لماذا رسم إل غريكو مدينته "طليطلة" بهذه الطريقة المخيفة والمؤرّقة؟
ترى، هل كان يرسم ظاهرة طبيعية نادرة؟
ما سرّ الإحساس بالضيق والاختناق الذي يبعثه منظر المدينة في اللوحة؟
لماذا تعمّد الرسّام أن لا تتضمّن اللوحة صورا لبشر؟
هل من علاقة للوحة بمحاكم التفتيش وحملات التعذيب والقتل التي تعرّض لها المسلمون واليهود في اسبانيا آنذاك؟
ما الفكرة التي يحاول إل غريكو إيصالها إلينا من وراء أربعة قرون؟
"برايان اورد" يناقش هذه الأسئلة وغيرها في تحليله للوحة إل غريكو "منظر لـ طليطلة"..
وأنا أنظر إلى لوحة إل غريكو منظر لـ طليطلة، تذكّرت السطر الأول من حوار ورد في رواية قلب الظلام لـ جوزيف كونراد. "قال مارلو فجأة: انظر! هذا هو أكثر الأماكن إظلاما وعتمة على وجه الأرض".
إل غريكو لا يقصد أن يخيفنا. بعد أربعمائة عام، ما تزال نواياه غير معروفة. لكن يمكن أن نقول بما يشبه اليقين انه لم يرسم هذه الرؤية لمدينته التي حقّق فيها أعظم نجاحاته الفنية والمالية كي يثير في الناظر شعورا بالرعب. كانت طليطلة مدينة جيّدة بالنسبة لـ إل غريكو. ومن المؤكّد أنه كان ينوي ردّ بعض الجميل إليها.
إذن ما الذي حدث؟ لماذا رسم لها هذه اللوحة الغريبة والمقلقة التي تبدو فيها أشبه ما تكون بمدينة أشباح طاردة ومخيفة؟!
هل في الأمر ما يثير الاستغراب إذا علمنا أن هذه اللوحة تمّ توظيفها في ملصق أكثر من فيلم من أفلام الرعب؟!
لو أن إل غريكو أراد أن يُثني على المدينة ويمتدحها لكان رسمها في ضوء الشمس وليس في هذا الضوء الغريب الذي ينبعث من اللوحة.
لوحة يوهان فيرمير منظر لـ ديلفت هي النقيض الكامل لهذه اللوحة من عدّة وجوه. فهي تستدعي الحضور الجميل لأشعّة الشمس فوق المدينة. في حين أن لوحة إل غريكو تبدو ليلية كما لو أن المدينة أضاءها برق خاطف.
البرق كلمة كثيرا ما تأتي إلى الذهن عند الحديث عن إل غريكو. أحزمة البرق والغيوم المضيئة تتوهّج في سماء بعض مناظره. وميض البرق والشرر، بالنسبة لهذا الرسّام، لها دلالات مقدّسة وغامضة تتخلّل كل شيء.
أتذكّر أنّني كنت أقود سيّارتي ذات ليلة أثناء عاصفة رعدية. كان كلّ شيء حولي حالك السواد عدا مصابيح الإضاءة الأمامية التي انحنت لأسفل بسبب قوّة المطر. وفجأة أضاء نور برق خاطف الطبيعة من حولي. في تلك الثواني القليلة كان بإمكاني رؤية كلّ شيء: البيوت الريفية، الأشجار البعيدة والحقول الموحلة. أكثر التفاصيل دقّة بدت ظاهرة بشكل ساحر. لكن قبل أن استوعب ما حدث، كان كلّ شيء قد تحوّل إلى اسود مرّة أخرى واهتزّت السماء ثانية بفعل زئير الرعد.
هذه هي نوعية الضوء المنبعث في "منظر لـ طليطلة". الضوء المقدّس، الرؤية التي تكشف لك أكثر ممّا يمكنك أن تراه في ضوء الشمس الساطع، الضوء الذي يومض على غير توقّع ويرينا العالم لثانية أو ثوان قبل أن يختفي.
الأمر الذي يصعب تخيّله حتى الآن هو أن "منظر لـ طليطلة" تصوّر مشهدا نهاريا. أريد التأكيد على هذه النقطة لأنها نقيض للمزاج المظلم والعاصف في اللوحة. ذات مرّة، كتب مؤرّخ الفنّ جوناثان براون يقول: في عالم إل غريكو، لا تشرق الشمس أبدا". لكنّ هذه اللوحة هي استثناء عن القاعدة.
