استوحى نيكولا بُوسان لوحاته عن أركاديا من الأدب الكلاسيكي. وأودع فيها صورا لجمال مثالي وخالد يظهر فيه الشخوص بهيئات نبيلة وبملامح تشبه شكل التماثيل القديمة.
وعندما تتأمّل صوره عن الطبيعة الرعوية، سرعان ما تكتشف سحرها وقوّتها التعبيرية الكبيرة والمزاج الشعري والحالم الذي تصوّره.
المقال التالي يلقي بعض الضوء على الرسّام وعلى بعض أعماله.
يُعزى الفضل لـ نيكولا بُوسان في إضفاء مسحة كلاسيكية على الرسم في فرنسا. ومن اجل تلك الغاية، ذهب إلى روما وأقام فيها سنوات طوالا. هناك، وضع رسم الباروك في قلب العالم القديم. لكنه اظهر الجانب المظلم من أركاديا عندما شكّك في التصوّرات القديمة عن بساطة الحياة الرعوية والريفية في اليونان القديمة. كان يرى العالم القديم عالما متخيّلا وكان ينظر إلى أركاديا كمكان ساذج أكثر من كونه مكانا مثاليا.
وكان منافسه في رسم الطبيعة آنذاك هو مواطنه كلود لورين الذي جعل ضوء الشمس نفسه فكرة كلاسيكية.
الطبيعة كانت وسيلة بُوسان المفضّلة للتعبير عن أفكاره وقناعاته. وقد كان يرسمها كي يؤكّد على إحساسه بالمكان. وتكثر في لوحاته مشاهد الرعاة والبحيرات والجبال والأشجار والأوراق التي تطوّحها الريح. وبعض شخوصه يصوّرهم بعضلات كثيرة، لكنهم يبدون كما لو أنهم يفتقرون إلى هياكل عظمية صلبة.
وفي لوحاته، كلّ عنصر له وظيفته. حتى الظلال لها شخصيّتها المستقلّة داخل البناء العام للوحة. كما أن كلّ شيء يبدو في حالة حركة. فالطبيعة عند الرسّام هي تعبير عن حركة الإنسان وعن عقله الواعي والنشط.
والغابات في بعض لوحاته تخلو من الطيور والحيوانات ما لم يكن لها دور تلعبه في حياة الإنسان.
والكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده حاولوا اقتباس بعض رؤاه الشاعرية عن الريف الايطالي وضمّنوها في أعمالهم.
بعض لوحات بُوسان تُظهر جبالا عظيمة يجلس فوقها أو حولها أشخاص يعزفون الناي ويُخيّل لمن يراهم أنهم هناك منذ آلاف السنين.
حتى الأشياء الساكنة والمملّة لها لغتها الخاصّة في لوحاته. الأفاعي لها ذكاء الإنسان. والأشجار تنمو وتمدّ أوراقها وأغصانها في الجوّ مسرورة بالمطر وفخورة بالشمس.
لوحته الطوفان يعتبرها بعض النقّاد أجمل لوحة في العالم تصوّر طبيعة تاريخية. فكلّ شيء في هذه اللوحة مرسوم في مكانه المحدّد بعناية وبطريقة متناغمة مع بقيّة العناصر.
وفي صور بُوسان سمة أخرى لا نراها في لوحات غيره، تتمثّل في هذه المزاوجة المتوتّرة والغريبة بين السماوات الزرقاء والعواصف، وبين الحبّ الحميم والموت العنيف. ومشاهده عن العواصف لا تصوّر فقط غضب الطبيعة بل يمكن اعتبارها تأمّلات فلسفية عن جوانب الحياة التي يصعب التنبّؤ بها.
النحّات الايطالي المشهور جيان لورنزو بيرنيني رأى بعض لوحات بُوسان وشبّه تأثيرها بأثر الخطبة العظيمة التي يستمع إليها المرء باهتمام ثم يبتعد عنها في صمت بينما لا يزال مستمتعا بصدى تأثيرها داخل نفسه.
استلهم بُوسان لوحاته عن الطبيعة الأركادية من أشعار أوفيد وفرجيل ومن رحلاته العديدة في ريف روما.
في ذلك الوقت كان كتاب التحوّلات لـ أوفيد احد أشهر الكتب وأكثرها رواجا في أوربّا. والكتاب يتضمّن قصصا عن حبّ الآلهة وعن تَحوّل عشّاقها من البشر إلى نباتات وحيوانات. وكثيرا ما تُفسّر نصوص أوفيد على أنها استعارات مجازية عن دورات الطبيعة.
وهذا النوع من القصص هو الأساس الشعري الذي أقام عليه بُوسان فنّه.
في بعض مناظره تبدو السماء مظلمة والموت متربّصا في كلّ مكان. الموت الذي يكتشفه الرعاة على شاهد قبر كما لو أنهم لم يسمعوا به من قبل. حتى الأساطير التي كان يقدّسها الرسّام تنتهي بالموت دائما.
