طوال المائة عام الماضية، ظلّت مدرسة عازفي الكمان الروس تفرض سيطرتها على عالم الموسيقى. لكن منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ومع ظهور المزيد من عازفي الكمان الموهوبين والناضجين، تمّت تنحية الروس وإزاحتهم عن العرش. ومن يومها استولى عازفو الكمان الألمان من أمثال آنا زوفي موتار وفرانك بيتر زيمرمان وكريستيان تيتزلوف على عباءة الريادة واستمرّوا يحكمون مملكة الكمان في العالم طيلة ربع القرن الأخير.
مكسيم فينغيروف ، وهو عازف كمان روسيّ والمنافس الحقيقيّ الوحيد لكلّ من موتار وزيمرمان وتيتزلوف، لم يعد أبدا للعزف بتفرّغ تامّ منذ سبعة أعوام عندما صرّح بأنه يعاني من الإرهاق نتيجة إصابة لحقت به وأصبحت تهدّد حياته المهنية. (شاهد هنا عزف فينغيروف الاعجازي للحركة الثانية من كونشيرتو الكمان الرابع لموزارت).
موتار وزيمرمان وتيتزلوف هم جميعا عازفو كمان متمرّسون. والثلاثة بلا استثناء من بين أكثر الموسيقيين مكَنة وموهبة في هذا العصر. وهم على درجة من الإتقان والبراعة التي يفتقر إليها معظم عازفي الكمان الأحياء الآخرين.
تيتزلوف قد يكون الأكثر ثقافة من بين هؤلاء الثلاثة سواءً بالمعنى الجيّد أو الرديء. فهو عازف صارم جدّا ويحسب الأمور بعناية ولا شيء ممّا يفعله غير مقصود أو غير مخطّط له إلى أقصى درجة. ونادرا ما تعتريه نوبات إلهام مثل تلك التي كثيرا ما تميّز أداء زميليه موتار وزيمرمان.
وعندما يكون أداؤه دون المستوى، فإنه غالبا ما يُتّهم بالافتقار إلى العفوية والعاطفة. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك العديد من التحفّظات والانتقادات التي وُجّهت له بسبب طريقته في عزف بعض مقطوعات بيتهوفن. (تابع تيتزلوف هنا وهو يعزف إحدى مقطوعات يوهان برامز).
وبالنسبة لعازف كمان ذي شهرة عالمية، فإن تيتزلوف يفتقر أيضا للصوت الفريد. فصوته "أو على الأصح صوت كمانه" ينقصه اللون والثراء. وهو أمر يعزوه البعض إلى استخدامه نوعا من الكمان الحديث الذي يكلّف ثلاثين ألف دولار أمريكي فقط.
وتيتزلوف بالمناسبة هو عازف الكمان الوحيد على مستوى العالم الذي يعزف أمام الجمهور اليوم دون أن يستخدم آلة كمان مصنوعة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر على يد صنّاع الكمان المشهورين في ذلك الوقت. وهو يدّعي أن الآلات الموسيقية التاريخية "أو القديمة" تؤدّي إلى نتائج عكسية عند استخدامها في الحفلات الموسيقية المعاصرة.
الجدير بالذكر أن معظم عازفي الكمان الكبار اليوم يستخدمون آلات تعود إلى العصر الذهبيّ لصناعة آلات الكمان، خصوصا تلك التي من صنع الايطالي انطونيو ستراديفاري (1644 - 1737). ويُعتقد أن ستراديفاري صنع أثناء حياته أكثر من ألف آلة كمان بقي منها حتى اليوم أكثر من ستمائة يعود أقدمها إلى العام 1664م. وقد بيع منذ سنوات في مزاد بلندن كمان من صنع ستراديفاري بمبلغ 16 مليون دولار أمريكي، وهو أعلى سعر بيعت به آلة موسيقية إلى اليوم.
قبل أسابيع، أقيم في إحدى صالات الموسيقى الفخمة حفل موسيقيّ دُعي له كريستيان تيتزلوف ليعزف بعض ألحان شوبيرت. وكان يرافقه على البيانو العازف الألماني لارس فوغت.
أداء تيتزلوف كان مذهلا. وكانت تلك ليلة من الليالي النادرة التي كان فيها تركيز الفنّان تامّا ومطلقا. وقد عزف تيتزلوف ثلاث سوناتات للكمان والبيانو: سوناتا موزارت الأخيرة للكمان رقم 32، وسوناتا بارتوك للكمان رقم 1، وسوناتا بيتهوفن للكمان رقم 7.
