صورة لمحترَف رسّام هي دعوة للدخول إلى عالمه الخاصّ لاكتشاف تصوّراته عن العملية الإبداعية وكيف أن الفنّ في أعمق تجلّياته يمكن أن يتجاوز حدود المكان واللحظة التاريخية.
لوحة "وصيفات الشرف" لـ دييغو فيلاسكيز (أو فيلاثكيث كما ينطق اسمه بالاسبانية) معروفة بحجمها الكبير وإتقانها الفنّي وبمئات التحليلات النقدية التي تناولتها. وهي لوحة رُسمت داخل استديو وتنافست أعداد لا تحصى من الرسّامين، بمن فيهم بيكاسو ودالي وغويا، في تمثّلها وتقليدها.
كما ناقش كتّاب كثيرون الأسرار البصرية المغرية التي تختزنها هذه اللوحة وتناولوا الأسلوب الطبيعي الشفّاف الذي رُسمت به بالرغم من غموض موضوعها.
في العقود الأخيرة من حكم امبراطورية هابسبيرغ في اسبانيا قدّمت "وصيفات الشرف" لمحة بليغة عن عالَم الملك الاسباني العجوز فيليب الرابع، حيث كان الفنّ والإيهام يحجبان، في الكثير من الأحيان وبطريقة مبهرة، حقائق الواقع السياسي الذي كان يزداد كآبة وبؤسا.
بالومينو، كاتب سيرة فيلاسكيز، حدّد شخصيّات هذه اللوحة الذين ينتمون كلّهم إلى البيت الملكي. في الوسط، تقف انفانتا مارغاريتا الجميلة التي تظهر براءتها المشعّة من خلال ضربات الفرشاة الشفّافة والمتألّقة، محاطة بوصيفتيها الحريصتين اللتين تقومان على خدمتها.
والى اليمين، تظهر امرأتان قزمتان يُفترض أنهما تقومان، حسب ما تفرضه تقاليد البلاط، بملاعبة الأميرة الصغيرة والتسرية عنها. إحداهما، إلى أقصى يمين اللوحة، تبدو وهي تداعب بقدمها الكلب الضخم الجالس أسفل منها.
وخلفهما مباشرة تظهر إحدى وصيفات الملكة وهي تتحدّث مع رجل مجهول. ووراءهما يقف حاجب الملكة ممسكا بستارة باب يتسرّب منه الضوء إلى داخل الغرفة.
والى اليسار، يقف الرسّام نفسه حاملا بيده اليمنى فرشاة مجمّدة في الهواء وبالأخرى رقعة الألوان. ومن الواضح انه ينظر باهتمام إلى الخارج، على الأرجح باتجاه فيليب الرابع وزوجته ماريانا، فيما تنعكس ملامحهما على المرآة اللامعة المثبّتة في الجدار الخلفي.
من هذه النقطة بالذات تبدأ مفارقات الرسّام.
الزوجان الملكيان لا يبدو أنهما حاضران فقط بشخصيهما أمام فيلاسكيز، لكنهما أيضا واقفان على هذا الطرف من اللوحة معنا، أي مع المشاهدين.
لوحة الرسم لا تُرى إلا من الخلف. ومع ذلك فحوافّها الخشنة المحاطة بخيوط من الطلاء السميك تشدّنا أكثر إلى داخل المتاهة البصرية التي نصبها الفنّان.
هناك احتمال انه يرسم بورتريها بالحجم الطبيعي لـ انفانتا. وربّما كان يرسم "وصيفات الشرف"، أي اللوحة نفسها، وهو غرور عبقري يمكن أن يجعل اللوحة الحقيقية مرآة مجازية لعملية خَلقِها. ويحتمل أكثر أنها تصوّر الملك والملكة اللذين يتّخذان وضعية رسمية تحت الستائر ذات اللون الوردي.
