:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، سبتمبر 08، 2024

الشعر الأسود


"الشعر الأسود" واحدة من أربع قصص منفصلة يتضمّنها الفيلم الياباني "كايدان" من إخراج ماساكي كوباياشي (1964). وتبدأ القصّة بمشهد لمحارب ساموراي يمرّ بوقت عصيب، إذ يجد نفسه فجأة بلا عمل في كيوتو، العاصمة القديمة لليابان. ونرى زوجته المحبّة والوفيّة وهي تعمل بجدّ في النسج على نول في منزلهما من أجل تحسين معيشتهما.
لكن الساموراي الزوج لديه خطط أخرى، ويريد أن يترك زوجته بحثا عن مراعٍ أكثر خضرة. ويرفض بقسوة توسّلات الزوجة له بأن يبقى الى جوارها. ويبحث الساموراي عن امرأة أخرى ثريّة توفّر له المكانة ووظيفة مرموقة مع الحاكم. وفعلا يجد الزوجة الثريّة التي يبحث عنها. لكن زوجته الجديدة لا تشبه زوجته السابقة. فهي أنانية وقاسية ولامبالية ومتغطرسة.
وتمرّ سنوات، يتذكّر خلالها بحنين زوجته الأولى التي اعتادت العمل باستمرار حتى يتمكّنا من العيش بسعادة. وبعد أن أدرك أنه ما يزال يحبّها وعرف مدى ظلمه لها ونكرانه لجميلها، أصبح يملؤه الأسى والندم وهجَرَته راحة البال. وفي بعض الأحيان كانت زوجته السابقة تظهر له في أحلامه وهي جالسة وحدها في الغرفة الصغيرة من المنزل المتهالك الذي تركه وراءه وهي تخيط الملابس، بينما تكفكف دموعها بأكمامها الممزّقة.
وتغضب الزوجة الثانية عندما تعلم أن زواج الساموراي منها كان من أجل ثروتها وتلاحظ بحنق شوقه المستمرّ لزوجته السابقة. وذات يوم، تشعر بالملل وتجده نائما وتحاول تقبيله، لكنه يبعدها عنه، فتصفعه مستاءة من أنانيّته وتَذكّره المستمرّ لزوجته الأولى.
وتطالبه وصيفات الزوجة الثانية بالتصالح معها، لكنه يرفض ويؤكّد على نيّته العودة الى زوجته القديمة وإصلاح علاقته بها. وتمرّ سنوات أخرى قليلة قبل أن يتمكّن الساموراي من إعفاء نفسه من خدمته للحاكم المحلي.
ثم يقرّر أن عليه الآن أن يسرع للذهاب إلى كيوتو للبحث عن زوجته الأولى. وفي وقت متأخّر من الليل، يصل إلى حيث كان يعيش مع زوجته. كانت المدينة صامتة كالقبور، لكن القمر كان ساطعا ومشرقا، ما سهّل العثور على المنزل الذي بدا متهالكا ومهجورا، لدرجة أن العشب الطويل نبت في كلّ مكان ولم يوفّر حتى سطح البيت. وطرق الساموراي الباب، لكن لم يكن هناك أي ردّ، فدفع الباب لفتحه ودخل.
كانت الرياح الباردة تهبّ بقوّة وضوء القمر يسطع في الغرفة الأمامية من البيت، ولم يكن هناك أيّ علامة على وجود أيّ شخص بالداخل. لكن عندما اقترب الساموراي من الغرفة الخلفية التي كانت زوجته تستخدمها عادةً كغرفة معيشة، رأى ضوءا ينبعث من داخلها. ولمّا فتح الباب، رأى زوجته تجلس هناك وهي تخيط على ضوء شمعة. كانت ما تزال شابّة وجميلة، ولم تتغيّر كثيرا عن اليوم الذي تركها فيه.
ولما رأته، هبّت واقفة ورحبّت به وتصرّفت معه كما كانت تتصرّف في الماضي. وبدت متسامحة وغير مبالية بخيانته لها وهجره إيّاها. كان يعرف أن قلبها كبير كما في الماضي، بدليل أنها تجاهلت اعتذاره ووعدت بإصلاح الأمور. وذكرت له أن كيوتو تغيّرت وأنهما "لن يمضيا معاً سوى لحظة"، لكنها لم تشرح ما قصدته. ثم أكّدت له أنها تتفهّم سبب تركه لها وأنه إنما كان يسعى لجلب دخل إضافي للبيت.
ثم يتحدّثان عن حياتهما ويخبرها الساموراي عن حاله في سنوات غيابه، ويطلب منها المغفرة ويتعهّد لها بأن يعيشا معا طوال ما تبقّى لهما من عمر. ثم يقتربان من بعضهما البعض، وعندما تُريح وجهها على صدره، يداعب شعرها الطويل برفق ويلاحظ أنه نفس الشعر الأسود اللامع وأن رائحته لا تزال كما كانت من قبل.
ثم يرتّبان معا فراشهما في الغرفة التي ناما فيها معا أوّل مرّة بعد الزواج، وتقوم هي بتجهيز السرير وتغطيته بالكيمونو الأحمر. وبعد ذلك تنطفئ الأضواء ويبدو الساموراي وكأنه لا يزال منعّما بحظّه السعيد الحالم المتمثّل في اجتماع شمله مرّة أخرى بزوجته الطيّبة والوفيّة دون أن يضطرّ لبذل الكثير من الجهد.


