:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 12، 2010

عودة أمير الظلام

في الفنّ، هناك من الأشياء ما لا يقلّ إثارة عن إعادة اكتشاف رسّام كبير أو قديم. والأمر يشبه كثيرا العثور على مغلّف مملوء بشهادات الأسهم القديمة في بطانة الجزء الخلفي من أريكة جدّ العائلة. هذا الشيء لا يحدث كثيرا طبعا. لكنه يحدث على أيّ حال.
فيرمير كان غير معروف كليّاً طوال ثلاثة قرون قبل أن يعاد اكتشافه في منتصف القرن التاسع عشر. وكارافاجيو كان مجرّد اسم لا أكثر، إلى أن تمكّن مؤرّخ لامع يُدعى روبيرتو لونغي من إعادة اكتشافه في العام 1952م.
وأحدث مثال عن الاكتشاف المفاجئ لرسّام قديم يعود تاريخه إلى العام 1972، عندما أقيم في باريس معرض مخصّص لرسّام فرنسي كبير وغامض من القرن السابع عشر يُدعى جورج دي لا تور. وكان عالمان مثابران قد جمعا نماذج قليلة وثمينة من فنّه في باريس عام 1972م. كان جورج دي لا تور يرسم مشاهد الليل كما لم يرسمها فنّان آخر من قبل. شمعة تومض، وجه يضيء، شيء ما يحدث في الظلام، لكن ما هو؟ من الواضح أن لا تور كان تابعا من بعيد لـ كارافاجيو. لكن ألوانه أغرب ومزاجه أكثر رقّة.
ومنذ ذلك الاكتشاف الرائد ظهرت بعض الحقائق البسيطة عن الرسّام صاحب الاسم الغامض.
ولد جورج دي لا تور عام 1593 في بلدة صغيرة بمقاطعة اللورين خلال العصور الوسطى. لكنه انتقل عام 1620 إلى بلدة لونافيل التي أمضى فيها بقيّة سنوات حياته. وقد ظلّ هناك يرسم في عزلة حتّى وفاته في عام 1652م.
لكن لا أحد إلى اليوم يعرف تماما أين وكيف التقى كارافاجيو. إذ لم يكن هناك لوحات لـ كارافاجيو في لونافيل ولا في أيّ مكان قريب منها.
ومن المرجّح أن يكون دي لا تور قد تلقى دروسا في الرسم على يد احد أتباع كارافاجيو الهولنديين. ولكن لأن دي لا تور لم يكن على اتصال بالتيار الفنّي السائد آنذاك، فإن بعض النقّاد يذهبون إلى القول بأن هذا العامل بالذات هو ما جعل منه رسّاما خاصّا ومتفرّدا.
ومن الواضح انه استطاع بلورة أسلوبه الفنّي الذي لا تخطئه العين أثناء إقامته في لونافيل، عندما كان يحاول التغلّب على الكآبة بالانهماك في الرسم.
والواقع انك عندما تتذوّق دي لاتور، فإنك سرعان ما تتعرّف على نكهته الخاصّة. لوحاته المعروفة لا تتجاوز الأربعين. لذا فإن كلّ معرض لأعماله هو حدث قائم بذاته.
ملكة بريطانيا تملك إحدى لوحاته بعنوان "سينت جيروم يقرأ". وقد دخلت اللوحة المجموعة الملكية في العام 1660 عندما اشتراها تشارلز الثاني. واللوحة توفّر دليلا نادرا وغير عادي على ذكاء ملكة بريطانيا وذوقها الرفيع.
معظم اللوحات التي تصوّر سينت جيروم يظهر فيها واهنا وضعيفا وفي الثمانين من عمره . لكن هذه اللوحة تصوّره في الستّينات من عمره. وهو يبدو فيها أصلع وبأنف حمراء.
رسْم القدّيسين بمظهر إنساني كان احد المعايير الفنّية التي كانت سائدة في عصر الباروك. كما انه أحد أفضل الدروس المستمدّة من كارافاجيو. وهذه اللوحة لا تدع مجالا للشكّ بأنها لـ لا تور بألوانها وبأسلوب إضاءتها. جيروم معروف دائما برداء الكاردينالية الأحمر. لكن لم يحدث أبدا أن صُوّر لباسه بهذه الدرجة من التوهّج، كما لو انه مضاء من الداخل مثل فانوس صيني.
ضوء الشمعة يخترق الرسالة التي يقرؤها ويضفي عليها وهجا احمر. إنها لحظة ليلية مكثّفة. والمشهد ليس مجرّد وصف لحالة الضوء، بل استحضار لمزاج ليليّ مشحون بطريقة غريبة.
على الرغم من أن دي لا تور أصبح اليوم غامضا، إلا أن من الواضح أنه كان يحظى في زمانه بالكثير من الإعجاب، بدليل مرّات الاستنساخ الكثيرة التي أجريت للوحاته التي كُتب لها البقاء.
كان جورج دي لاتور رسّام البلاط في عهد الملك لويس الثالث عشر. وكان قد أمضى وقتا في كلّ من إيطاليا وهولندا، حيث كانت لوحات كارافاجيو تحظى هناك بالشعبية. وممّا لا شكّ فيه أنه رأى تلك اللوحات وتأثر بها. والشبه واضح كثيرا بين لوحات الاثنين. ومثل كارافاجيو، كانت كلّ لوحة من لوحات دي لا تور تتضمّن شخصية مركزية واحدة.
كان دي لا تور يرسم مصدر الضوء ضمن الإطار العام للوحة. والسطوع الشديد في اللوحة يصبح نقطة الارتكاز داخلها.
في لوحته المشهورة المسمّاة المجدلية التائبة، يرسم دي لا تور شمعة ينعكس وهجها على وجه المرأة الجالسة إلى طاولة. المرأة تجلس في الظلام تقريبا وتبدو كئيبة إلى حدّ ما، بينما تريح يدها اليمنى على جمجمة بشرية تستقرّ في حضنها.
إمالة المرأة لجسدها إلى الأمام قليلا يضفي على المنظر إحساسا بالحميمية. والفكرة التي تتناولها هذه اللوحة هي أن مريم المجدلية تخلّت طوعا عن حياة الترف والرفاهية وفرّغت نفسها للتأمّل في معنى الحياة ومصير الإنسان.
هذه اللوحة كانت خلال السنوات القليلة الماضية موضوعا لدراسات فنّية كثيرة ومستفيضة أجراها عدد من مؤرّخي الفنّ الأمريكيين والفرنسيين.
اليوم، هناك من يقول إن دي لا تور كان تلميذا لـ غويدو ريني، وأنه درس على يد الرسّام الايطالي أثناء إقامته في روما.
الغريب أن هناك شهادات من معاصري دي لا تور تصفه بأنه كان شخصا متغطرسا وسليط اللسان وبخيلا وعنيفا إلى درجة لا تطاق.
والأكثر غرابة أن هذه الأوصاف، عدا البخل، تناسب كارافاجيو تماما.
هذان الرسّامان كانا الأكثر تركيزا من بين جميع الرسّامين على تصوير المواضيع المقدّسة بكلّ بهائها وجمالها. غير أنهما مع ذلك كانا يتّسمان بالغلظة والدناءة.
كان كارافاجيو شخصا خسيساً كما يصفه بعض المؤرّخين. وربّما كان دي لا تور أكثر خسّة ووضاعة.
ومع ذلك أنتج الاثنان فنّا استثنائيا يتجاوز طبيعتهما الحقيقية.

هامش: لوحات دي لا تور


Credits
arthistory.net