:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يونيو 30، 2011

طريق الامبراطورية


خلال الفترة من 1833 إلى 1836م، رسم الفنّان الأمريكي توماس كول سلسلة من اللوحات حاول من خلالها رصد مراحل نشوء وصعود الامبراطوريات ومن ثمّ انهيارها وأفولها.
وجانب من شهرة هذه اللوحات يتمثّل في أنها تعكس المشاعر الشعبية الأميركية في ذلك الوقت عندما كان الكثيرون ينظرون إلى الفكرة الرعوية على أنها المرحلة المثالية في تطوّر الحضارة البشرية. كان هؤلاء يخشون من أنّ تتَحَوّل الدولة في النهاية إلى امبراطورية، ما يؤدّي إلى استشراء الجشَع والشرَه ومن ثمّ الانهيار المحتّم.
وتتألّف السلسلة، التي تصوّر على التوالي مراحل نموّ وسقوط دولة وهمية تقع على شاطئ نهر، من خمس لوحات: المجتمع المتوحّش، المجتمع الأركادي أو الرعوي، اكتمال بناء الإمبراطورية، تدمير الامبراطورية، ثمّ خرابها. ويمكن اعتبار هذه اللوحات في نفس الوقت تصويرا للعلاقة ما بين الإنسان والطبيعة. أمّا مصدر الإلهام الأدبيّ الذي استند إليه الفنّان في رسمها فهو قصيدة للشاعر الانجليزي اللورد بايرون كتبها في العام 1818م.
توماس كول كان يعتقد أن الإمبراطوريات والحضارات الإنسانية لا تدوم طويلا. فعلى مرّ التاريخ، سادت امبراطوريات كثيرة ثم بادت. أما الرسالة التي أراد أن يبعثها من خلال لوحاته فهي أن الطبيعة تتمتّع بالسيطرة المطلقة على كلّ شيء. وبغضّ النظر عن مدى ما يمكن أن يفعله الإنسان، فإن تصرّفاته لا يمكن أن تُوقِف عمل الطبيعة. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان يمكن أن يهيمن وأن ينشئ حضارة عظيمة. لكنّ كلّ شيء يمكن أن يفعله البشر مآله في النهاية إلى التلاشي والزوال.
وقد رسم كول جميع اللوحات الخمس في نفس الموقع. لكنه استخدم مواسم وأوقاتاً وظروف طقس مختلفة كي ينقل المزاج الذي يناسب كلّ لوحة.
كان توماس كول إنسانا حادّ الذكاء ورسّاما متميّزا وموهوبا. وكانت له آراء كثيرة حول الحياة والطبيعة البشرية والموت. كان يعتقد، مثلا، أن الإنسان يعيش ويموت، مثله مثل جميع الكائنات من نبات وحيوان وخلافه.
وكان يرسم الجبال المتآكلة والأنهار الجافّة كرمز لنهاية دورة الطبيعة التي تماثل دورة حياة الإنسان نفسه. فالإنسان يموت عندما تتقدّم به السنّ، وكذلك الطبيعة تفقد حيويّتها وتجدّدها مع مرور الزمن.



1) المجتمع المتوحّش:
جوّ هذه اللوحة يبدو مظلما وغير مروّض. من مسافة بعيدة يمكن للمرء أن يرى الدخان والنار وجمعاً من البشر المتوحّشين. كما يمكن أيضا رؤية جزء من شاطئ نهر يقوم خلفه جبل تغمره الغيوم في فجر يوم عاصف. وفي يسار المنظر، نلمح صيّادا يرتدي ملابس من جلد الحيوان وهو يجري مسرعا في البرّية في إثر أيل. هناك أيضا صيّادون آخرون على التلّة المجاورة ينطلقون للصيد. وفي النهر أسفل الصيّاد، هناك زورق صغير يبحر في النهر.
وعلى الربوة إلى اليسار، تلوح مجموعة من البيوت المبنيّة من القشّ حولها نار مشتعلة. هذه هي نواة المدينة التي ستنشأ في ما بعد. الرسّام اعتمد في رسم تفاصيل هذه اللوحة على حياة وأسلوب معيشة سكّان أمريكا الأصليين.
الجبل الظاهر في الخلفية يتكرّر في كلّ لوحة من لوحات مسار الإمبراطورية. هنا، يضعه كول في منتصف المشهد تقريبا بينما تحيط به الغيوم العاصفة. الجبل هائل ومهيب. انه شكل قويّ يوحي بالسيطرة المطلقة للطبيعة في المجتمع المتوحّش، وأيضا بحالة الإنسان المعرّض للخطر في علاقته بقوى الطبيعة.
تصوّر كول عن الإنسان المتوحّش هو انه صيّاد في حالة ترحال ويحمل القوس والسهم ليقتفي إثر أيل أو أيّ حيوان آخر يصلح للأكل.
الأيل المجروح يعدو فوق مياه النهر أسفل اللوحة محاولا الفرار بينما انغرس في ظهره سهم. وفي هذا إشارة إلى جهد الإنسان للسيطرة على الطبيعة. في مرحلة الصيد، يتجمّع البشر معا لتبادل ضرورات المعيشة والحماية والعبادة. الغيوم العاصفة ترمز إلى الطبيعة المتوحّشة. والزورق البدائي في أقصى يسار المنظر هو إشارة إلى بداية النقل والاستكشاف.



