:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أكتوبر 09، 2010

دراما منزلية

عُرف الرسّام الفرنسي إدوار فويار بمشاهده التي تحكي عن الحياة الخاصّة والحميمة داخل البيوت. عندما تنظر إلى بعض لوحاته، يمكنك أن تشعر كم أن الجدران فيها ضيّقة وخانقة وكيف أن الناظر يمكن أن يتحوّل دون وعي منه إلى متلصّص يتابع ما يجري داخل الغرف وخلف الأبواب الموصدة.
كان فويار جزءا من مجموعة فنّية تُدعى "نابي" وهي كلمة مشتقّة على الأرجح من مفردة "نبيّ" العربية. وبخلاف الانطباعيين الذين كانوا يركّزون على إظهار التأثيرات المتغيّرة للضوء والظلّ في الطبيعة خارج البيوت، كان فويار وزملاؤه يستخدمون الرسم لإيصال المشاعر والانفعالات داخل البيوت.
وقد رسم فويار لوحات يمكن أن توصف بأيّ شيء إلا أن تكون هادئة أو مريحة. كان يعيش في بيئة مُحبّة، ومع ذلك عمد إلى رسم أفراد عائلته بطريقة مزعجة.
ترى لماذا فعل ذلك؟ هل تشي تلك اللوحات بشيء من الكراهية في أوساط العائلة؟ هل كان تلاعبه بصورة شقيقته مزحة ثقيلة أو قاسية؟
هل تكشف هذه اللوحات عن شيء ما أعمق من قبيل إحساس الفنان بعدم الأمان؟
فويار رسم لوحات لا تخلو من التعقيد وروح الابتكار. وهو لم يكن فقط يرسم ما يراه أمامه، بل كان يخلق ما يرسمه. كان شخصا محبّا لعائلته، لكنه كان توّاقاً لخلق نوع من الدراما في مناظره المنزلية. وقد عُرف عنه تأثّره بقراءته لروايات ومسرحيات موريس ميترلنك وهنريك إبسن التي ادخل أجواءها في مواضيع لوحاته المنزلية.
كان المؤلّف المسرحيّ داخل فويار هو الذي يعمد إلى اخذ الخلافات البسيطة للعائلة إلى مستوى أعلى وأكثر قتامة. ولكي يفعل هذا كان يهيّئ الحلبة في لوحاته كي تجري عليها وقائع الدراما التي يتمثّلها. وعندما لا تكون هناك دراما فإنه يخترعها من خلال التلاعب بالأنماط والظلال على الجدران والملابس، تماما مثل ما يفعل مصمّم العروض على خشبة المسرح. فهو يضيء اللوحة بشكل دراماتيكي ويصنع بطلا للمسرحية ثم يصنع مقابله خصما، تبعا للكيفية التي يمثل بها كلّ منهما دوره.
والخلفيات التي يختارها الرسّام للوحاته تضفي إثارة وتوتّرا على المشهد. ومن المثير للاهتمام أن تفكّر في أن السبب الذي يدفع فويار لأن لا يرسم نفسه مع أمّه وشقيقته في اللوحة قد يكون محاولة إسقاط صورته هو من خلال شقيقته ميري.
لكن كيف يبدو الأمر عندما يقرّر فويار أن يرسم نفسه في إحدى لوحاته العائلية؟

Edouard Vuillard

اللوحة فوق اسمها "العشاء"، وهي إحدى اللوحات المثيرة وغير العاديّة التي توفّر اعترافا صريحا من فويار عن الطريقة التي كان ينظر بها إلى نفسه في سياق علاقته بعائلته.
ويمكن اعتبار هذه اللوحة محاولة من الرسّام لإثبات براعته في السيطرة على التأثيرات الدرامية التي تذكّر بمسرحية بيت روزمر لـ إبسن وبمسرحية الدخيل لـ ماترلينك. هذه التأثيرات ربّما تدفع المرء للاعتقاد بأن هذه هي فعلا المشاعر الحقيقية لفنّان مضطهد.
في هذا المشهد من بيت الرسّام تظهر ثلاث نساء يعترضن طريقه ويمنعنه من الوصول إلى مائدة العشاء. هنا تقف أمّه وجدّته وشقيقته بأجسادهنّ في طريقه. وجميع النساء الثلاث مختفيات في الظلمة بينما تبدو على ملامحهنّ تعبيرات شيطانية ومترصّدة.
نظرات فويار نفسه مرتعبة، وهو يبدو كما لو انه ينكمش في الخلفية من أثر إحساسه الشديد بالخوف.
في اللوحة تلميحات عن أفكار التضحية والإخصاء والشعور بالذنب. لكن فيها أيضا جانبا كوميديّا. فهذه اللوحة هي إحدى المحاولات الأولى الكبيرة لتصفية الحساب مع أفكار الأنوثة والأمومة والحياة العائلية.
كان فويار يميل لتصوير نفسه كضحيّة. وهذه اللوحة الكوميدية المروّعة يمكن اعتبارها إحدى تحف الرمزية السوداء.
لكن هل فويار هو الضحيّة في هذه اللوحة؟
الجواب هو لا. بل انه حتى لا يشارك في اللوحة. هو يلعب دورا هامشيا فحسب. وهذا يعطي مؤشّرا عن الحالة الحقيقية لعائلة الرسّام.
فـ فويار لم يكن يشارك في دعم العائلة ماليّا، بل كان يعتاش من عمل والدته.
فبعد وفاة والده خلت العائلة من وجود رجل. وبالرغم من موت والده وغياب أخيه الأكبر، لم يحاول فويار ممارسة أيّ سلطة ذكورية تاركا مهمّة تصريف أمور العائلة للنساء.
وهذا ما يفسّر حضوره الهامشي في العائلة كما تعكسه أجواء هذه اللوحة التي أراد من خلالها أن يعبّر عن قلقه ورعبه من حقيقة انه محاط بهؤلاء النساء القويّات والآمرات الناهيات.
أعمال فويار لا تقتصر على المناظر العائلية فحسب. فله لوحات يصوّر فيها الطبيعة بطريقة جميلة. وتستطيع وأنت تنظر إلى بعض هذه اللوحات أن تستمع إلى الأصوات الآتية من الشارع القريب لأطفال يلعبون وعربات تمضي وتجيء وأشخاص يتمشّون مع كلابهم وآخرين يجلسون أو يلعبون في الحدائق. "مترجم"