وفي الصباح يستيقظ راضيا مبتسماً، لكنه سرعان ما يشعر بالصدمة والارتباك عندما يجد نفسه مستلقيا على أرضية خشبية مهترئة في خرابة مهجورة وموحشة تغطّيها الأعشاب الضارّة. وفي غمرة إحساسه بالحيرة والذهول، يتّجه نحو زوجته التي ترقد مغطّاة بالكيمونو الأحمر.
وبينما يسحب الكيمونو، يصاب بالصدمة عندما يدرك أنه كان نائما طوال الليل مع جثّة زوجته التي لم يبقَ منها سوى هيكلها العظمي وبقايا شعرها الطويل. كانت مجرّد جثّة امرأة ذات شعر أسود طويل ملفوفة في ثيابها.
وهنا يشعر الساموراي بالهلع ويركض عبر غرف وفناء المنزل المهجور على غير هدى ويحاول الاختباء خلف جدار. وفي هذه الأثناء، ينفصل الشعر الأسود الطويل عن الهيكل العظمي ويطارده للانتقام منه. كان يجري بسرعة بين الأعشاب الضارّة والمتضخّمة وجدران البيت المتشقّقة، يتبعه الشعر الأسود الذي يهاجمه بلا هوادة. ويبحث الرجل يائساً عن منفذ للهروب، لكن الشعر يطارده ويلتفّ عليه ويلقيه أرضا.
وعندما يبلغ الشارع المجاور وهو على تلك الحالة من الخوف والصدمة، ينظر داخل بركة ماء على الطريق ليجد أنه كبُر فجأة وشاب قبل الأوان وأصبحت ملامحه مخيفة. ثم يلتقي رجلا غريبا في الطريق ويسأله إن كان يعرف أحدا من ساكني ذلك البيت. فيجيب: لا يوجد أحد في هذا المنزل. كان في الأصل ملكا لساموراي وقد غادر المدينة قبل سنوات بعد أن طلّق زوجته من أجل أن يتزوّج أخرى. وبعد سفره، عانت زوجته كثيراً ومرضت. ولم يكن لها أقارب في كيوتو ليعتنوا بها. وتوفّيت في خريف ذلك العام الذي رحل فيه زوجها، في العاشر من سبتمبر".

❉ ❉ ❉

في قصص الأشباح في الشرق، وخاصّة في اليابان، هناك خصوصية ثقافية للشبح ذي الشعر الأسود، إذ يرمز الى انتشار الظلم الذي تتعرّض له النساء في البيئات الأبوية والمحافظة. وفي الشرق أيضا، يمثّل الشعر الطويل جمال المرأة وشرف كلّ من النساء والرجال، وأحيانا يحمل بعدا آخر هو الانتقام.
وغالبا ما يكون الدافع وراء الأشباح الأنثوية هو الغضب وسعي النساء للانتقام لموتهن غير المستحقّ وغير المبرّر. والمخرج كوباياشي في هذا الفيلم يكرّس تلك الصورة، بتناوله الطبيعة الانتقامية لروح الزوجة التي يتحوّل شعرها الأسود الطويل الذي أحبّه زوجها كثيرا إلى روح شيطانية تطارده وتلتفّ حول وجهه ورقبته وتدفعه إلى الجنون.
المخرج الياباني الآخر أكيرا كوروساوا له فيلم عنوانه "أحلام" من عام 1990، ويتكوّن من قصص لثمانية أحلام. في أحد تلك الأحلام، وعنوانه "النفَق"، يظهر قائد سريّة يابانية وهو يسير على طريق مهجور عند الغسق، في طريقه إلى منزله بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية. ويصل القائد إلى نفق كبير ومظلم ويعبره متبوعا بشبح أحد جنوده الذي توفّي بين ذراعيه متأثّرا بجراحه.
ويبدو الجندي القتيل وكأنه غير مصدّق أنه مات. ثم يشير إلى ضوء منبعث من منزل على سفح جبل قريب على أنه منزل والديه. ويشعر الجنديّ بالحزن الشديد لأنه يعلم أنه لا يستطيع رؤية أهله مرّة أخرى. لكن القائد يقنعه بأن يعود الى النفق ويتقبّل مصيره.
ثم يخرج من النفق مجموعة من الجند التابعين للقائد يقودهم ملازم شابّ. ويتوقّفون وهم يرفعون أسلحتهم لتحيّته بأعين زائغة ووجوه تعلوها زُرقة. ويحاول القائد أن يقنعهم أنهم ماتوا بعد أن قُتلوا جميعا في الحرب، معترفا أنه هو نفسه المسؤول عن إرسالهم إلى معركة عبثية، بينما يقفون هم صامتين. وينهار القائد حزنا وأسى على مصيرهم. ثم يأمرهم بالاستدارة والعودة الى النفق والرضا بقدَرهم، فيفعلون.
وفي الكثير من الأفلام اليابانية، عندما تظهر أشباح لأشخاص قُتلوا ظلما، فإنهم يكونون مليئين بالكراهية وروح الانتقام، لأن إرادتهم في الحياة سُحقت دون وجه حقّ وماتوا دون أن يختاروا ذلك المصير.

Credits
journals.kpu.ca