احد اغرب اللقاءات في التاريخ هو ذلك الذي جمع بين فريدريك الأكبر ملك بروسيا والموسيقي الألماني العظيم يوهان سيباستيان باخ.
في كتابه "أمسية في قصر العقل: باخ يقابل فريدريك الأكبر في عصر التنوير"، يتحدّث جيمس غينيس عن حياة فريدريك وباخ وكيف أن تحدّيا من الملك دفع الملحّن العجوز لتأليف احد أشهر مؤلّفاته بعنوان هديّة موسيقية، والذي يجمع بين الجمال العقلي والسمعي معا.
غينيس ليس أوّل مؤلّف يكتب عن هذه الحادثة المشهورة. فقد سبق وأن وضع دوغلاس هوفستاتر دراسة عن نقاط الشبه الجمالية التي تجمع هذا العمل المتفرّد لـ باخ مع اكتشافات كيرت غودال الرياضية ورسومات إم سي ايشر. وقد نال ذلك الكتاب عن جدارة جائزة البوليتزر. كما أصبح مثالا على الكيفية التي يُستخدم بها النثر البسيط لإيصال الأفكار العميقة بطرق ليست كاشفة فقط وإنما ممتعة أيضا.
القصّة التي يكتب عنها غينيس هي تذكير بأن بعض قادة الأمم في الماضي كانوا يثمنّون الثقافة الرفيعة. كما كان الفنّانون والمبدعون يكتسبون الشهرة من خلال نبوغهم وعبقريتهم، وليس بسبب تلاعب وسائل الإعلام.
يبدأ الكتاب بسرد سيرة حياة موجزة لشخصيّتي كلّ من باخ وفريدريك. ثم ينتقل للحديث عن ليلة السابع من مايو سنة 1747، عندما كان فريدريك يتفحّص قائمة الزوّار الوافدين إلى قصره في بوتسدام ليجد اسم الموسيقي العجوز من ضمن المدعوّين.
وما يحدث بعد ذلك هو ذروة السرد في هذا الكتاب. فالمؤلّف يحاول أن يقيّم الملك والمؤلّف الموسيقي كنموذجين لاتجاهين متناقضين في التقاليد الجرمانية: فريدريك التوسّعي والمتعطّش للسلطة والبروسي الملحد، وباخ اللوثري المتديّن وذو القلب الرحيم ورجل العائلة وصديق الكنيسة وصاحب الإبداع الذي لا تحدّه حدود.
كان فريدريك رجلا عظيما، ما في ذلك شكّ. على الأقل، قبل أن تتحوّل سلطته إلى شكل من أشكال الاستبداد. وكان دوره مشهودا في رعاية وتشجيع بل وممارسة الفنون.
عندما التقى فريدريك باخ، كان الأخير يقترب من نهاية حياته، وهو سيموت بعد ذلك بعامين. لكن الموسيقي العجوز كان، كما هي عادته دائما، عنيدا وغير مصقول. كان مشهورا كموسيقيّ موهوب. وكانت ارتجالاته الطويلة على لوحة المفاتيح تثير إعجاب أوساط الموسيقى. ولكنه، كمؤلّف موسيقي، كان يُصنّف باعتباره منتميا إلى المدرسة القديمة.
فريدريك، من ناحيته، كان عازفا موهوبا على آلة الفلوت. كان وقتها في سنّ الخامسة والثلاثين وفي ذروة قوّته السياسية. فبعد حربين أدارهما ببراعة ضدّ النمسا، استطاع انتزاع أراض من مقاطعة سيليزيا، ما جعل من بروسيا واحدة من أكثر الأمم الأوروبية قوّة ومنعة.
كان هذا الملك المحارب نموذجا عاليا للحاكم المستنير. كما كان مخطّطا استراتيجيا بارعا في ساحات المعارك. أما في قصره، فقد كان نموذجا للذوق الفنّي الجيّد وتقدير الفنّ والإبداع. كان فريدريك قارئا نهما وواسع الاطلاع، خاصّة في الأدب الفرنسي. ولم يكن يتحدّث اللغة الألمانية سوى بالكاد. كما كان صديقا ومراسلا لـ فولتير.
