:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، مارس 09، 2025

ثورو والسكّان الأصليون


كان هنري ديفيد ثورو مهتمّاً طيلة حياته بالثقافات الأمريكية الأصلية. وشغفه الطويل بالهنود الحمر ما يزال موضوعا متكرّرا ومصدرا دائما للنقاش. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ وثقافة السكّان الأصليين، وكان يُنظر إليه من قبل العديد من معاصريه، مثل رالف إيمرسون وناثانيال هوثورن، على أنه "أشبه بالهنود من جيرانه البيض".
في شبابه، كان ثورو يمسح الأرض بعينيه بحثاً عن شظايا حجرية صغيرة خلّفتها الثقافات القديمة. وعندما زار جزيرة إنديانا، موطن أمّة البينوبسكوت الهندية، كتب الوصف التالي: أخذتنا العبّارة إلى الجزيرة. وعندما غادرنا الشاطئ، لاحظت هنديّاً قصير القامة رثّ المظهر يشبه عاملة غسل الملابس. وهذه الصورة كافية لوضع تاريخ الهنود أمام أعيننا".
وبدا أن ثورو كان مؤهّلاً لأن يفهم بشكل حدسي الصلة العالمية بين البشر. كان الهندي برأيه يمثل الحالة الطبيعية للإنسان. ولذا اختار أشخاصا من الهنود لمرافقته وإرشاده في رحلاته عبر الغابات، لأنه كان يريد أن يتعرّف على أفكارهم عن كثب. وفي كتابه "غابات مين"، أخبر ثورو قرّاءه أن كلمة "متوحّش" مشتقّة من كلمة لاتينية تعني "الغابات". ومن هنا نعرف سرّ انجذاب ثورو الدائم والطبيعي للغابات والحياة البرّية.
ومثل غيره من أبناء عصره، كان ثورو يعتقد أن ثقافة الأمريكيين الأصليين في انحدار. وقد خاب أمله فيما تبقّى من مجتمع البينوبسكوت الذي رآه في عام 1846 وكتب يقول: السياسة أصبحت الآن رائجة بين السكّان الأصليين، حتى أنني تصوّرت أن صفّاً من الأكواخ الخشبية، مع رقصة باو واو، وسجين يُعذّب على المحك، سيكون أكثر احتراماً من هذا". كان يرى أن شعب بينوبسكوت يفقدون تلك الصورة الرومانسية للرجل النبيل المتوحّش ويستبدلونها بالسياسة.
ثورو كان أيضاً مكتشفاً. وقد وجد "فكرة" الهنود مثيرة للاهتمام. يقول روبرت ساير في كتابه "ثورو والهنود الأميركيون": أدرك هنري ثورو أن الهنود هم أناس قضوا حياتهم في الطبيعة، وفيها طوّروا معرفتهم التي كانت متفوّقة على معرفة الرجل الأبيض". ونشأت "فكرته" الأوّليّة عنهم من مجموعة من الأسماء والنظريات المغلوطة التي جمعها مكتشفون آخرون قبله.
وقد أدرك في وقت لاحق من حياته، وبعد تجاربه في الغابات مع الهنود، أن الهنود أنفسهم كانوا متجذّرين في التقاليد ويرفضون التغيير. وربّما كان هذا أحد أسباب تناقصهم. ولا بدّ أن هذا قد أثار مشاعر مختلطة في نفسه. فمن أجل أن توجد البرّية الحقيقية في البشر، لا بدّ أن يكون البشر غير مروّضين، وأن يكونوا إلى جانب الطبيعة إن لم يكونوا جزءاً منها.
ويحلّل ساير الصور النمطية الرئيسية عن الهنود كما يلي: كانوا صيّادين منعزلين وليسوا مزارعين، ملتزمين بالتقاليد وغير قابلين للتحسين، أبرياء يشبهون الأطفال وقد أفسدتهم الحضارة، وثنيين خرافيين ومحكوما عليهم بالانقراض".


ويعلّق على ذلك بقوله: لكن الوحشية لم تكن وصفا دقيقا للواقع. فلم تكن تستند الى وصف سكّان أميركا الأصليين لأنفسهم، بل إلى الوصف الذي أعطاه لهم الغزاة والمبشّرون والرحّالة الأوربيّون".
ولم يكن ثورو، باعتباره مكتشفا في القرن التاسع عشر، مبرّأً من الموقف الوحشي. كان هذا الموقف هو الخلفية التي شكّلت موضوع الهنود في ذهنه وشكّلت التاريخ الذي بدأ منه بحثه عن "الهندي".
وبرأي ساير أن ثورو لم يتحرّك خارج حدود الرؤية المحدودة للوحشية الا بعد تأليفه كتابه "غابات مين" الذي يصفه ساير بانه أهم كتاب له، لأنه "مكتوب عن الهنود" بالفعل. ثم يروي ساير جانبا من مغامرة ثورو في ولاية مين عام 1853. في هذه الرحلة الاستكشافية، كان مرشد ثورو هو جو ايتون، وهو هندي اختير بعناية. وقد أصبح ايتون موضوعا لمراقبة ثورو ودراسته المكثّفة. ويشعر ساير أنه خلال تلك الرحلة، حقّق ثورو خطوات كبيرة تتجاوز الوحشية.
كانت رحلة لا تقدّر بثمن بالنسبة لتطوّر ثورو، لأنه في ذروة تلك الرحلة تمكّن أخيراً من التمييز بين خشونة الهنود والبيض". واختار أن يقضي الليل في معسكر ثلاثة من الهنود بدلاً من معسكر بعض الحطّابين البيض، وأمضى تلك الليالي في التحدّث مع الهنود تحت السماء وعلى العشب البارد. وبعد الرحلة "شعر ثورو بالراحة في صحبة الهنود وأدرك أهمية الحفاظ على البرّية التي يعتمد عليها الشعراء والهنود".
وبدا أنه كلّما زاد اتصال ثورو بمرشدي امّة بينوبسكوت، رأى فيهم بشرا وليس مجرّد "هنود". ولم يتزعزع شغفه بالأمريكيين الأصليين أبدا. وقد غيّرت رحلاته إلى غابات مين من تصوّراته لما يعنيه أن تكون أمريكيّا أصليّا في عالم سريع التغيّر.
ومن خلال اتصاله بأشخاص من شعب البينوبسكوت، اكتشف ثورو وجهة نظر جديدة وأكثر استنارة عن الأمريكيين الأصليين، وانتقل من افتراضاته الساذجة سابقا إلى فهم ينطوي على الاحترام والتبجيل.
وقد قارن البعض ثورو بالهنود وقالوا إن قدرته على المشي في الطبيعة بين الطيور والأشجار والتحدّث بلغة الحيوانات كانت خارقة. كان الهندي استعارة حيّة لثورو. ولعلّه كان يأمل أن يدفعه تماهيه الشخصي مع أسلوب الحياة "الهندي" إلى مواصلة بحثه عن المقدّس في الحياة. ويُقال إن الكلمات الأخيرة له وهو على فراش الموت كانت: "هندي"، و"موس" وهو نوع من الأيائل المرتبطة بحياة الهنود.
لكن البعض يلوم ثورو لأنه لم يفعل الكثير للاحتجاج على التهجير المنهجي للسكّان الأصليين. وقد هاجم البعض هذا التناقض متسائلين: كيف يمكن لثورو أن يُظهر احتراما عميقا لمعتقدات الهنود الحمر، وفي نفس الوقت يظلّ صامتا إلى حدّ كبير إزاء الإبادة الجماعية التي حدثت لهم طوال حياته.

Credits
thoreau-online.org
archive.vcu.edu