:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 31، 2011

الطبيعة من منظورين مختلفين


من الرائع حقّا أن ندرك مدى سرعة العقل في "رؤية" ما يحتاج لرؤيته. الباحث الأمريكي في الدراسات السلوكية راي هيربرت كتب مقالا جميلا يتحدّث فيه عن طريقة معالجة الدماغ لما يراه في الطبيعة، وكيف أن الإنسان، ومن خلال نظرة سريعة وعابرة، يمكنه استنباط أكثر المعلومات قيمة وأهمّية بفضل تطوّر الدماغ عبر العصور.
يقول الكاتب: تخيّل، مثلا، أنك وصلت بالحافلة إلى بقعة من الطبيعة لم تذهب إليها من قبل. تترجّل من الحافلة وتبدأ بالنظر حولك. ما الذي ستلاحظه للوهلة الأولى؟ في البداية، لا يمكنك أن تتجاهل البحيرة الكبيرة الممتدّة أمامك. قد يكون التزلّج على الماء باعثا للمتعة هنا. ثم هناك الجبال المغطّاة بالثلوج والتي تلوح من مسافة. وهناك أيضا مجموعة الأشجار البرّية التي تقوم إلى اليسار. الطقس في المكان يبدو مثاليا والطبيعة مضيافة.
والآن تخيّل أنك مجرم هارب من العدالة وأنك تخطو خارج تلك الحافلة إلى المكان نفسه. ما الذي ستراه؟ في الغالب سترى مساحة واسعة ومفتوحة. وباستثناء تلك المجموعة الصغيرة من الأشجار، لا توجد هنا العديد من الأماكن التي تصلح للاختباء. سيداهمك شعور بالانكشاف والضعف. الماء يصبح مجرّد عقبة بينك وبين الحرّية التي يمكن أن تظفر بها في الجبل الذي يقع إلى الخلف. ستسأل نفسك إن كان يوجد ممرّ يقود إلى الجبل. ستلاحظ وجود بنيان من صنع الإنسان، وستعتبره تهديدا دائما لك.
المنظر الطبيعي نفسه، لكن من منظورين مختلفين وفي لمحة سريعة. هذا هو بالضبط ما يمكن أن يراه السائح والمجرم في الواقع. والسبب في ذلك يعود إلى أن الرؤية مسألة متجذّرة بشكل حميمي في مخاوفنا وفي استراتيجياتنا القديمة من أجل البقاء. أدمغتنا ظلّت تتطوّر دائما عندما كانت هناك مخاطر تهدّد الإنسان في كلّ مكان. لذا فنحن مهيّئون تماما لاستخراج أكثر المعلومات معنى وأهمية من خلال اللمحة الخاطفة.
النظرة الطويلة والعالقة قد تكون قاتلة أحيانا. المحكومون الهاربون "مثل أسلافنا القدامى" لم يكونوا يملكون ترف ملاحظة التفاصيل، كالأشجار أو البحيرات والجبال. الحاجة والرغبة في الأمان تنسخ كلّ التفاصيل الأخرى في عين العقل.
ويضيف الكاتب أن اليقظة والحذر عنصران منزرعان في أعماق خلايانا العصبية. وهذه هي النظرية التي يختبرها الآن بعض العلماء الذين يريدون أن يستكشفوا كيف نرى العالم الطبيعي في جزء من الثانية عند أوّل تماسّ لنا مع الطبيعة. وما هي المعلومات الضرورية والمميّزة جدّا بحيث يلزم معالجتها على الفور. ثمّ ما هي المعلومات التي تضاف في وقت لاحق ونحن نواصل استكشاف الأرض الجديدة؟
علماء النفس الذين يدرسون هذه المسألة طلبوا من المتطوّعين النظر إلى مئات الصور الفوتوغرافية الملوّنة لمشاهَد طبيعية مختلفة. ثم طلبوا من قسم منهم تصنيف تلك المناظر وفقا للسمات الجغرافية الشائعة، مثل المحيطات والغابات والحقول والأنهار. بينما طلبوا من الآخرين تصنيف تلك المناظر بحسب مميّزات البقاء الأساسية، مثل سهولة التنقّل والانفتاح ودرجة الحرارة. وبعد ذلك احتسب الباحثون كم لزم المتطوّعين من الوقت لتصنيف كلّ ملمح وصولا إلى جزء من الثانية.
واتّضح في النهاية أن مميّزات البقاء تمّت معالجتها بشكل فوريّ تقريبا، وبسرعة تسعة عشر جزءا من الألف في الثانية. السمات الجغرافية تمّت معالجتها، هي أيضا، ولكن بسرعة أبطأ نسبيا مقارنة مع التصوّر التلقائي عن الأشياء، كالمساحات المفتوحة وطرق الهرب.
وقد ثبت علميا، والكلام ما يزال لـ راي هيربرت، أن دماغ الإنسان يكون في أسرع حالاته عندما يصنّف أيّ منظر طبيعي على انه "طبيعة"، مقابل تلك المناظر التي هي من صنع الإنسان. وعلى ما يبدو، فإنه، وعلى مرّ دهور من التطوّر، ارتبط الدماغ ارتباطا وثيقا بعالم الطبيعة. ولكنه لم يرتبط بعد، بنفس القدر، بالعالم المتحضّر الذي ما يزال يحتاج إلى تحليل أبطأ لفهمه. ولهذا، بإمكان الإنسان أن يعرف أن المنظر الذي أمامه هو منظر طبيعي حتى قبل أن "يرى" الجبال والمروج والشلالات التي تمنحه "طبيعيّته".