:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 11، 2011

خواطر رمضانية


شدّتني هذه الصورة كثيرا. وهي ابلغ من أيّ كلام يمكن أن يُقال. بداية، يمكن أن نقدّر أن هذه السيّدة تجاوزت المائة عام من عمرها. وخلافا لما قد يظنّه الناظر، هي ليست مجنونة ولا مصابة بخرف عقلي. بل هي في تمام حواسّها وكمال عقلها.
قصّة هذه الصورة الايقونية تعود إلى بضع سنوات خلت، وبالتحديد إلى ذروة احتدام الصراع بين الأرمن والآذاريين على إقليم قره باخ الواقع على الحدود بين البلدين. لاحظ نظرات هذه العجوز الأرمنية وعينيها اللتين تلتمعان بالتوجّس والتحدّي والحذر بينما تقوم بحراسة بيتها. ثم تأمّل حركة يديها وهي تمسك بالكلاشنيكوف وأصابعها مثبّتة على الزناد.
ذكّرتني هذه الصورة المعبّرة بصورة ايقونية أخرى. لكن هذه الصورة الأخيرة أشدّ إيلاما وأثقل على النفس وأبلغ كثيرا من حيث دلالتها وقوّتها التعبيرية. إنها صورة تلك العجوز الفلسطينية التي تتشبّث بجذع شجرة زيتون وليس معها من سلاح سوى يديها العاريتين بينما تحاول بيأس منع جنود الاحتلال الصهيوني من اقتلاع الشجرة.
البيت والشجرة هما رمز للوطن الكبير. وحبّ الأوطان والدفاع عنها غريزة فُطر عليها الإنسان منذ الأزل. وعلى ما يبدو، فإن هذه الغريزة تشتدّ وتقوى كلما تقدّم الإنسان في العمر. وأظنّ انه لو كان لدى العجوز الفلسطينية سلاح في تلك اللحظة لما تردّدت في استخدامه، لإحساسها بأن شيئا عزيزا يرمز لوجودها نفسه يتعرّض للتهديد وبأنه لم يعد لديها ما تخسره إن هو ضاع أو فُقد.

❉ ❉ ❉


بعض قصص التراث تقرؤها فتتخيّل أنها مقتطعة من فيلم هندي حافل بمشاهد الإثارة والفانتازيا، لما تتضمّنه من مفارقات وصُدف غريبة يصعب تصديقها.
من هذه القصص واحدة رواها الأصمعي. يقول: بينما كنت أسير في بادية الحجاز، إذ مررت بحجر كُتب عليه هذا البيت:
أيا معشر العُشّاق بالله خبّروا
إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنعُ؟
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
يداري هواهُ ثمّ يكتم سرّهُ
ويخشع في كل الأمور ويخضعُ
ثم عاد في اليوم التالي إلى المكان نفسه فوجد تحت البيت الذي كتبه هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كلّ يوم قلبه يتقطّعُ؟
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّهِ
فليس له شيء سوى الموت ينفعُ!
وهنا يأتي دور المليودراما كي تضع نهاية للقصّة تمتزج فيها السوريالية بالتراجيديا الفاقعة. يقول الأصمعي: فعدتُ في اليوم الثالث إلى الصخرة فوجدت شابّا ملقى تحتها وقد فارق الحياة وقد كتب في رقعة من الجلد هذين البيتين:
سمعنا أطعنا ثمّ مِتنا فبلّغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنعُ
هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرّعُ!
مثل هذه النوع من القصص الخيالية مبثوثة بكثرة في كتب التراث. وهي ولا شكّ تعبّر عن مخيّلة واسعة ومقدرة فائقة على التصوير الدرامي. كما أنها توفّر مادّة للمتعة والتسلية بصرف النظر عن مدى واقعيّتها أو مصداقيّتها.