ومنذ سنوات طفولته الأولى، ورغم رفض والده المخبول الملك وليام الأوّل، كان فريدريك محبّا للموسيقى. وقد ألّف في حياته حوالي أربعمائة قطعة موسيقية لآلة الفلوت ما يزال عدد قليل منها يُعزف إلى اليوم.
منذ البداية، اتخذ وليام الأوّل، والد فريدريك، موقفا معاديا من ابنه. كان الاثنان على خلاف دائم لأنهما كانا مختلفين في كلّ شيء. فريدريك كان عاشقا للكتب وللموسيقى ولكلّ شيء فرنسي. ومنذ صغره كان يُرى بشعره المجعّد وملابسه الحريرية وهو يعزف الفلوت والعود بصحبة أخته الحبيبة ويلهلمينا.
يذكر غينيس أن وليام كان يسعى بلا هوادة لأن يصوغ ابنه على صورته، موظّفا في ذلك درجة من العنف قد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الملوك والأمراء.
كان يضرب الصبيّ وهو صغير. واستمرّ في ضربه حتى عندما أصبح رجلا. كان يجلده بالعصا ويسحبه على الأرض ويركله بقدميه. وأحيانا كان يفعل كلّ هذا على مرأى من الحاشية ورجالات البلاط. وبعد إحدى نوبات الضرب، قال الملك العجوز لمن حوله: لو عاملني والدي بمثل هذه المعاملة المهينة، لكنت سارعت إلى تفجير دماغي. لكنّ هذا الرجل لا شرف له".
في كتابه "أمسية في قصر العقل: باخ يقابل فريدريك الأكبر في عصر التنوير"، يتحدّث جيمس غينيس عن حياة فريدريك وباخ وكيف أن تحدّيا من الملك دفع الملحّن العجوز لتأليف احد أشهر مؤلّفاته بعنوان هديّة موسيقية، والذي يجمع بين الجمال العقلي والسمعي معا.
غينيس ليس أوّل مؤلّف يكتب عن هذه الحادثة المشهورة. فقد سبق وأن وضع دوغلاس هوفستاتر دراسة عن نقاط الشبه الجمالية التي تجمع هذا العمل المتفرّد لـ باخ مع اكتشافات كيرت غودال الرياضية ورسومات إم سي ايشر. وقد نال ذلك الكتاب عن جدارة جائزة البوليتزر. كما أصبح مثالا على الكيفية التي يُستخدم بها النثر البسيط لإيصال الأفكار العميقة بطرق ليست كاشفة فقط وإنما ممتعة أيضا.
القصّة التي يكتب عنها غينيس هي تذكير بأن بعض قادة الأمم في الماضي كانوا يثمنّون الثقافة الرفيعة. كما كان الفنّانون والمبدعون يكتسبون الشهرة من خلال نبوغهم وعبقريتهم، وليس بسبب تلاعب وسائل الإعلام.
يبدأ الكتاب بسرد سيرة حياة موجزة لشخصيّتي كلّ من باخ وفريدريك. ثم ينتقل للحديث عن ليلة السابع من مايو سنة 1747، عندما كان فريدريك يتفحّص قائمة الزوّار الوافدين إلى قصره في بوتسدام ليجد اسم الموسيقي العجوز من ضمن المدعوّين.
وما يحدث بعد ذلك هو ذروة السرد في هذا الكتاب. فالمؤلّف يحاول أن يقيّم الملك والمؤلّف الموسيقي كنموذجين لاتجاهين متناقضين في التقاليد الجرمانية: فريدريك التوسّعي والمتعطّش للسلطة والبروسي الملحد، وباخ اللوثري المتديّن وذو القلب الرحيم ورجل العائلة وصديق الكنيسة وصاحب الإبداع الذي لا تحدّه حدود.
