:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أبريل 11، 2012

رحيل رسّام الضوء

كان توماس كينكيد يمثّل ظاهرة فريدة في الفنّ الأمريكي. الرواج الكبير للوحاته في أوساط الناس العاديّين جعل منه اكبر رسّام تجاريّ في الولايات المتحدة. وقد بلغ من شعبيّة هذا الرسّام أن واحدا من بين كلّ عشرين منزلا في الولايات المتحدة يضمّ نسخة من إحدى لوحاته.
كان كينكيد مشهورا بمناظره التي تصوّر طبيعة مثالية تظهر فيها أكواخ حجرية، وحدائق وارفة الخضرة، ومنارات ترتفع فوق صخور عالية، وبيوت يتسلّل منها الضوء في برد الشتاء.
وعندما انتشر خبر وفاة كينكيد المفاجئة يوم الجمعة الماضي عن أربعة وخمسين عاما، تدفّق الناس بالآلاف على الغاليريهات والمعارض والمتاجر لشراء نسخ من لوحاته.
لكن برغم كل هذه الشعبية التي كان يحظى بها الفنّان في أوساط الجمهور، كانت المؤسّسة الفنّية تتجاهله والنقاّد يرفضونه ويعتبرونه رسّاما تقليديا وغير جدير بالدراسة. احد النقّاد تساءل ذات مرّة بسخرية واضحة ملمّحا إلى لوحات كينكيد: هل يمكن للشخص أن يصبح مريضا بالسكّر إذا نظر إلى لوحات تحتوي على كمّيات كبيرة من السكّر؟! المتاحف الكبيرة أيضا لم تكن تحرص على شراء لوحاته بحجّة أن فنّه يفتقر للابتكار وعلى أساس انه لم يحقّق شيئا جديدا للفنّ.
مناظر كينكيد المشبعة بألوان الباستيل تخلو من أيّ اثر للحزن أو التوتّر. ربّما كان هذا هو احد أسباب افتتان الناس بها. فهو ينقل الناظر إلى أماكن مثالية تشبه الجنّة. كما انه يثير في نفس من يرى هذه المناظر حلم العودة إلى هذه الأماكن برغم أنها قد لا توجد إلا في الخيال. ومن الواضح أنه يشيّد عوالمه الفانتازية من آثار الماضي ومن مفاهيم الأدب القديم والحكايات الخيالية.
الانتقادات الموجهة إلى كينكيد وفنّه كثيرة. بعض منتقديه، مثلا، يعيبون عليه مقاومته للتغيير، وتحويله الفنّ إلى سلعة، وخلوّ أعماله من أيّ لمحة ساخرة أو تأمّل ذاتي.
والبعض الآخر يذهب إلى أن لوحاته غضّة ووجدانية أكثر مما ينبغي، وأنها لا تكشف عن العالم بقدر ما أنها تحتفي بعوالم لا وجود لها على ارض الواقع. لذا فهي تصلح للنظر إليها والتأمّل فيها، وليس أكثر.
حنين الناس إلى الأمكنة القديمة والطبيعة النقيّة يمكن أن يفسّر سرّ جاذبية لوحات الرسّام والاستجابة العاطفية التي تحظى بها لدى العامّة.
علماء الاجتماع يعتبرون مشاعر الشوق والحنين استجابة لإحساس الإنسان بالغربة وانفصاله عن الجذور. وبعض علماء النفس يربطون هذه المشاعر بالرغبة غير الواعية للعودة إلى الرحم الأوّل. وصور كينكيد، بأضوائها الناعمة وطرقاتها المبلّلة بالمطر، من الواضح أنها تتحدّث إلى هذين الدافعين.

في البيوت التي يرسمها توماس كينكيد، لا نرى أشخاصا أو أشياءً في الداخل. فقط الضوء الذي يأتي من النوافذ، وأحيانا دخان المداخن الذي يرمز إلى الدفء الإنساني. وهناك احتمال أن الأشخاص الذين يهوون اقتناء هذه المناظر يتماهون مع أجوائها لا شعوريا ويتخيّلون أنهم هم من يسكن هذه البيوت ويتمتّعون بالدفء والحميمية اللذين تشيعهما.
لوحات كينكيد تكثر فيها الرموز والمعاني. فوجود النسر، مثلا، يرمز إلى الحرّية والانعتاق. والضوء يُفترض انه نور الله. كما أن بعض لوحاته تثير أفكارا وذكريات عن الأحبّة الذين رحلوا. المسيحيّون الذين ينظرون إلى لوحات الرسّام يمكن أن يروا فيها ايقونات دينية. وغير المسيحيين قد يرون فيها جانبا ما روحيا.
وهناك من النقّاد من يرى بأن كينكيد يصلح كحالة دراسية عن عالم الأعمال أكثر من عالم الفنّ، لأنه لم يكن قادرا على أن يضيف أيّ قيمة جمالية جديدة. كان كينكيد، بحسب هؤلاء، تاجرا استغلّ ميل الناس للهروب من قبح العالم وتوقهم لحياة أكثر أمانا وسعادة، ووفّر لهم منافذ تشبع حنينهم إلى ماضٍ متخيّل وتفتح على خزائن امبراطوريته المالية. وبعض خصومه عاب عليه ثقته المفرطة بالنفس عندما أطلق على شخصه لقب "رسّام الضوء".
كان توماس كينكيد يطمح لأن يرى أثناء حياته تقييما أكثر ايجابية لفنّه من قبل النقّاد. ولكنّه كان يشكّ في أن هذا سيحدث. النقّاد يفترضون أن على الفنّان أن يعاني الفقر والتشرّد. ومثال كينكيد هو على النقيض تماما، لأنه لا يجسّد الصورة الرومانسية عن الفنّان المكافح والجائع. فقد كان ناجحا في الترويج لفنّه. واستطاع طوال سنوات أن يراكم ثروة تقدّر بمئات ملايين الدولارات من بيع أعماله. "هناك من يقدّر قيمة مبيعاته السنوية من نسخ لوحاته بحوالي مائة مليون دولار".
لوحات كينكيد بسيطة ومباشرة، تريح الأعصاب وتثير الحنين. وهذه الخصائص ليست ممّا ألفه الناس في الكثير من الأعمال الفنّية التي تزدحم بها قاعات المتاحف والمعارض ويحتفي بها النقّاد عادة. لكن تاريخيا، هناك الكثير من الفنّ الذي اُنتج لغاية واحدة، هي أن يكون جميلا ومريحا ويمنح الناس البهجة والمتعة. وفنّ كينكيد هو بالتأكيد من هذه النوعية.
في السنوات الأخيرة، لم يكن توماس كينكيد سعيدا. ولم يستطع أن يهرب من العالم القبيح الذي كان يتجنّبه في لوحاته. فقد أفلست شركته على خلفية اتهامات شركائه له بالتزوير. كما انفصلت عنه زوجته التي كان ينقش الحرفين الأوّلين من اسمها واسمه على لوحاته. وجاء موته المفاجئ والغامض متناقضا مع العالم الخالي من الصراع الذي كان يرسمه في لوحاته.
توماس كينكيد يظلّ أيقونة ثقافية، على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عنه وعن فنّه. في الأيّام القليلة التي تلت وفاته، تقاطر المعجبون بفنّه على المتاجر والمعارض الفنّية وعلى موقعه الالكتروني للبحث عن لوحاته واقتنائها.