:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، نوفمبر 20، 2011

لوتريك وأفريل: الرسّام وملهمته


اقترن اسم جان افريل بالرسّام الفرنسي هنري دي تولوز لوتريك. كان الاثنان قد التقيا في أوائل عام 1890م، عندما بدأت افريل تقديم رقصاتها المبتكرة في المولان روج. وقد رسمها في العديد من لوحاته وأفرد لها جانبا مهمّا من مجموعة أعماله التي يصوّر فيها حلبات الرقص وقاعات الموسيقى وحياة النوادي الليلية. كانت افريل صديقة لوتريك المقرّبة وملهمته الخاصّة. ولوحاته التي رسمها لها لا علاقة لها بالأجواء المبهجة والصاخبة التي تطبع أعماله عموما.
رقصات افريل الغريبة ولوحات لوتريك التي تظهر فيها بتعابير جامدة وملامح حزينة كانت جزءا من التوتّرات الثقافية التي شهدتها باريس في نهايات القرن قبل الماضي.
ترى، ما الذي رآه لوتريك في وجه جان افريل؟ ولماذا فضّل أن يرسم شخصيّتها الخاصّة بعيدا عن حياة الرقص والليل؟

في مايو من عام 1894، كان شابّ فوضوي يُدعى اميل هنري يغادر غرفته الصغيرة في حيّ مونمارتر باتجاه شوارع الموضة القريبة من سان لازار في باريس. دخل الشابّ الغاضب والعاطل عن العمل مقهى تيرمينوس الأنيق بينما كان يخبّئ تحت معطفه قنبلة.
وفي الداخل، قام بإشعال الفتيل وألقى بالقنبلة وسط المقهى. وقد انفجرت وسط جموع الناس المنهمكين بالشراب والأحاديث، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ما يقرب من عشرين شخصا آخرين بجروح.
كانت باريس في ذلك الوقت قد شهدت عددا من التفجيرات على أيدي عناصر فوضوية. لكن هذا الهجوم كان غير مسبوق، لأنه استهدف مدنيين وليس رجال شرطة أو مسئولين حكوميين. وقد تمّ القبض على هنري وحوكم بسرعة ثم اُعدم بالمقصلة. وطبقا للمؤرّخة ماري ماكوليف، لم يعتذر هنري عن جريمته. وعندما وبّخه القاضي على إيذائه أناسا أبرياء ردّ قائلا: لا يوجد برجوازيون أبرياء".
في ذلك الربيع، كان هناك انفجار آخر في فرنسا على هيئة راقصة تُدعى جان افريل. كانت تلك المرأة النحيلة قد بدأت للتوّ أداء رقصاتها النشطة والفريدة في المولان روج. كانت افريل ذات شعر احمر داكن. وهيئتها تشبه إلى حدّ ما صُور نيكول كيدمان في فيلم المولان روج الذي أنتج قبل حوالي عشر سنوات.
انجذاب تولوز لوتريك إلى أماكن الترفيه الناشئة التي تعرض ضروبا من التسلية المنحلّة، مثل الكباريهات وقاعات الرقص، يعود في جانب منه إلى مكانته الهامشية في المجتمع الباريسي. كان هذا الفنّان قد ولد لأسرة أرستقراطية. لكن مرضا أصابه في طفولته فشوّهه وجعله يبدو صغير الهيئة وضئيل الجسم.
كان لوتريك يواجَه في الكثير من الأحيان بالرفض في تلك الأماكن التي كان مفترضا أن ترحّب به نظرا لمكانة عائلته. وقد دفعه إحساسه بالنبذ لأن يحوّل اهتمامه إلى عالم باريس السفلي الذي جعله موضوعا لفنّه الفريد. وكان النقّاد غالبا يلمّحون إلى تشوّهاته الجسدية للنيل من عمله والانتقاص من موهبته.
فنّ تولوز لوتريك يشير إلى رجل عانى الكثير خلال حياته. وقد وجد أخيرا طريقة ينتقم بها من المجتمع الذي ظلمه وهمّشه. قال عنه احد النقّاد آنذاك: إن المرء لا بدّ وأن يفاجأ بمناظر القبح التي يمجّدها لوتريك في لوحاته التي يستعير شخصياتها من قاعات الرقص والأحياء الفقيرة في الشوارع الخلفية".
لوحات لوتريك تتميّز بأسطحها المستوية وضربات الفرشاة السريعة فيها والتي تشبه لوحات معاصرَيه فان غوخ وسيزان. كانت صالونات الفنّ الرسمية في باريس ترفض أعماله باستمرار. وكان الكثيرون يعتبرونها علامة على انحلال باريس في ذلك الوقت.
المحافظون المدافعون عن التقاليد كانوا يتعاملون مع كلّ شيء جديد بالاعتراض والرفض. وكانوا يحاذرون ممّا يعتبرونه فوضى ثقافية. وبدا أن هؤلاء كانوا يستهدفون، على وجه الخصوص، الفنّ الحديث وانحطاط حفلات الرقص في مونمارتر. وفي هذا المناخ، ظهرت قضيّة دريفوس لتزيد هيجان المشاعر الوطنية والمعادية لليهود.