كان فريدريك رجلا عظيما، ما في ذلك شكّ. على الأقل، قبل أن تتحوّل سلطته إلى شكل من أشكال الاستبداد. وكان دوره مشهودا في رعاية وتشجيع بل وممارسة الفنون.
عندما التقى فريدريك باخ، كان الأخير يقترب من نهاية حياته، وهو سيموت بعد ذلك بعامين. لكن الموسيقي العجوز كان، كما هي عادته دائما، عنيدا وغير مصقول. كان مشهورا كموسيقيّ موهوب. وكانت ارتجالاته الطويلة على لوحة المفاتيح تثير إعجاب أوساط الموسيقى. ولكنه، كمؤلّف موسيقي، كان يُصنّف باعتباره منتميا إلى المدرسة القديمة.
فريدريك، من ناحيته، كان عازفا موهوبا على آلة الفلوت. كان وقتها في سنّ الخامسة والثلاثين وفي ذروة قوّته السياسية. فبعد حربين أدارهما ببراعة ضدّ النمسا، استطاع انتزاع أراض من مقاطعة سيليزيا، ما جعل من بروسيا واحدة من أكثر الأمم الأوروبية قوّة ومنعة.
كان هذا الملك المحارب نموذجا عاليا للحاكم المستنير. كما كان مخطّطا استراتيجيا بارعا في ساحات المعارك. أما في قصره، فقد كان نموذجا للذوق الفنّي الجيّد وتقدير الفنّ والإبداع. كان فريدريك قارئا نهما وواسع الاطلاع، خاصّة في الأدب الفرنسي. ولم يكن يتحدّث اللغة الألمانية سوى بالكاد. كما كان صديقا ومراسلا لـ فولتير.
ومنذ سنوات طفولته الأولى، ورغم رفض والده المخبول الملك وليام الأوّل، كان فريدريك محبّا للموسيقى. وقد ألّف في حياته حوالي أربعمائة قطعة موسيقية لآلة الفلوت ما يزال عدد قليل منها يُعزف إلى اليوم.
منذ البداية، اتخذ وليام الأوّل، والد فريدريك، موقفا معاديا من ابنه. كان الاثنان على خلاف دائم لأنهما كانا مختلفين في كلّ شيء. فريدريك كان عاشقا للكتب وللموسيقى ولكلّ شيء فرنسي. ومنذ صغره كان يُرى بشعره المجعّد وملابسه الحريرية وهو يعزف الفلوت والعود بصحبة أخته الحبيبة ويلهلمينا.
يذكر غينيس أن وليام كان يسعى بلا هوادة لأن يصوغ ابنه على صورته، موظّفا في ذلك درجة من العنف قد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الملوك والأمراء.
كان يضرب الصبيّ وهو صغير. واستمرّ في ضربه حتى عندما أصبح رجلا. كان يجلده بالعصا ويسحبه على الأرض ويركله بقدميه. وأحيانا كان يفعل كلّ هذا على مرأى من الحاشية ورجالات البلاط. وبعد إحدى نوبات الضرب، قال الملك العجوز لمن حوله: لو عاملني والدي بمثل هذه المعاملة المهينة، لكنت سارعت إلى تفجير دماغي. لكنّ هذا الرجل لا شرف له".
أحيانا كان فريدريك يبدو منصاعا، وأحيانا متحدّيا. وفي سنّ الثامنة عشرة، اتخذ أهمّ قرار، في محاولة لنيل حرّيته. فقد تآمر مع صديقه هانز فون كات، وهو ابن عائلة عسكرية بروسية، على أن يهربا إلى انغلترا ويلتمسا حماية جدّه الملك جورج الأوّل. لكن الخطّة سرعان ما أحبطت. وفي ذروة غضب الأب، فكّر في إعدام ابنه. لكنه بعد ذلك اكتفى بالحكم عليه بالسجن وعلى رفيقه بالإعدام، وبأن تُقطع رأس الأخير تحت نافذة زنزانة فريدريك.
