:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، ديسمبر 07، 2024

الرحلة الخيالية للإسكندر


مرّت قصّة وشخصية الإسكندر الأكبر بالكثير من التحوّلات في النصوص الشعرية والنثرية الشرقية على مدى ألف عام. وأكثر ما يلفت الانتباه في الأعمال المختلفة التي تناولت الموضوع هو مسار الرحلة الخيالي للبطل، أي الاسكندر، وخاصّة فيما يتعلّق بعلاقاته بالملكات من النساء اللاتي التقاهنّ أثناء حملاته العسكرية.
وأقدم معالجة شعرية معروفة للقصّة هي ملحمة الشاهنامة للفردوسي التي كُتبت حوالي عام 1010 م، ويظهر فيها الإسكندر ضمن سلسلة الملوك الإيرانيين القدماء. وعلى ما يبدو فإن مؤلّفي الروايات اللاحقة كانوا على دراية بعمل الفردوسي، لكنهم صوّروا شخصية الإسكندر بحرّية فنّية أكبر. وعلى رأس هؤلاء يأتي الشاعر نظامي في كتابه "اسكندرنامه"، أو كتاب الاسكندر (1202)، وهو مزيج من الملحمة والرواية الرومانسية.
ونظامي هو أحد أبرز شخصيات الشعر المكتوب بالفارسية. وقد عاش في أذربيجان في النصف الثاني من القرن الثاني عشر واشتهر بأنه شاعر صعب ومصقول، وشعره يتضمّن مفردات وتعبيرات وإشارات إلى العلوم المعروفة آنذاك. وفي كتابه عن الاسكندر، يصف نظامي مغامرات ومعارك القائد اليوناني أثناء سفره إلى نهاية العالم. وهو يقدّمه كبطل إسلامي، على غرار ما فعله كتّاب آخرون مثل أمير خسرو دهلوي وعبد الرحمن جامي.
والإسكندر في كتاب نظامي ينتقل بسهولة من كشمير، حيث يتزوّج ابنة الملك ماهافرين، إلى سيلان ثم إلى مكّة واليمن ومصر والأندلس والصين. ويصف النصف الثاني من الكتاب المزيد من المغامرات الخيالية مع المخلوقات الأسطورية وأوصاف العجائب. ويخصّص المؤلّف جزءا لا بأس به من السرد للحديث عن صراع الإسكندر مع "أراكيت" ملكة الفرس وزواجه منها لاحقاً.
ثم يتحدّث نظامي بتفصيل أكثر عن "نوشابا"، ملكة أرض "باردا" القوقازية، التي التقاها الاسكندر وهو في طريقه إلى بلاد الظلام. في البداية يصف الشاعر "باردا" بأنها جنّة أرضية وتبدو وكأنها معبد للأصنام. ويقارنها بـ "هاروم" أرض الأمازونيات في نصّ الفردوسي. ويسمع الإسكندر عن الملكة وأسلوب حياة أهل تلك الأرض وجميعهم من النساء الجميلات العفيفات.
ويقرّر الإسكندر أن يسير بجيشه إلى الملكة ليطلب منها أن تدعم حملاته. ويقيم له مخيّما بالقرب من أرضها. وعندما تعلم "نوشابا" عن مجيئه تبعث له بهدايا، ما يثير فضوله لاكتشاف سرّ هذه المرأة ومكانها الأسطوري. ثم يتخفّى على هيئة رسول من الاسكندر ويعِدّ نفسه كما يفعل الرسل ويتوجّه إليها في مكانها.
عندما علمت "نوشابا" عن وصول رسول الاسكندر الى مملكتها، زيّنت البلاط والطريق المؤدّي إليه وصفّت الفتيات المزيّنات بمختلف أنواع الزينة، ثم أمرت بإدخال الرسول عليها. فدخل الاسكندر وهو في هيئته المتنكّرة تلك واتجه كالأسد الهصور نحو عرشها، دون أن يخلع سيفه أو ينحني كما يفعل الرسل، ما دفع الملكة للشكّ في أمره.
كان من عادة "نوشابا" أن تحتفظ بصور العظماء. وعندما سمعت عن الإسكندر وشجاعته وفتوحاته وانتصاراته في الحروب وميله إلى الإصلاح، كلّفت أحد رسّاميها ليرسم له صورة تكون ضمن كنزها من الصور الشخصية. وكانت تلك الصورة عندها. فاستمهلت الرسول لبعض الوقت، ثم أحضرت الصورة وأخذت تقارنها بملامح وجهه، وتأكّدت أخيرا أنه الإسكندر. ثم صارحته بما في نفسها فأنكر. فأرته صورته، ولمّا رآها خاف واصفرّ لونه ووقع في حرج.