لكن، إذا كانا هناك في الاستديو، لماذا يقتصر حضورهما على مجرّد الإعلان عن وجودهما؟
النظرة الآسرة لـ انفانتا التي يميل رأسها، مثل وصيفة الملكة، إلى اليسار توحي بأنهما وصلا للتوّ.
هذا الإدراك يبدو أن له تأثير الموجة على رفيقاتها في أرجاء الغرفة.
وضعياتهنّ الرزينة تشي بمعرفتهن بوجود فيليب وماريانا، وهو ما تؤكّده أيضا نظرات الملك الثابتة والمحدّقة وطريقة وقوف الرسّام المدقّقة والمتفحّصة.
هذه اللوحة ليست مجرّد سرد غامض. بل يمكن اعتبارها مثالا رائعا للمزاوجة بين عنصري السلطة والفنّ في لوحة.
لقد جادل الخبراء كثيرا في أن "وصيفات الشرف" كانت جهدا متعمّدا من فيلاسكيز كي يحصل على "وسام النُبل". وهي رتبة طالما سعى إليها، وكان يتمتّع بها الشعراء والفلاسفة الأسبان. لكنها نادرا ما كانت تُمنح للفنّانين الذين كان يُنظر إليهم كحرفيين متواضعي المكانة والقيمة.
أقام فيلاسكيز منظره الغامض، ليس في محترفه الخاصّ والقريب، وإنما في القصر الملكي الذي شغله في الماضي الأمير بالتاسار كارلوس الذي كان قد مات قبل ذلك بعشر سنوات.
منذ أن زار الاسكندر الأكبر رسّامه "ابيلليس"، أصبح حضور ملك في ورشة رسّام علامة ثمينة تؤشّر إلى أن الرسّام بات يتبوّأ مكانة نبيلة وعالية.
في العام 1660 تحقّقت رغبة فيلاسكيز أخيرا.
فطبقا لما ذكره بالومينو، أمر فيليب برسم علامة الفروسية على السترة الرسمية للفنّان بعد وقت قصير من وفاته.
على الرغم من حجمها الهائل ومكانها البارز اليوم في غرفة طويلة ومزدحمة بمتحف برادو في مدريد، فإن "وصيفات الشرف" رُسمت في الأساس من اجل رجل واحد.
في البداية، عُلقت اللوحة في المكتب الخاصّ بالملك في شقّته الصيفية، كشهادة على انجازات فيلاسكيز وعلى رعاية الملك وتكريمه له.
في تلك الأثناء، كانت أوضاع اسبانيا في حال من التململ والارتباك، مع ازدياد احتمالات قرب انهيار الإمبراطورية الكولونيالية في آخر عهد فيليب الرابع.
كانت اسبانيا في بداية القرن السابع عشر اكبر قوّة في أوربا. وكانت إمبراطورية هابسبيرغ أقوى حتّى من روما القديمة.
لكن بحلول العام 1656، كان فيليب قد شهد تناقص عدد المستعمرات الاسبانية في أمريكا وأوربا وتآكل النظام الملكي وسقوط الشعب نفسه فريسة للشكّ والهزيمة.
وقد اختار الملك فيلاسكيز رسّاما للبلاط كي يعهد إليه بمهمّة حجب ذلك التراجع المقلق. ومن الملاحظ إن إنتاج الرسّام في تلك السنوات الأخيرة مرّ بحالة انكماش تحت ثقل إحساسه بتلك المهمّة العسيرة والشاقّة.
وقد عُرف عن فيليب تردّده في أن تُرسم له صور في تلك المرحلة الأخيرة من حياته التي أنهكتها الشيخوخة والملل من الحياة. وهو أمر يمكن أن يكون فيلاسكيز قد فطن إليه بذكاء.
في "وصيفات الشرف"، يشرِك فيلاسكيز راعيه العظيم في مرسمه ويقدّم له، ليس فقط الخلود، وإنما أيضا مكانا ودرسا أخلاقيا في التاريخ ملخّصه أن الواقع يمكن أن يكون هشّا ومراوغا ووهميا، تماما مثل اللوحة نفسها.
wsj.com