ولم يكن غريبا أن فريدريك كان يتمنّى موت والده العجوز. وقد تحقّق له ذلك عام 1740م. وعندما اعتلى هو العرش كانت الرعيّة تتطلّع إلى التغيير.
كان فريدريك الذي التقاه باخ بعد سبع سنوات من صعوده إلى العرش رجلا بلا أوهام. كان جنرالا صلّبت الحروب عوده. لكنه بنفس الوقت كان شخصية تنويرية يهوى الفلسفة ويعشق الموسيقى والآداب والفنون ويعرف أقدار الرجال جيّدا.
في تلك الليلة، دُهش الملك من ارتجالات باخ العجوز. ثم تحدّاه أن يرتجل "فيوكا" من ستّة أجزاء ألّفها فريدريك بنفسه. كان الملك يدرك أن طلبه أشبه ما يكون بالمستحيل. وكان يظنّ أن باخ سيرحل من ساعته محرجا بعد أن يكتشف عجزه عن مجاراة ذلك التحدّي. لكن باخ خيّب ظنون الجميع وارتجل ما كتبه الملك بأعلى درجات الدقّة والإتقان. وقد ابتهج فردريك بالنتيجة. وعندما عاد باخ إلى ليبزيغ شرع في تأليف ثلاثية لآلات الكمان والفلوت والبيانو وأضاف إليها قطعا أخرى قبل أن يرسلها إلى فريدريك كهديّة موسيقية. ولم ينس أن يمهر الهدية ببعض كلمات المجاملة للملك. هدية باخ الموسيقية تتألّف من إحدى وعشرين نوتة. والكثير من النقّاد يعتبرون هذا العمل احد اكبر الانجازات في تاريخ الموسيقى الغربية.
غينيس يتحدّث في كتابه عن شخصيّتي باخ وفريدريك بقدر محسوب من التوازن. لكنه يميل غالبا إلى كفّة باخ، بينما يقاوم إغراء الحديث بإسهاب عن حياة واحد من أهمّ الشخصيات التي حكمت في أوربّا.
كان فريدريك قائدا رائعا. وكان يهتمّ شخصيا وبشكل مباشر بتسيير الشؤون العامّة لبلاده. وكثيرا ما كان يعمل من الساعة الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. وخلال سنوات السلم، أي قبل نشوب حرب السنوات السبع، بنى المدارس والمستشفيات واستصلح الأراضي وأصلح الاقتصاد.
وقد بقي سحر هذا الرجل العظيم عبر القرون. فبعد عشرين عاما على وفاته، قاد نابليون، بعد احتلاله بروسيا، مجموعة من ضبّاطه إلى قبر فريدريك في برلين. وقال مخاطبا جنوده بعد أن أمرهم بأن يرفعوا خوذاتهم احتراما: لو كان هذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، لما كنّا هنا".
عائلة باخ كان منها أفراد مارسوا الموسيقى بشكل متواضع إلى ما قبل قرن من ولادة يوهان سيباستيان باخ. وقد ولد في العام 1685 في ايزيناك، وهي بلدة مسوّرة في قلب غابات ثورينغيا الكثيفة. في هذا المكان عاش مارتن لوثر وبشّر بتعاليمه طوال المائة وخمسين عاما التي سبقت ولادة باخ.
كانت ايزيناك بلدة صارمة تخاف الله. وحتّى في أيّام باخ، كانت هذه البلدة ما تزال ترنو بوجهها نحو الخلف باتجاه القرون الوسطى. ومثل الكثير من نواحي أوربّا الأخرى، شهدت البلدة من وقت لآخر تفشّي الطاعون والمجاعات والحروب.
حرب الثلاثين عاما التي بدأت في 1618خلّفت مساحات كبيرة من الأراضي المدمّرة. وعندما اضطرّت الجيوش المتصارعة إلى وقف عملياتها بسبب الإنهاك، كان ثلث عدد السكّان قد ماتوا. ولم يبق سوى بضعة آلاف من الإمارات والدوقيات الصغيرة المفلسة تركتها اتفاقية ويستفاليا تحت رحمة القوى الأوربية العظمى التي دفعتها في نهاية الأمر للدخول في معاهدات سلام مختلّة ويائسة.