2) المجتمع الأركادي أو الرعوي:
في هذه اللوحة، أصبحت السماء صافية. ونحن الآن في مستهلّ يوم جديد من أيّام الربيع. اللوحة تنقل الناظر إلى نقطة اقرب، بحيث يمكن رؤية جانب اكبر من النهر بعد أن أصبح الجبل الآن في الجهة اليسرى. يمكننا أيضا أن نرى قمّة صخرية متشعّبة خلف الجبل. الكثير من الأرض القفر أفسحت المجال للأراضي المستوية. أصبح هناك مروج وحقول محروثة. الأنشطة المختلفة تجري في الخلفية: حراثة الأرض، بناء القوارب، رعي الأغنام، والرقص. وفي المقدّمة، على الجانب القريب من النهر، يقوم معبد صخريّ ينبعث منه الدخان. هذه الصور تعكس أجواء اليونان القديمة المثالية وما قبل الحضرية. الجبل الذي ظهر للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش أصبح الآن أكثر هدوءا. كما حلّ فلاح مكان الصيّاد، علامة على الاستقرار الدائم. في أقصى يسار اللوحة، نرى رجلا مسنّا يرسم بعصا أشكالا في التراب، في ما يبدو وكأنه إشارة إلى بداية العلم والمنطق.
إلى اليمين، يمكن رؤية صبيّ صغير وهو يرسم الشكل البدائي لامرأة تمسك بمغزل، في إشارة إلى الأصول الأولى للرسم والتصوير. ولو دقّقت أكثر في اللوحة، سترى الأحرف الأولى من اسم الرسّام منقوشة على الكتلة الحجرية المستطيلة التي يجلس عليها الصبيّ. خلف المرأة الواقفة، هناك جذع شجرة مقطوع. وواضح أن من قطعه إنسان. وهي علامة مزعجة ونذير شؤم لما سيأتي. كان كول كثيرا ما يستخدم جذوع الأشجار المقطوعة في لوحاته كي يدلّل على الآثار السلبية للحضارة.
إلى يمين اللوحة، نلمح رجالا ونساءً يرقصون، في إشارة إلى بدايات الموسيقى. الاستيطان الدائم يحلّ محلّ الخيام البدائية المصنوعة من الأشجار أو جلود الحيوانات في المجتمع المتوحّش. الدخان المتصاعد من البيوت يوحي بسيطرة الإنسان على الطبيعة للأغراض المنزلية.
في النهر، هناك سفينة. لقد تغيّرت القوارب التي كان يستخدمها الإنسان في المجتمع المتوحّش وأصبحت الآن سفناً متطوّرة، ما ينذر ببدايات التجارة البحرية والتوسّع الامبراطوري. في وسط المنظر، نرى صبيّا يرعى قطيعا من الأغنام. وجود الأغنام يؤشّر إلى بداية ظهور رسم المناظر الطبيعية المعروفة بالرعوية. إلى يسار الوسط، نرى شخصا يحمل درعاً، وهو أمر يوحي بقدوم الصراعات العسكرية.



3) اكتمال بناء الامبراطورية:
في هذه اللوحة، يحوّل الرّسام نظر المتلقّي إلى الشاطئ الآخر. الوقت: ظهيرة يوم رائع من أيّام الصيف. ضفتّا النهر أصبحتا مكانا تقوم عليه بنايات تزيّنها أعمدة رخامية وسلالم توصل إلى الماء.
المعبد الحجري في اللوحة السابقة تحوّل إلى بناء تعلوه قبّة ضخمة. والنهر أصبحت تحرسه منارتان تطلان من بعيد. وهناك سفن تبحر في النهر قاصدة البحر الذي وراءه. لكنّ أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد هو هذا الحشد المبتهج من الناس الذين يتجمّعون في المدرّجات والشرفات. لو نظرت إلى الجهة اليسرى من اللوحة، سترى ملكا أو ربّما جنرالا يرتدي ملابس قرمزية ويعبر جسرا يصل ما بين طرفي النهر في ما يشبه موكب النصر. المظهر العام يذكّر بذروة صعود روما القديمة.
ما كان يوما جبلا، صار الآن مكانا تغطّيه بنايات من صنع الإنسان. أي أن الجبل أصبح يخضع تماما لسيطرة الإنسان.
المعبد الإغريقي الطراز يحتوي على تماثيل تصوّر مشهد صيد يذكّر بالصيّاد الذي يظهر في لوحة المجتمع المتوحّش. إلى يمين اللوحة، يظهر بناء عال يقف فوقه تمثال لامرأة يشبه تمثال دايانا إلهة الصيد الرومانية. الرماح والأزياء العسكرية توحي بالطابع العسكري للمجتمع. الأبواق النحاسية حلّت محلّ المزامير البسيطة للمجتمع الرعوي. وفي أقصى يمين اللوحة، هناك مؤرّخ يسجّل تاريخ اكتمال بناء الامبراطورية، في موازاة دور الرسّام الذي يخلق نوع آخر من التسجيل من خلال الصور.