لاحظ الظلال المخيّمة على واجهة القصر الذي يطلّ على المدينة إلى اليمين. أشعّة الشمس الساطعة يمكن رؤيتها على العشب وكذلك على الحصن المقام على التلّ إلى اليسار. انه يوم عاديّ. هناك عواصف رعدية في الأفق وظلامها يعزّز النور المنعكس على مباني المدينة.
احد الأشياء الغريبة في هذا العمل هو انه يمكن أن يُفسّر باعتباره ظاهرة طبيعية. النوعية غير الواقعية للمدينة تعود إلى البروز المبالغ فيه لأيّ جسم يضيئه نور الشمس في مقابل خلفية السحب الداكنة.
لماذا اختار غريكو أن يجعل طليطلة تبدو غريبة جدّا وكأنها في حلم؟
اللوحة ليست منظرا، بل استحضار شاعري لـ طليطلة. ويصح القول أنها قصيدة حديثة تحوّلت من خلالها المدينة إلى بضع صور معلمية يسهل التعرّف عليها بسرعة مثل قصر الكازار وبرج الكاثدرائية.
لكن نظرة على أيّ صور أخرى لـ طليطلة تُظهر لنا أن إل غريكو ارتكب ما يشبه الانتهاك بتحريكه أهمّ رمز للمدينة، أي كاثدرائيّتها، من وسط المدينة إلى خارج نطاق الصورة، أي إلى الطرف الشرقيّ منها.
اللوحة تبدو مجزّأة وعشوائية، لكنها منمّقة ومتقلّبة وذات جمال غريب.
هذه اللوحة، مع ما فيها من اختلالات ولا مركزية، قد تكون إعلانا آخر من الرسّام عن استقلاليّته الفنية. في لوحاته الأخرى التي تصوّر أشخاصا، يتجاهل إل غريكو النسب الكلاسيكية كي يطيل أجساد وأطراف البشر باسم الأناقة والجمال. و"منظر لـ طليطلة" هي بيان جريء آخر يحاول الرسّام من خلاله أن يتحدّى المحاكاة الخانقة للواقع.
المفارقة الغريبة هي أن إل غريكو وجد هذه الحرّية الفنية في المدينة التي كانت عاصمة محاكم التفتيش. كانت طليطلة، زمن الرسّام، مدينة فخورة لكنها كانت تقف على حافّة الانهيار. فقد عانت ضياع جزء كبير من مجدها عندما نقل منها فيليب الثاني قصره الملكي إلى مدريد في العام 1560م. لكنّها بقيت مركز الكنيسة الاسبانية وظلّ رئيس أساقفتها يجلس على رأس الهرم الكنسي في اسبانيا.
المؤرّخ ريتشارد كاغان كتب عن رغبة رجال الدين جعل طليطلة أبرشية مثالية ونموذجا تقتدي به بقيّة الكنائس في اسبانيا. وأداتهم الأساسية لتحقيق ذلك كانت محاكم التفتيش التي نظّمت شبكة واسعة من الجواسيس مهمّتهم التأكّد من أن معتقدات كلّ شخص "ليست موضع شبهة".
ونتيجة لذلك، أصبحت طليطلة مدينة خالية من مظاهر التسامح وروحية المعارضة. هذه كانت طليطلة إل غريكو: مدينة كانت إلى ما قبل بضعة قرون مثالا في تعدّد وتنوّع الثقافات ومركزا فكريا ازدهرت فيه ترجمة مؤلّفات الإغريق والعرب إلى الاسبانية. كانت طليطلة مركز الإشعاع الفكري في أوربّا كلّها، والآن تحوّلت إلى مكان قاس ومعقل صارم للشمولية المسيحية.
إل غريكو نفسه، وإنْ بنسبة صغيرة، كان جزءا من ماكينة الكنيسة للسيطرة وبسط النفوذ. وهو كان يفضّل ولا شكّ أن يلعب دورا أكثر أهميّة. غير أن أحلامه بالحصول على وظيفة في القصر، وهو ما أغراه بالمجيء إلى اسبانيا منذ البداية، لم تتحقّق أبدا.
