشرّد" يمزج بين الأفكار الأسطورية "قصّة والدي راجو التي تُروى بطريقة الفلاش باك والتي تحمل أصداءً من ملحمة رامايانا" وبين الموضوعات الاجتماعية. كما انه يطرح أسئلة صعبة مثل: هل يمكن أن يأتي إنسان طيّب من الحضيض؟ وهل يمكن كسر حلقة الفقر والجريمة؟
وهل يجوز الحكم على إنسان اعتمادا على مَن يكون والده؟
قصّة الحبّ التي يتناولها الفيلم هي بين شخصين من طبقتين متفاوتتين. وهذه هي إحدى أفكار كابور المفضّلة. ويبلغ الفيلم ذروته عندما نكتشف أن والد فيديا، الذي يعمل قاضيا، هو نفسه والد راجو الذي نبذه، هو ووالدته، عندما كان الصبيّ ما يزال طفلا.
وإذا كان فيلم المتشرّد هو أفضل أفلام راج كابور، فإن فيلمه السيّد 420 ربّما يكون أكثر أفلامه رمزية. الرقم في عنوان الفيلم يشير إلى فقرة من قانون العقوبات الهندي تتناول حالات الغشّ والاحتيال. في الفيلم يبحث المشرّد "كابور" عن عمل في المدينة الكبيرة، أي بومباي، حيث يتخذ من الرصيف منزلا يشاركه فيه فقراء آخرون. ثم يقع في هوى معلّمة مدرسة "تلعب دورها نرجس بالطبع".
أغنية الحبّ يؤدّيها العاشقان تحت ضوء القمر وفي طرقات مشبعة بالمطر، بينما تظهر المدينة المتلألئة من خلفهما. مشهد مشهور لا تتجاوز مدّته أربع دقائق، ومع ذلك يختزل سحر السينما بأبهى صورة.
شيئا فشيئا، يصبح بطل الفيلم شخصا فاسدا ومحتالا بعد أن تأثّر بطبيعة الحياة في المدينة. لكنه يحصل على خلاصه في النهاية، عندما ينجح مع جموع الفقراء والضعفاء في الالتفاف حول قضيّة مشتركة ويفلحون معا في انتزاع حقّهم البسيط في السكن.
أفلام بوليوود اليوم لا تبدو كبيرة الشبه بأفلام راج كابور من الحقبة الذهبية. لكن سلالته ما تزال مزدهرة. فبعض إخوته وأبنائه هم اليوم من نجوم السينما في الهند. ويساور اثنين من أحفاده، كارينا ورانبير، حلم بأن يخرجا ذات يوم فيلما عن راج كابور وعن العصر الذهبي للسينما الهندية. "مترجم".