في مثل تلك الظروف، لم يكن مستغربا أن يلوذ الناس بالدين. والد باخ، يوهان امبروزيوس، كان لوثريّاً متشدّداً، في حين كانت والدته تتبع طائفة متطرّفة من البروتستانت المكروهين من أتباع لوثر وكالفين.
وطوال حياته، كان يوهان سيباستيان متمسّكا بدين والده، وبدرجة اقلّ بدين والدته. وكرّس موسيقاه لتمجيد الله الأعظم. لكنه رغم ذلك لم يكن متوجّها بكليّته نحو الحياة الأخرى. كان يستمتع بالسرير، وقد أنجب عددا كبيرا من الأطفال. كما كان يجد بغيته في الطعام والنبيذ الجيّدين.
ويقال انه كان شخصا غضوبا وعنيدا. كما كان مقاتلا شرسا عن مكانته وسمعته. وقد ساعده في ذلك صلاته الوثيقة بالأمراء ورجال الكنيسة والدولة. كان باخ من ذلك الطراز النادر من الفنّانين الذين لا يفقدون ثقتهم بأنفسهم حتى عندما يواجهون لامبالاة الجمهور وعداوة أقرانهم من أصحاب المهنة.
فريدريك، من جهته، كان نقيضا لـ باخ من عدّة نواحٍ. القاسم المشترك بينهما كان عظمتهما، بالإضافة إلى حبّهما الكبير للموسيقى.
"أمسية في قصر العقل" كتاب مدهش وجادّ وعاطفي في احتفائه بموسيقي استثنائي وعظيم وبقائد يعتبره المؤرّخون احد أكثر الحكّام فتنةً في التاريخ الأوربّي كلّه. "مترجم".
ولم يكن غريبا أن فريدريك كان يتمنّى موت والده العجوز. وقد تحقّق له ذلك عام 1740م. وعندما اعتلى هو العرش كانت الرعيّة تتطلّع إلى التغيير.
كان فريدريك الذي التقاه باخ بعد سبع سنوات من صعوده إلى العرش رجلا بلا أوهام. كان جنرالا صلّبت الحروب عوده. لكنه بنفس الوقت كان شخصية تنويرية يهوى الفلسفة ويعشق الموسيقى والآداب والفنون ويعرف أقدار الرجال جيّدا.
في تلك الليلة، دُهش الملك من ارتجالات باخ العجوز. ثم تحدّاه أن يرتجل "فيوكا" من ستّة أجزاء ألّفها فريدريك بنفسه. كان الملك يدرك أن طلبه أشبه ما يكون بالمستحيل. وكان يظنّ أن باخ سيرحل من ساعته محرجا بعد أن يكتشف عجزه عن مجاراة ذلك التحدّي. لكن باخ خيّب ظنون الجميع وارتجل ما كتبه الملك بأعلى درجات الدقّة والإتقان. وقد ابتهج فردريك بالنتيجة. وعندما عاد باخ إلى ليبزيغ شرع في تأليف ثلاثية لآلات الكمان والفلوت والبيانو وأضاف إليها قطعا أخرى قبل أن يرسلها إلى فريدريك كهديّة موسيقية. ولم ينس أن يمهر الهدية ببعض كلمات المجاملة للملك. هدية باخ الموسيقية تتألّف من إحدى وعشرين نوتة. والكثير من النقّاد يعتبرون هذا العمل احد اكبر الانجازات في تاريخ الموسيقى الغربية.
غينيس يتحدّث في كتابه عن شخصيّتي باخ وفريدريك بقدر محسوب من التوازن. لكنه يميل غالبا إلى كفّة باخ، بينما يقاوم إغراء الحديث بإسهاب عن حياة واحد من أهمّ الشخصيات التي حكمت في أوربّا.