4) تدمير الإمبراطورية:
في هذه اللوحة، يتراجع الرسّام قليلا إلى منتصف النهر تقريبا للسماح بمساحة فعل اكبر. هذا الفعل أو الحدث هو تدمير الامبراطورية أثناء عاصفة تلوح نذرها من بعيد. ويبدو أن أسطولا من المحاربين الأعداء قد أطاح بالدفاعات الأمامية بعد أن شقّ طريقه وسط مياه النهر. وهو الآن منشغل بإحراق وتدمير الامبراطورية وقتل واغتصاب سكّانها.
الجسر الذي عبر فوقه موكب النصر من قبل أصبح الآن مهدّما. وهناك بموازاته جسر مؤقّت ينوء تحت ثقل الجنود والسكّان المرعوبين. الأعمدة تحطّمت والنيران تشتعل من الطوابق العليا لقصر يقوم على الضفّة اليمنى للنهر. التمثال الضخم إلى يمين اللوحة يصوّر بطلا مقطوع الرأس ويحمل ترسا، لكنه ما يزال يخطو إلى الأمام باتجاه مستقبل غير واضح. هيئة التمثال تذكّرنا بالصيّاد في لوحة المجتمع المتوحّش. وربّما كان هذه المشهد مقتبسا من حادثة تخريب ونهب روما في العام 455م.
الجبل، مرّة أخرى، يصبح أكثر وضوحا. وهو الآن في نهاية اللوحة، ما يوحي بقرب عودة الطبيعة. الطبيعة نفسها أصبحت صدى للفوضى والدمار اللذين لحقا بالامبراطورية، على شكل غيوم عاصفة ورياح ونار. شرفة المعبد تحوّلت إلى قاعدة لإطلاق المنجنيق، في إشارة إلى أن عنف الحضارة أفسد الفنّ والدين. الجسر الذي عبر عليه ذات يوم الحاكم، إنهار الآن تحت ثقل جيوشه. والسفن التي كانت في يوم من الأيّام رافدا للتجارة هي الآن تحترق وتغرق في جحيم الحرب. وهناك أمّ تنعي موت ابنها. وغير بعيد عنها، امرأة أخرى تهرب من جندي لتلقي بنفسها في مياه النهر، ما يدلّ على انهيار الحضارة وتحوّلها إلى عنف جنسي. لا شيء هنا سوى المجازر والعنف والدمار. والقتال يدور في كلّ مكان، بينما الموتى والمحتضرون يملئون الطرقات والميادين.



5) الخراب:
هذه اللوحة تُظهِر نتائج ما حدث للامبراطورية بعد سنوات من انهيارها. ونحن نرى ما تبقّى منها في ضوء قمر شاحب. الليل هادئ والنهر يضيئه جوّ من الهدوء والسكينة. الضوء الباهت ينعكس في مياه النهر الراكدة. الحياة البرّية تعود إلى طبيعتها الأولى. لم يعد بالإمكان رؤية بشر. لكنّ أطلال بنيانهم تبرز من تحت عباءة مجموعة من أشجار اللبلاب. أقواس الجسر المدمّر وأعمدة المعبد ما تزال ظاهرة للعيان. وهناك بقايا عمود واحد ضخم في المقدّمة كان ذات يوم يدعم معبدا أو قصرا وأصبح الآن مكانا تعشعش فيه الطيور.
الطبيعة أخذت تستعيد مركز الصدارة شيئا فشيئا على أنقاض الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن هذه علامة على نهاية الحضارة، إلا أن القطع المعمارية ما تزال تحتفظ بجمال حزين. الأيل الذي شوهد للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش وهو يحاول الفرار من الصيّاد، أصبح الآن يتجوّل بحرّية في الطبيعة.
بقايا المعبد والقصر والأبنية الأخرى تؤشّر إلى أن دورات الطبيعة أقوى من أيّ شيء شيّدته يد الإنسان مهما كان كاملا.
شروق الشمس في لوحة المجتمع المتوحّش يحلّ مكانه هنا ضوء القمر. لقد سقطت الحضارة وعاد الجبل إلى هيئته الأولى وهو الآن يعيد تأسيس نفسه كمعْلَم رئيسيّ في المشهد. وهكذا تكتمل الدورة التي بدأت بالمجتمع المتوحّش عند الفجر.
هامش:
مسار الامبراطورية: نظرة بانورامية