وفي كلّ واحدة من هذه المقطوعات كان تيتزلوف محلّقا في سماوات الإبداع. كما عزف خمسة مقتطفات من مؤلّفات الموسيقيّ الهنغاريّ جورج كورتاغ للكمان المنفرد.
كان عزف تيتزلوف لبارتوك استثنائيّا. وهذا لم يكن مفاجئا، لأنه كان وما يزال أرقى من يعزف لبارتوك من عازفي الكمان منذ أن كان في أوائل العشرينات من عمره. ومن الواضح انه يفهم جيّدا زوايا الكتابة عند بارتوك ويفهم كذلك وحشيّته وغنائيّته.
غير أن موزارت كان مفاجأة ذلك المساء. وقد جرت العادة أن لا ينظر الناس إلى تيتزلوف كعازف نموذجيّ لأعمال موزارت. فموتار وجوليا فيشر هما اللتان تتسيّدان حاليّا قائمة أفضل عازفي موزارت. لكن عزف تيتزلوف في تلك الليلة كان مقنعا جدّا. موزارت تيتزلوف كان تجريديّا، تماما مثل توماس بيتشام وهو يعزف لأماديوس.
هذا في ما يتعلق بالكمان. لكن ماذا عن حال البيانو اليوم؟ هل هناك الآن عازفو بيانو يستحقّون أن يُستمع إليهم؟ عازف البيانو الأمريكي من أصل كرواتي ستيفن كوفاتشيفيتش أصبح الآن متقاعدا وتفرّغ للتدريس. ومثله التشيكي ايفان مورافيتش . والعازف الايطالي موريزيو بولليني لم يعد يعمل كما في السابق. أما البولندي كريستيان زيمرمان فقد أصبح عزفه غريبا. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأرجنتينية مارتا ارغيريش وعن الأمريكي موراي بيرهيا الذي أضاع اتجاهه في الفترة الأخيرة.
الواقع أننا لا نعيش الآن في عصر البيانو. وليس هناك في الساحة اليوم من يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على الشعلة متّقدة، اللهم إلا استثنينا الروسيين يفغيني كيسين ودانييل تريفونوف . (إستمع إلى تريفونوف هنا وهو يعزف كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت، أو إلى كيسين وهو يعزف مقطوعة "ليبيستروم" أو حلم الحبّ لفرانز ليست على هذا الرابط). "مترجم بتصرّف".
موضوع ذو صلة: مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان
مكسيم فينغيروف ، وهو عازف كمان روسيّ والمنافس الحقيقيّ الوحيد لكلّ من موتار وزيمرمان وتيتزلوف، لم يعد أبدا للعزف بتفرّغ تامّ منذ سبعة أعوام عندما صرّح بأنه يعاني من الإرهاق نتيجة إصابة لحقت به وأصبحت تهدّد حياته المهنية. (شاهد هنا عزف فينغيروف الاعجازي للحركة الثانية من كونشيرتو الكمان الرابع لموزارت).
موتار وزيمرمان وتيتزلوف هم جميعا عازفو كمان متمرّسون. والثلاثة بلا استثناء من بين أكثر الموسيقيين مكَنة وموهبة في هذا العصر. وهم على درجة من الإتقان والبراعة التي يفتقر إليها معظم عازفي الكمان الأحياء الآخرين.
تيتزلوف قد يكون الأكثر ثقافة من بين هؤلاء الثلاثة سواءً بالمعنى الجيّد أو الرديء. فهو عازف صارم جدّا ويحسب الأمور بعناية ولا شيء ممّا يفعله غير مقصود أو غير مخطّط له إلى أقصى درجة. ونادرا ما تعتريه نوبات إلهام مثل تلك التي كثيرا ما تميّز أداء زميليه موتار وزيمرمان.
وعندما يكون أداؤه دون المستوى، فإنه غالبا ما يُتّهم بالافتقار إلى العفوية والعاطفة. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك العديد من التحفّظات والانتقادات التي وُجّهت له بسبب طريقته في عزف بعض مقطوعات بيتهوفن. (تابع تيتزلوف هنا وهو يعزف إحدى مقطوعات يوهان برامز).
وبالنسبة لعازف كمان ذي شهرة عالمية، فإن تيتزلوف يفتقر أيضا للصوت الفريد. فصوته "أو على الأصح صوت كمانه" ينقصه اللون والثراء. وهو أمر يعزوه البعض إلى استخدامه نوعا من الكمان الحديث الذي يكلّف ثلاثين ألف دولار أمريكي فقط.
