كتب جون ميلتون ملحمته الشعرية الفردوس المفقود بعد أن كُفّ بصره في العام 1654 م. كان كلّ ليلة ينظم كمّية من الشعر في رأسه. وفي الصباح يقوم بإملائها على بناته الثلاث لكتابتها. وبعد أن تزوّج ثانية من امرأة تصغره سنّاً، أصبحت علاقته ببناته متوتّرة. إلا أنهنّ حافظن على علاقتهنّ به حتى النهاية. وبعض القصائد التي ألّفها في سنواته الأخيرة أهداها إلى إحداهن.
صورة ميلتون الأعمى وهو يُملي الفردوس المفقود على بناته فتنت مخيّلة الناس لزمن طويل، وكانت موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية. ومن بين من رسمه من الفنّانين كلّ من اوجين ديلاكروا وميهالي مونكاتشي وجورج رومني وآخرين. كان ميلتون يزعم انه يتلقّى أوامر مباشرة من السماء. ولا بدّ وأن تدوين مثل ذلك العمل الأدبي الطويل جدّا كان مهمّة صعبة.
في هذه الأيّام، تغيّر الحال كثيرا. فبفضل التكنولوجيا المتطوّرة، أصبح العديد من الروائيين يميلون لاستخدام برامج التعرّف على الصوت لإملاء رواياتهم صوتياً بدلا من كتابتها. وهذه النوعية من البرامج تتحسّن باستمرار، بل وتبتكر تطبيقات لأجهزة الآيفون.
عملية إملاء الروايات عن طريق الصوت إلى قرص كمبيوتر هي في الحقيقة عودة إلى "الكتابة عن طريق الصوت" كما كان يمارسها المؤلّفون عبر التاريخ. جون ميلتون، دستويفكسي وهنري جيمس استخدموا أوّل نموذج من برامج التعرّف على الصوت، أي النساء.
الاختزال، ومن ثمّ الطباعة، وفّرا إمكانية دخول آلاف النساء إلى أماكن العمل. وقبل ذلك، كان إملاء العمل الأدبي أسلوبا للتبادل الحميم. كان من عادة المؤلّف أن يُملي روايته على احد أقاربه، من نساء العائلة غالبا.
الإملاء في حدّ ذاته ليس بالأمر الجديد. غير أن الإملاء على إنسان لا يشبه الإملاء على آلة. فالناسخ البشري يستجيب شعوريا إلى ما يُملى عليه، أحيانا بالضحك وأحيانا بالبكاء أو حتّى بالصراخ. أي أن الناسخ يتفاعل بجسده ومشاعره بالنيابة عن الكاتب.
دستويفكسي كان يصف المرأة التي كانت تنسخ له كتاباته، واسمها آنا غريغورييفنا، بـ "المتعاونة". وقد استعان بها كي يُنهي كتابة روايته المقامر قبل انتهاء عقد كان قد ابرمه مع ناشره ليتمكّن من دفع ديون شقيقه الميّت.
في مذكّراتها، تسرد آنا غريغورييفنا قصّة لقائها بـ دستويفكسي. ثم تصف عملها معه بقولها: في بعض الأوقات، كنت أذهل من جرأتي في التعبير عن آرائي عن الرواية. ولا زلت مذهولة أكثر من الاهتمام الذي كان الكاتب الرائع يبديه في الاستماع إلى تلك الملاحظات والآراء الصبيانية".
ورغم انه لا توجد طريقة لقياس مساهمة غريغورييفنا في تلك الرواية، إلا أن من الواضح أنها كانت تدرك أنها كانت تقدّم ما هو أكثر من مجرّد النسخ والكتابة.
وبفضل مساعدتها، انتهى دستويفكسي من كتابة "المقامر" في الموعد المحدّد. ثم لم يلبث أن تزوّجها، واستمرّ التعاون في ما بينهما. كان دستويفكسي يفهم أن عملهما كان جهدا مشتركا، رغم أن التاريخ قد يكون نسي تلك الأصابع الخفيّة.
برمجيات التعرّف على الصوت، الشائعة هذه الأيّام، لا يمكن لأحد وصفها بـ "المتعاونة". ولا احد يمكنه أن يقول إن الكمبيوتر يكتب بيد ويمسح الدموع باليد لأخرى، كما كانت آنا غريغورييفنا تفعل عندما كان دستويفكسي يُملي عليها مشهدا من الإخوة كارامازوف.
"بعد الانتهاء من الإملاء، كان دائما يسأل: حسنا، ماذا تقولين يا انيشكا؟ وكنت أردّ: رائع. كان زوجي يعلّق أهمّية كبيرة على ردود أفعالي التلقائية على ما يكتب".
كان الكتّاب يُملون قصصهم ومؤلّفاتهم منذ عصر سقراط. وميلتون ودستويفكسي وغيرهما استعانوا بمصادر خارجية لإنتاج فنّهم بسبب الضعف البشري وقيود الجسد.
اليوم، أصبحت العملية ميكانيكية. الكتّاب المعاصرون بإمكانهم أن يستغنوا عن آلات الطباعة وحتى عن لوحات المفاتيح ويؤلّفوا كتبهم من خلال الصوت. وبطبيعة الحال، فإن التكنولوجيا الحديثة لا تعلّق على ما تكتب ولا تذرف الدموع تأثّرا بجمال كلماتك كما كان يفعل الناسخون في الماضي.
الكتّاب الذين يستعينون بتقنيات التعرّف على الصوت هذه الأيّام، يفعلون ذلك لأسباب مختلفة. بعضهم يختارها بسبب الإجهاد المتكرّر. لكن البعض الآخر يفضّلونها لأنها سهلة ومريحة.