وحتّى في طليطلة، فإن آماله في الحصول على أرباح وعقود فنية من الكنيسة الأمّ تبدّدت بعد الجدل الذي أثير حول بعض صوره الدينية. لكنّ أعماله العديدة التي نفّذها لكنائس ومؤسّسات دينية أخرى جعلته داعية ومروّجا للكنيسة الاسبانية. هذه الحقيقة لا يجب أن تدهشنا، كما أنها لا تقلّل من أهميّة إل غريكو الفنّية. فمعظم فنّاني أوربا الكبار كانوا يروّجون، بطريقة أو بأخرى، لأفكار رُعاتهم وأرباب نعمتهم.
المعاني التي تختزنها "منظر لـ طليطلة" متعدّدة وغامضة. فهذه المدينة، التي كانت مركزا للتعليم الإنساني وظلّت في أيام إل غريكو مكان جذب للكثير من المثقّفين وطالبي العلم، تبدو الآن كئيبة ومتمنّعة. لم تعد مدينة للإنسان، بل أصبحت مدينة لله بزهدها وصرامتها.
طليطلة التي تظهر في هذه اللوحة هي، دون شكّ، مدينة لا إنسانية. البشر فيها لا أهمّية لهم، بل هم ضئيلون كالنمل في لوحات سلفادور دالي. هذه المدينة لا يبدو وكأنها من صنع الإنسان. هي أقرب لأن تكون مكانا لغير البشر، وهي أكثر قربا إلى السماء ذات الألوان الغامضة منها إلى الطبيعة الرعوية أسفل منها.
إنها مكان لا يبالي بالاحتياجات الدنيوية للبشر العاديّين. مدينة أشبه ما تكون بمدن الأشباح التي جُفّفت من ألوانها وأصبحت بلا دماء.
والأكثر مدعاة للخوف انه يمكن فهمها كمدينة للتطهير والتصفية: تطهيرها ممّن بقي فيها من المسلمين واليهود ممّن كانوا قد تحوّلوا إلى المسيحية. كانت مهمّة محاكم التفتيش هي استئصال هؤلاء نهائيا لأن الدماء غير النقيّة لأسلافهم جعلتهم موضع شبهة.
فكرة النقاء العرقي وجدت صداها في لوحات إل غريكو عن العذراوات الطاهرات. وكانت تلك رمزا مناسبا لكنيسة مكرّسة للتطهير العرقي والديني.
هل يمكن اعتبار "منظر لـ طليطلة" رؤية عن مدينة تعرّضت للتطهير العرقي؟ الإجابة هي نعم.
عندما كان إل غريكو يعمل في طليطلة، كانت صورته صورة المهاجر اليوناني الكوزموبوليتاني المنفتح على العالم. لكنّ المفارقة هي انه أصبح يروّج لسلطة دينية كانت تمارس علنا منهجية التطهير العرقي والديني.
وكشخص متعلّم وله صداقات فكرية وطموحات، فلا بدّ وانه فكّر في ما ينطوي عليه موقفه ذاك من مفارقة وتناقض. حتّى الاسم المستعار الذي عرفه به العالم، أي إل غريكو الذي يعني اليوناني، كان علامة على وضعه كشخص أجنبي أتى من الخارج. عندما نظر إل غريكو إلى طليطلة رأى فيها مكانا كان يعرف انه لن يكون فيه مقبولا بالكامل. وربّما أراد أن يكرّم المدينة، لكنه لم يكن يستطيع الاحتفاء بها. هناك دائما شيء ما يتعلّق بالمكان الذي يظلّ، بالنسبة لشخص لا يربطه به رباط وجداني، مكانا يخصّ "الآخر".
"منظر لـ طليطلة" صورة مخيفة لمجتمع شمولي، لمكان يسيطر عليه المتعصّبون دينيا. وإل غريكو، الذي لم يكن تنقصه البراعة ولا الذكاء الفنّي، أخرج لنا من خلال هذه اللوحة رؤية مخيفة وغامضة وحقيقية عن اسبانيا في زمانه.
والنظر إلى هذه الصورة من الماضي البعيد بعيون معاصرة قد يعيننا على التنبّؤ بطبيعة المستقبل الذي ينتظرنا، خاصّة ونحن نرى المتطرّفين الدينيين يستجمعون قواهم ويبسطون سيطرتهم على أنحاء متفرّقة من العالم.
لا غرابة إذن أن ترعبنا الصورة وأن تثير مخاوفنا.
en.wikipedia.org