كان فريدريك قائدا رائعا. وكان يهتمّ شخصيا وبشكل مباشر بتسيير الشؤون العامّة لبلاده. وكثيرا ما كان يعمل من الساعة الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. وخلال سنوات السلم، أي قبل نشوب حرب السنوات السبع، بنى المدارس والمستشفيات واستصلح الأراضي وأصلح الاقتصاد.
وقد بقي سحر هذا الرجل العظيم عبر القرون. فبعد عشرين عاما على وفاته، قاد نابليون، بعد احتلاله بروسيا، مجموعة من ضبّاطه إلى قبر فريدريك في برلين. وقال مخاطبا جنوده بعد أن أمرهم بأن يرفعوا خوذاتهم احتراما: لو كان هذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، لما كنّا هنا".
عائلة باخ كان منها أفراد مارسوا الموسيقى بشكل متواضع إلى ما قبل قرن من ولادة يوهان سيباستيان باخ. وقد ولد في العام 1685 في ايزيناك، وهي بلدة مسوّرة في قلب غابات ثورينغيا الكثيفة. في هذا المكان عاش مارتن لوثر وبشّر بتعاليمه طوال المائة وخمسين عاما التي سبقت ولادة باخ.
كانت ايزيناك بلدة صارمة تخاف الله. وحتّى في أيّام باخ، كانت هذه البلدة ما تزال ترنو بوجهها نحو الخلف باتجاه القرون الوسطى. ومثل الكثير من نواحي أوربّا الأخرى، شهدت البلدة من وقت لآخر تفشّي الطاعون والمجاعات والحروب.
حرب الثلاثين عاما التي بدأت في 1618خلّفت مساحات كبيرة من الأراضي المدمّرة. وعندما اضطرّت الجيوش المتصارعة إلى وقف عملياتها بسبب الإنهاك، كان ثلث عدد السكّان قد ماتوا. ولم يبق سوى بضعة آلاف من الإمارات والدوقيات الصغيرة المفلسة تركتها اتفاقية ويستفاليا تحت رحمة القوى الأوربية العظمى التي دفعتها في نهاية الأمر للدخول في معاهدات سلام مختلّة ويائسة.
في مثل تلك الظروف، لم يكن مستغربا أن يلوذ الناس بالدين. والد باخ، يوهان امبروزيوس، كان لوثريّاً متشدّداً، في حين كانت والدته تتبع طائفة متطرّفة من البروتستانت المكروهين من أتباع لوثر وكالفين.
وطوال حياته، كان يوهان سيباستيان متمسّكا بدين والده، وبدرجة اقلّ بدين والدته. وكرّس موسيقاه لتمجيد الله الأعظم. لكنه رغم ذلك لم يكن متوجّها بكليّته نحو الحياة الأخرى. كان يستمتع بالسرير، وقد أنجب عددا كبيرا من الأطفال. كما كان يجد بغيته في الطعام والنبيذ الجيّدين.
ويقال انه كان شخصا غضوبا وعنيدا. كما كان مقاتلا شرسا عن مكانته وسمعته. وقد ساعده في ذلك صلاته الوثيقة بالأمراء ورجال الكنيسة والدولة. كان باخ من ذلك الطراز النادر من الفنّانين الذين لا يفقدون ثقتهم بأنفسهم حتى عندما يواجهون لامبالاة الجمهور وعداوة أقرانهم من أصحاب المهنة.
فريدريك، من جهته، كان نقيضا لـ باخ من عدّة نواحٍ. القاسم المشترك بينهما كان عظمتهما، بالإضافة إلى حبّهما الكبير للموسيقى.
"أمسية في قصر العقل" كتاب مدهش وجادّ وعاطفي في احتفائه بموسيقي استثنائي وعظيم وبقائد يعتبره المؤرّخون احد أكثر الحكّام فتنةً في التاريخ الأوربّي كلّه. "مترجم".