وهناك من الكتّاب من لا يرى فارقا بين أن يُملي على إنسان أو على آلة. ويبدو أن ما يحدث الآن يعكس حنين بعض الكتّاب لنموذج من التأليف السمعي ينتفي فيه دور الوسيط. .
صورة ميلتون الأعمى وهو يُملي الفردوس المفقود على بناته فتنت مخيّلة الناس لزمن طويل، وكانت موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية. ومن بين من رسمه من الفنّانين كلّ من اوجين ديلاكروا وميهالي مونكاتشي وجورج رومني وآخرين. كان ميلتون يزعم انه يتلقّى أوامر مباشرة من السماء. ولا بدّ وأن تدوين مثل ذلك العمل الأدبي الطويل جدّا كان مهمّة صعبة.
في هذه الأيّام، تغيّر الحال كثيرا. فبفضل التكنولوجيا المتطوّرة، أصبح العديد من الروائيين يميلون لاستخدام برامج التعرّف على الصوت لإملاء رواياتهم صوتياً بدلا من كتابتها. وهذه النوعية من البرامج تتحسّن باستمرار، بل وتبتكر تطبيقات لأجهزة الآيفون.
عملية إملاء الروايات عن طريق الصوت إلى قرص كمبيوتر هي في الحقيقة عودة إلى "الكتابة عن طريق الصوت" كما كان يمارسها المؤلّفون عبر التاريخ. جون ميلتون، دستويفكسي وهنري جيمس استخدموا أوّل نموذج من برامج التعرّف على الصوت، أي النساء.
الاختزال، ومن ثمّ الطباعة، وفّرا إمكانية دخول آلاف النساء إلى أماكن العمل. وقبل ذلك، كان إملاء العمل الأدبي أسلوبا للتبادل الحميم. كان من عادة المؤلّف أن يُملي روايته على احد أقاربه، من نساء العائلة غالبا.
الإملاء في حدّ ذاته ليس بالأمر الجديد. غير أن الإملاء على إنسان لا يشبه الإملاء على آلة. فالناسخ البشري يستجيب شعوريا إلى ما يُملى عليه، أحيانا بالضحك وأحيانا بالبكاء أو حتّى بالصراخ. أي أن الناسخ يتفاعل بجسده ومشاعره بالنيابة عن الكاتب.
دستويفكسي كان يصف المرأة التي كانت تنسخ له كتاباته، واسمها آنا غريغورييفنا، بـ "المتعاونة". وقد استعان بها كي يُنهي كتابة روايته المقامر قبل انتهاء عقد كان قد ابرمه مع ناشره ليتمكّن من دفع ديون شقيقه الميّت.
في مذكّراتها، تسرد آنا غريغورييفنا قصّة لقائها بـ دستويفكسي. ثم تصف عملها معه بقولها: في بعض الأوقات، كنت أذهل من جرأتي في التعبير عن آرائي عن الرواية. ولا زلت مذهولة أكثر من الاهتمام الذي كان الكاتب الرائع يبديه في الاستماع إلى تلك الملاحظات والآراء الصبيانية".
ورغم انه لا توجد طريقة لقياس مساهمة غريغورييفنا في تلك الرواية، إلا أن من الواضح أنها كانت تدرك أنها كانت تقدّم ما هو أكثر من مجرّد النسخ والكتابة.
وبفضل مساعدتها، انتهى دستويفكسي من كتابة "المقامر" في الموعد المحدّد. ثم لم يلبث أن تزوّجها، واستمرّ التعاون في ما بينهما. كان دستويفكسي يفهم أن عملهما كان جهدا مشتركا، رغم أن التاريخ قد يكون نسي تلك الأصابع الخفيّة.
برمجيات التعرّف على الصوت، الشائعة هذه الأيّام، لا يمكن لأحد وصفها بـ "المتعاونة". ولا احد يمكنه أن يقول إن الكمبيوتر يكتب بيد ويمسح الدموع باليد لأخرى، كما كانت آنا غريغورييفنا تفعل عندما كان دستويفكسي يُملي عليها مشهدا من الإخوة كارامازوف.
"بعد الانتهاء من الإملاء، كان دائما يسأل: حسنا، ماذا تقولين يا انيشكا؟ وكنت أردّ: رائع. كان زوجي يعلّق أهمّية كبيرة على ردود أفعالي التلقائية على ما يكتب".
كان الكتّاب يُملون قصصهم ومؤلّفاتهم منذ عصر سقراط. وميلتون ودستويفكسي وغيرهما استعانوا بمصادر خارجية لإنتاج فنّهم بسبب الضعف البشري وقيود الجسد.
اليوم، أصبحت العملية ميكانيكية. الكتّاب المعاصرون بإمكانهم أن يستغنوا عن آلات الطباعة وحتى عن لوحات المفاتيح ويؤلّفوا كتبهم من خلال الصوت. وبطبيعة الحال، فإن التكنولوجيا الحديثة لا تعلّق على ما تكتب ولا تذرف الدموع تأثّرا بجمال كلماتك كما كان يفعل الناسخون في الماضي.
الكتّاب الذين يستعينون بتقنيات التعرّف على الصوت هذه الأيّام، يفعلون ذلك لأسباب مختلفة. بعضهم يختارها بسبب الإجهاد المتكرّر. لكن البعض الآخر يفضّلونها لأنها سهلة ومريحة.
وهناك من الكتّاب من لا يرى فارقا بين أن يُملي على إنسان أو على آلة. ويبدو أن ما يحدث الآن يعكس حنين بعض الكتّاب لنموذج من التأليف السمعي ينتفي فيه دور الوسيط. .
Credits
tabletmag.com
tabletmag.com