لوحته المسمّاة "طبيعة ورجل قتلته أفعى" أصبحت موضوعا لكتاب ألّفه الناقد والمؤرّخ الفنّي تيموثي كلارك بعنوان "مشهد الموت" استعرض فيه جماليات اللوحة والاستعارات المضمّنة فيها.
ويقال إن بُوسان استوحى موضوع هذه اللوحة من مكان موبوء بالأفاعي والحيّات السامّة في منطقة بجنوب شرق روما. واللوحة عبارة عن دراسة عن الخوف الذي يثيره مرأى جثّة إنسان ميّت، كما أنها تصوّر، بمعنى ما، انتصار الطبيعة على الإنسان.
رسومات بُوسان عن الطبيعة تدلّ على قوّة ملاحظته. وقد كان يؤمن بأن البشر والطبيعة شيء واحد، لأن كلّ منظر طبيعي يحمل دلالة إنسانية.
كما عُرف بمقدرته الكبيرة على أن يخلق لكلّ لوحة جوّاً ومزاجا خاصّا. ولا بدّ وانه استفاد كثيرا من براعته في استخدام اللون والظل والشكل.
بعض لوحات بُوسان فاتنة وجميلة ومدهشة بما لا يوصف. ولا يبدو أن هناك من ينافسه في استخدام الضوء الذهبي في لوحته إلهام شاعر التي أرادها أن تكون تخليدا لذكرى شاعر راحل، ولا في رسمه الأخّاذ لإحدى الحوريّات وهي تعصر العنب من يدها لتتساقط قطراته في فم ملاك صغير أسفل منها.
صور الرسّام ومواضيعه مختارة بعناية. وهي تشبه نهرا من الأفكار الجميلة التي تمرّ عبر العقل وتستثير الفكر لمحاولة فهمها وحلّ رموزها.
في لوحته "طبيعة يشوبها هدوء" نرى منظرا آخر من أركاديا: ريف، مياه صافية، وأغنام ترعى. الظلّ يتحرّك من الأشجار باتجاه البحيرة المنعكسة على مائها الساكن صور المباني في الخلفية. حتّى في أركاديا يمرّ الوقت سريعا والنهار يتلوه ليل والليل يعقبه نهار. مزاج هذه اللوحة رائق وناعم مع أن فيها لمسة حزن خفيفة.
إن مناظر بُوسان هي نوع من الاحتفال بالحياة والحبّ والشعر. وهو كان يطلب من جمهوره دائما أن يقرأ اللوحة كما يقرأ القصيدة.
رآه أحد أصدقائه ذات يوم وهو يتجوّل على ضفاف نهر التيبر ويرسم المناظر الطبيعية التي كان يحبّها. ونظر إلى منديله فرآه مملوءا بالحجارة الصغيرة وبالأزهار التي كان يأخذها معه إلى البيت ليتأمّلها ويرسمها.
في لوحة أخرى، يرسم بُوسان زواج اورفيوس ويوريديسي. المكان بقعة أخرى من أركاديا. ملابس الأشخاص جميلة وزاهية. غير أن المبنى الظاهر في خلفية الصورة يبدو حديثا ومألوفا. وهو معلم من معالم روما كان قائما زمن الرسّام. والمبنى في اللوحة ينفث الدخان ويبدو كما لو انه يطير في الهواء. الفكرة هنا هي أن هذه المدينة خالدة. لكن حتّى الأشياء الخالدة نفسها لا تدوم إلى الأبد ومصيرها في النهاية إلى زوال.
في بداياته رسم بُوسان لوحات يظهر فيها الأشخاص في حالة من التوق والتطلّع وأحيانا التأمّل الصامت أو الحزين.
غير انه في أواخر حياته رسم مشاهد مظلمة يصعب فهمها أو تفسيرها. حتّى النقاد لم يستطيعوا فكّ شيفرتها مع أنها جميلة وتروق للعين.
لكنّ بعض المؤرّخين يقولون إنها انعكاس لإحساس الرسّام بكراهية الشرور التي كان يراها على الأرض. ورسائله في تلك المرحلة تمتلئ بالتعليقات المريرة والغاضبة وهو يرى الاضطرابات السياسية تعمّ أوربا ولا توفّر حتّى بلده فرنسا.
يقول في إحدى تلك الرسائل: لقد هجر الناس الفضيلة والضمير والدين. ولا وجود الآن سوى للخداع والرذيلة والمصالح الخاصّة. لقد ضاع كلّ شيء وفقدت الأمل في وجود الربّ. فالشرّ كامن في كلّ مكان وفي كلّ شيء".
كان بُوسان يرسم الأفكار. لذا يقال انه أكثر الرسّامين شاعرية. كما كان يؤمن بأفكار الفلسفة الرواقية التي تدعو إلى كبت الأهواء والانفعالات العاطفية وإخضاع الرغبات لحكم العقل. وقد عُرف عنه حبّه للعمارة خاصّة عندما تكون في حالة خرائب وأنقاض.
ولم يكن مستغربا أن يتأثّر به الرومانسيون وفي مقدّمتهم الشاعر الانجليزي جون كيتس الذي كان يعتبره رسّامه المفضّل.