كان لوتريك يركّز في لوحاته على تصوير مشاهد الترفيه والتسلية بأسلوب لا يخلو من التخلّع والمجون. وحدها جان افريل صوّرها لوتريك بشكل مختلف. فملامحها وتقاطيع وجهها تعكس حالات من الاستلاب والحزن. وهي بالتأكيد لا توحي بأيّ شعور بالفرح أو الابتهاج.
في إحدى أشهر لوحاته بعنوان جان افريل تغادر المولان روج، يرسم لوتريك افريل المتعبة والمنبوذة. تعابير وجهها تحمل حزنا لا يُصدّق. وأنت تتمعّن في هذه الصورة لا بدّ وأن تحسّ بضجر هذه المرأة الشابّة التي ترقص لإمتاع الآخرين، بينما تساورها رغبة خفيّة لأن تهرب من هذا الوجود الذي يطلب منها ما لا تستطيع تحمّله.
كانت جان افريل امرأة تتصف بالذكاء الممزوج بشيء من العصبية. وعندما رسم لها لوتريك هذا البورتريه لم يكن عمرها يتجاوز الرابعة والعشرين. ومع ذلك صورّها بشفتين مشدودتين ووجه منقبض، كما لو أنها امرأة في الخمسين.
حياة افريل المبكّرة تختلف كثيرا عن التنشئة الارستقراطية لـ تولوز لوتريك. فقد تعرّضت منذ الصغر لسوء معاملة أمّها، ما دفعها لمغادرة البيت وهي في سنّ الثالثة عشرة. كانت تعاني من مرض تصلّب العضلات. وقد أدخلت مستشفى متخصّصا في علاج الهستيريا واضطرابات الجهاز العصبي عند النساء.
إحدى وسائل العلاج في ذلك المستشفى كانت إلباس المرضى ثيابا خاصّة وجعلهم يؤدّون أنواعا من الفنون أمام جمهور من أفراد الطبقة المتوسطة. وبعد سنتين من العلاج، غادرت افريل المستشفى بعد أن تراجعت آثار الاضطراب العصبي وأصبحت تؤدّي رقصاتها في المولان روج الذي كان قد افتتح حديثا في ذلك الحين.
نجاح افريل على المسرح كان مبنيّا في جزء منه على جاذبية اختلالاتها وصِفاتها الغريبة. وقد ألهمت طريقتها في الرقص عددا من الكتّاب الذين كانوا يرون فيها جزءا من ثقافة أوسع. الفضول لمعرفة أشياء خارج نطاق المظهر الطبيعي كان ظاهرة سيطرت على المشهد الفنّي والثقافي في باريس مطلع القرن الماضي. كان الناس مفتونين وقتها بالجماليات غير التقليدية وبكلّ ما هو بدائي ومجنون.
لوتريك لم يعامل فنّانة بمثل التكريم والاحترام اللذين كانا يخصّ بهما جان افريل. كان حريصا على أن يُبرز في لوحاته وجهها الطويل والجميل وملابسها المحكمة والأنيقة.
وهو لم يكن يرسمها كنجمة لامعة، وإنما كامرأة حزينة ووحيدة ويائسة. والسخرية الكاريكاتيرية التي تطبع لوحاته عادة يستبدلها بتعاطفه وإعجابه بموهبة هذه المرأة محاولا إظهار عزيمتها وشجاعتها المعنوية.
المكانة الهامشية كانت عاملا مشتركا بين كلّ من افريل وتولوز لوتريك.
ويبدو أن الاثنين تشرّبا القواعد البرجوازية وتمثّلاها جيّدا. وقد أنتج كل منهما قيما جمالية جديدة غطّت على تقاليد وحساسيات تلك الفترة.
وبينما توفّي تولوز لوتريك بسبب إدمان الكحول في عام 1901 وقبل بلوغه السابعة والثلاثين، غادرت جان افريل المسرح نهائيا بعد موته بوقت قصير وتزوّجت وعاشت حياة هادئة نسبيا إلى حين وفاتها في العام 1943م. "مترجم".