تخيّل انك تقف على شاطئ البحر وتنظر إلى المياه الزرقاء والأمواج العملاقة التي تتكسّر متحوّلة إلى رذاذ ورغوة وأمواج صغيرة على الشاطئ. صورة مثل هذه هي مزيج من الهدوء والعنف والأناقة والقوّة الهائلة.
مثل هذه الصور تتناسب تماما مع روح موسيقى المؤلّف الفرنسي كلود ديبوسي. وبالإمكان رؤيتها في نظرته إلى الطبيعة التي هي عنده غامضة وحالمة ومشعّة.
وإذا كان الفنّانون الانطباعيون يُسمّون بـ "رسّامي الضوء"، فإن موسيقيين مثل ديبوسي كانوا يرسمون لوحات تعبّر عن مشاعر تفوق الوصف في عقل ونفس السامع. ديبوسي، بكلماته هو، كان يعبّر عمّا لا يمكن التعبير عنه.
كان ديبوسي واحدا من أعظم الموسيقيين أصالة. وهناك من نقّاد الموسيقى من يصفونه بأنه رائد الموسيقى الانطباعية في العالم بلا منازع.
وقد ألّف مجموعة كبيرة من القطع الموسيقية للبيانو تعبّر عن نظرته للطبيعة وتثير في ذهن السامع مشاهد متتالية من المناظر والصور الحيّة.
موسيقى ديبوسي تتميّز بسحرها ونضارتها. وبعض قطعه تشبه في خفّتها وأثيريّتها رائحة عطر نادر وحميم. وقد كنت حتى وقت قريب أؤمن أن لا شيء في الموسيقى يمكن أن يكون أكثر فتنة وإثارة للراحة والسكينة من موسيقى شوبان كما تكشف عنها معزوفاته الشهيرة مثل المازوركات والنوكتيرنز والأبولونيز.
غير أن الاستماع إلى أعمال ديبوسي الكاملة للبيانو غيّر نظرتي لموسيقى البيانو جذريا.
دعونا أوّلا نلقي نظرة خاطفة على التاريخ. خلال أربعينات القرن التاسع عشر كان الروائيون منشغلين بتأليف حكايات ذات مضامين سيكولوجية، وذلك من خلال توظيف النظريات الجديدة في علم النفس والتي تتحدّث عن اللاوعي وعالم الأحلام.
وفي تلك الأثناء ظهر أسلوب تيّار الوعي الذي جسّدته كتابات عدد من الأدباء مثل إدغار آلان بو وأندريه جِيد ومارسيل بروست وستيفن مالارميه وبول فيرلين. كانت كتابات هؤلاء ثورة ضدّ الطبيعة، وبالتالي ضدّ الأفكار الرومانسية. والكثيرون منهم كانوا أصدقاء لـ ديبوسي. لذا لم يكن مستغربا أن تأتي موسيقاه متماهية مع المشاعر التي كان الفنّانون والشعراء يعبّرون عنها خلال الفترة التي شهدت ازدهار المدرستين الانطباعية والرمزية.
ومثل لوحات كلود مونيه، كانت موسيقى ديبوسي تحاول هي أيضا الإمساك بتأثيرات الضوء واللون والجوّ وبلورتها في لحظة معيّنة.
كان ديبوسي يحاول أن يعيد خلق الفروق الدقيقة في اللون من خلال ظلال أصواته، وهذا ما جعل موسيقاه متفرّدة وطليعية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بأسرها. يقول الناقد كميل موكلير: إن المناظر الطبيعية في لوحات مونيه هي في الحقيقة سيمفونيات من الأمواج المضيئة. وموسيقى ديبوسي تحمل شبها ملحوظا مع تلك الصور اعتمادا على القيم النسبية للأصوات التي تتحوّل في موسيقاه إلى بقع وألوان ذات رنين وإيقاع".
وبإمكان المرء أن يكتشف أن موسيقى ديبوسي بلا شكل وأنها تعكس صورا غير واضحة المعالم، تماما مثل اللوحات الانطباعية. لا غرابة إذن في أن أنغامه الجديدة والثورية كانت تمثّل بداية الانطباعية الحقيقية في الموسيقى.
أعمال ديبوسي للبيانو هي شعر حقيقي لدرجة أنني الآن توقفت فعليا عن سماع شوبان. الفتنة في موسيقى ديبوسي أثيرية. هذا ما يمكن قوله على اقلّ تقدير.