❉ ❉ ❉


في رمضان يحسن قراءة بعض الكتب الخفيفة. وحاليا اقرأ كتابين. الأوّل عنوانه "رحلة إلى تحقيق الذات" للكاتب الهندي بارام يوغاناندا. يقول الكاتب في احد فصول هذا الكتاب الممتع: تعلّم كيف تسيطر على انفعالاتك. إن احد الأسباب المهمّة والموجبة للغضب والثورة هو الكلام القاسي. لا تغتب الآخرين أبدا ولا تتحدّث بحقّهم حديثا مُسيئا. مارس خطابا هادئا ورقيقا، ولا تكن شخصا مشاكسا أو مُغرما بالخصومة. إذا أثار احد غضبك أو أفقدك أعصابك، فلا تردّ بنفس الطريقة. من الأفضل أن تظلّ هادئا إلى أن يسكن غضبك. تجنّب العناد، وفي نفس الوقت إمتنع عن مشاجرة الآخرين. لا تدع أحدا يسرق منك سلامك الداخلي. وفي المقابل، لا تسرق من الآخرين طمأنينتهم بإيذائهم لفظياً والتعدّي على مشاعرهم".
ويمضي الكاتب فيقول: إن إساءة استخدام الكلام هو احد أمضى الأسلحة وأكثرها فتكاً. قد تقول شيئا وأنت غاضب أو منفعل دون أن تقصده، وبعدها تشعر بالندم. لكن لعشرين سنة أو ربّما أكثر، سيظلّ الشخص الآخر يتذكّر ما قلته. إن القلب يطلب الحبّ الحقيقي والصداقة، وفوق كلّ شيء، السلام. وعندما يتدمّر سلامنا الداخلي بالانفعالات، فإن هذا يُعتبر تدنيساً لمعبد الجسد. النظام العصبي السليم هو ما يحافظ على جميع أعضاء الجسد والمشاعر بحالة سليمة. ولكي تحافظ على سلامة أعصابك، من المهم أن تحرّر نفسك من المشاعر المدمّرة مثل الخوف والغضب والغيرة والحسد والانتقام والطمع".
الكتاب الثاني موضوعه خفيف أيضا. وهو يحكي عن "الشاهنامة"، أشهر ملحمة فارسية. وأهميّة هذا الكتاب انه يروي جزءا من تاريخ إيران القديم. ملحمة الشاهنامة تذكّرنا إلى حدّ كبير بتغريبة بني هلال والزير سالم في الأدب العربي. وهي، أيضا، تزدحم بالكثير من القصص الشعبية الجميلة والحكايات الخيالية المُصاغة في قالب شعري. ومؤلّفها هو الشاعر الفارسي الكبير الفردوسي الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي. ومن أشهر وأجمل القصص التي تتناولها الملحمة قصّة الأمير الشجاع اصفنديار ومعركته الشرسة مع البطل رستم. في القصّة يعود الأمير اصفنديار وريث العرش منتصرا من حملته العسكرية ضد الشاه تُوران. فقد نجح في قتل ارجاسب عدوّ العرش الأوّل وأسر عائلته. كما استولى على ثرواته وحرّر شقيقته من الأسر "أي شقيقة اصفنديار".
هنا يتوقّع اصفنديار من والده الشاه غوشتاسب أن يحتفي به ويتنازل له عن العرش برّا بقسمه الذي أدّاه من قبل. لكن الشاه الأب لا يُبدي أيّ استعداد بعد لأن يفي بوعده. ويشترط على ابنه أن يقوم بمهمّة أخرى كشرط للتنازل عن العرش. والمهمّة هي إعادة البطل رستم إلى البلاط مقيّدا بالأغلال. غير أن اصفنديار يدرك في قرارة نفسه أن تلك ليست أكثر من خدعة لجأ إليها والده للتخلّص منه. لكنه لا يستطيع عصيان أوامر أبيه على كلّ حال.
الشاهنامة تمتلئ بالأحداث الحربية ومشاهد القتل وقصص الحبّ، وصولا إلى العبرة النهائية وهي أن هزيمة وإذلال الأبطال الوطنيين خطيئة ينبغي تجنّبها وعدم الوقوع فيها تحت أيّ ظرف. والفكرة الانتقادية التي تنطوي عليها الملحمة هي كشف حيل وألاعيب الملوك الذين يستغلّون شجاعة وولاء أبطالهم من اجل خدمة غاياتهم وأهدافهم الأنانية.