وعندما عرفت "نوشابا" أن الرجل القويّ قد خاف، تلطّفتْ معه وقالت له: أيّها الملك الشجاع! كم أحدث الدهر مثل هذه الحيل! أرجو ألا تفكّر في شيء، واعلم أن صداقتي لك أكثر من أيّ شيء آخر، وأن هذا المنزل منزلك وأنّي لك جارية مطيعة وخادمة منقادة، سواءً في ديارك أو في دياري".
ثم طلبت أن تقام للاسكندر وليمة على شرفه، ودعته للجلوس بجانبها على عرش من الذهب يحيط بهما خدم وموسيقيون. وأسرّت الى خدمها بأن يعدّوا للضيف مأدبة كبيرة عبارة عن أطباق من الأحجار الثمينة بدلاً من الطعام الحقيقي. وعندما اكتشف الاسكندر ذلك وقع في حيرة من تصرّف الملكة، فضحكت وسألته بدهاء: لماذا لا تأكل ما قضيتَ حياتك كلّها في السعي وراءه؟!" ويفاجأ الإسكندر بذكاء الملكة فيمتدحها ويثني على حكمتها.
وبعد أن انتهى الاسكندر وحاشيته من تناول طعام حقيقي، أهدته الملكة الكثير من الهدايا القيّمة والعظيمة، وانصرف الاسكندر من عندها شاكرا مسرورا. ثم سار باتجاه جبال البرز، بينما كان رجاله يحملون هداياه معهم ويسيرون ببطء لكثرة ما كان معهم من الجواهر والذهب إلى أن شعروا بالمشقّة والتعب. فشاور الإسكندر أصحابه في أمر تلك الهدايا، فأشاروا عليه بدفنها تحت الأرض وإقامة طلسم عليها كعلامة.
وواصل الاسكندر سيره حتى فتحَ قلعة دربند وأجلسه الأهالي على عرش كسرى ونثروا الأموال تحت قدميه وقدّموا له خمر الظفر في الكأس التي كان الملوك القدماء يشربون فيها الخمر.
ثم ذهب إلى الهند عن طريق خراسان، وكان ملكها قد قرأ رسالته، فأرسل إليه الهدايا، على أن يتعهّد له بعدم الإغارة على بلاده. وكانت الهدايا أربعاً ذكرها نظامي على لسان الملك: أبعثُ ابنتي إليك وهي فتاة جميلة كالشمس المشرقة وكالقمر المنير، وأرسلُ كأسا من الشراب نادر الوجود لا ينقص الشرب منه شيئا، وأبعثُ اليك فيلسوفا يحلّ شتّى المعضلات، وطبيبا عاقلا بارعا يجعل المرضى أصحّاء". ويقبل الإسكندر الهدايا ويتعاهد مع الملك، ثم يسير من الهند إلى التبت ومنها إلى أقاصي الصين.
وفي الطريق، أتى الاسكندرَ رسل من أرمينيا وأخبروه بأن الروس قد هجموا على أرض "نوشابا" فحطّموا ملكها وأسروها. فقرّر الانطلاق في حملة كبرى ضدّ الروس ودارت بين الجانبين سبع معارك انتهت بانتصار الإسكندر. وقد هُزِم الروس وقُتل منهم خلق كثير.
ونظامي يُجمِل نتيجة تلك الحرب بقوله: أمعنَ جيش الإسكندر في الروس قتلا وشنقا وأسراً. وخلّص الإسكندر "نوشابا" من الأسر وأعاد مملكتها إليها. وفي خطوة غريبة زوّجها إلى ملك أبخازيا وودّع الاثنين مشفوعين ببركاته. وقد غنم الاسكندر من تلك الحرب مغانم كثيرة وعلم أنه أصبح قريباً من بلاد الظلام، حيث يوجد ماء الحياة، فسُرّ بذلك وأظهر الكثير من الفرح والغبطة.
ثم سار في الظلام باحثا مع الخِضر عن ماء الخلود. وعندما وجد الخضر عين الماء، نزل وخلع ملابسه واستحمّ في مائها وشرب منه بقدر ما استطاع، فأصبح جديراً بالحياة الأبدية. أمّا الإسكندر فقد تاه في الطريق وظلّ يبحث عن الخِضر والعين أربعين يوماً، فلم يعثر لهما على أثر. وسمع في الظلمة هاتفاً يدعوه للعودة فعاد. ولمّا وصل إلى بلاد اليونان، كان قد حصل على مفتاح السعادة، لأنه أفاد من رحلته علما كثيراً وفُتح له باب الحكمة الإلهية.

Credits
nizamiganjavi-ic.org/en
blogs.bl.uk