والآن لنتحوّل إلى بعض موسيقى ديبوسي. حاول أن تستمع أوّلا إلى أشهر معزوفاته بعنوان ضوء القمر. أغمض عينيك واسمح لهذا النغم أن يغرق ببطء في أعماق روحك. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، ربّما تتخيّل نهرا من الذكريات ينفتح أمامك، نزهة على طرف بحيرة في ضوء القمر، أو ليلة مرصّعة بالنجوم أثناء قضائك شهر العسل وأنت تمشي على شاطئ البحر ممسكا بذراع حبيبتك، أو قد تتخيّل فتاة تجلس على الأرجوحة وتحدّق في المياه الشفّافة التي يعكسها ضوء القمر.
"ضوء القمر" موسيقى متفرّدة وغامضة. لحنها المتسامي، نغماتها الملوّنة وجملها الديناميكية المثيرة قد تكون ترجمة ديبوسي الخاصّة لضوء القمر وهو يتسرّب عبر أوراق شجرة. الجُهُورية الطافية والإيقاعات القويّة تخلق جوّا لا يمكن وصفه. إنها تحفة فنّية في حدّ ذاتها.
والآن إلى قطعة أخرى هي الثلج المتراقص التي كتبها ديبوسي لطفلته الصغيرة إيما عندما كان عمرها ثلاث سنوات. هذه القطعة هي نوع من السحر المصفّى وهي كافية لأن تنقلنا لتعيدنا مرّة أخرى إلى زمن الطفولة. الأنغام هنا جميلة وفيها عفوية ومرح وانطلاق.
كان كلود ديبوسي يستمتع على ما يبدو بالمشاعر العميقة والرحبة. كما كان مأخوذا كثيرا بسحر القمر والنجوم وبأمجاد السماء الليلية.
الرسّامَان الانطباعيان الرائدان مونيه ورينوار بعض أجمل لوحاتهما تصوّر نساءً حالمات يتأمّلن الانعكاسات في الماء؛ في أعماق الماء، أو يحدّقن في السماء.
فكرة الانعكاسات مهمّة جدّا في الانطباعية. والانعكاس قد يكون أحيانا أكثر حقيقة من الواقع.
في لوحة القارب لـ رينوار، ومن خلال توظيف الأسلوب الانطباعي، نستطيع اكتشاف حالة من التأمّل الصامت. ولم يكن مصادفة أن إحدى أكثر مؤلفات ديبوسي شعبية هي مجموعته المسمّاة تأمّل صامت.
إحدى معزوفات هذه المجموعة اسمها الجزيرة السعيدة. عندما تستمع إلى هذه الموسيقى ذات التأثير المنوّم، ستكتشف القوة التذكّرية التي تثيرها موسيقى البيانو. التأمّل الصامت يتحرّك ببطء وبإيقاع متدرّج يثير في الذهن صورة مياه تتدفّق في نافورة. ومع استمرار الموسيقى تصبح أكثر شبها بالأمواج في حركتها. ثم تتحوّل ناعمة وهادئة بينما تتنقّل جيئة وذهابا قبل أن تخفّ وتتلاشى تدريجيا. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، تتجوّل بعيدا مع أحلامك الدافئة وتطلق لأفكارك العنان كي تتحرّك مثل الغيوم المتثاقلة في السماء.
والآن إلى إحدى معزوفات ديبوسي المبكّرة بعنوان ارابيسك. ستجد في هذه القطعة سحرا يهبط عليك من فوق مثل حِزَم من ضوء الشمس الناعم. أرابيسك قطعة خفيفة وحالمة وتشيع المرح والبهجة مع قدر كبير من الشفافية التي نحسّ بها عادة في أيّام الربيع المشمسة.
ديبوسي يشار إليه غالبا باعتباره موسيقيا انطباعيا. ومع ذلك فالكثير من أعماله المكتوبة للبيانو تثير مشاعر عفوية وطفولية أكثر ممّا توحي به صفة الانطباعية.
وبعض النقّاد يقولون إن أكثر أعماله تعبيرية هي الصور والبرليودات والايتودات. في هذه الأعمال أيضا عالم من الأحلام والرؤى والتخيّلات نصفه من الأضواء والنصف الآخر من الظلال.
الإتقان، الأناقة الحسّية، الشفافية، الرقّة وثراء الألوان النغمية. هذه هي السمات الرئيسية التي تميّز موسيقى ديبوسي عن غيره.
من وقت لآخر، حاول أن تسمع شيئا من موسيقى ديبوسي، فهي تغسل عن النفس آثار الكآبة والملل وتملأ ساعات النهار بالألوان الرائعة والصور المبهجة.
prezi.com
favorite-classical-composers.com