وتيتزلوف بالمناسبة هو عازف الكمان الوحيد على مستوى العالم الذي يعزف أمام الجمهور اليوم دون أن يستخدم آلة كمان مصنوعة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر على يد صنّاع الكمان المشهورين في ذلك الوقت. وهو يدّعي أن الآلات الموسيقية التاريخية "أو القديمة" تؤدّي إلى نتائج عكسية عند استخدامها في الحفلات الموسيقية المعاصرة.
الجدير بالذكر أن معظم عازفي الكمان الكبار اليوم يستخدمون آلات تعود إلى العصر الذهبيّ لصناعة آلات الكمان، خصوصا تلك التي من صنع الايطالي انطونيو ستراديفاري (1644 - 1737). ويُعتقد أن ستراديفاري صنع أثناء حياته أكثر من ألف آلة كمان بقي منها حتى اليوم أكثر من ستمائة يعود أقدمها إلى العام 1664م. وقد بيع منذ سنوات في مزاد بلندن كمان من صنع ستراديفاري بمبلغ 16 مليون دولار أمريكي، وهو أعلى سعر بيعت به آلة موسيقية إلى اليوم.
قبل أسابيع، أقيم في إحدى صالات الموسيقى الفخمة حفل موسيقيّ دُعي له كريستيان تيتزلوف ليعزف بعض ألحان شوبيرت. وكان يرافقه على البيانو العازف الألماني لارس فوغت.
أداء تيتزلوف كان مذهلا. وكانت تلك ليلة من الليالي النادرة التي كان فيها تركيز الفنّان تامّا ومطلقا. وقد عزف تيتزلوف ثلاث سوناتات للكمان والبيانو: سوناتا موزارت الأخيرة للكمان رقم 32، وسوناتا بارتوك للكمان رقم 1، وسوناتا بيتهوفن للكمان رقم 7.
وفي كلّ واحدة من هذه المقطوعات كان تيتزلوف محلّقا في سماوات الإبداع. كما عزف خمسة مقتطفات من مؤلّفات الموسيقيّ الهنغاريّ جورج كورتاغ للكمان المنفرد.
كان عزف تيتزلوف لبارتوك استثنائيّا. وهذا لم يكن مفاجئا، لأنه كان وما يزال أرقى من يعزف لبارتوك من عازفي الكمان منذ أن كان في أوائل العشرينات من عمره. ومن الواضح انه يفهم جيّدا زوايا الكتابة عند بارتوك ويفهم كذلك وحشيّته وغنائيّته.
غير أن موزارت كان مفاجأة ذلك المساء. وقد جرت العادة أن لا ينظر الناس إلى تيتزلوف كعازف نموذجيّ لأعمال موزارت. فموتار وجوليا فيشر هما اللتان تتسيّدان حاليّا قائمة أفضل عازفي موزارت. لكن عزف تيتزلوف في تلك الليلة كان مقنعا جدّا. موزارت تيتزلوف كان تجريديّا، تماما مثل توماس بيتشام وهو يعزف لأماديوس.
هذا في ما يتعلق بالكمان. لكن ماذا عن حال البيانو اليوم؟ هل هناك الآن عازفو بيانو يستحقّون أن يُستمع إليهم؟ عازف البيانو الأمريكي من أصل كرواتي ستيفن كوفاتشيفيتش أصبح الآن متقاعدا وتفرّغ للتدريس. ومثله التشيكي ايفان مورافيتش . والعازف الايطالي موريزيو بولليني لم يعد يعمل كما في السابق. أما البولندي كريستيان زيمرمان فقد أصبح عزفه غريبا. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأرجنتينية مارتا ارغيريش وعن الأمريكي موراي بيرهيا الذي أضاع اتجاهه في الفترة الأخيرة.
الواقع أننا لا نعيش الآن في عصر البيانو. وليس هناك في الساحة اليوم من يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على الشعلة متّقدة، اللهم إلا استثنينا الروسيين يفغيني كيسين ودانييل تريفونوف . (إستمع إلى تريفونوف هنا وهو يعزف كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت، أو إلى كيسين وهو يعزف مقطوعة "ليبيستروم" أو حلم الحبّ لفرانز ليست على هذا الرابط). "مترجم بتصرّف".
موضوع ذو صلة: مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان