:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، نوفمبر 22، 2005

أساطير قديمة: عروس البحر

"في اليوم السابق، وعندما كان الأدميرال في طريقه إلى ريو ديل اورو، قال انه شاهد ثلاثا من حوريات البحر كنّ طافيات فوق ثبج الأمواج الهادرة، لكنهن لم يكنّ بالجمال الذي تصوّره الأساطير، لان ملامح وجوههن كانت تبدو كملامح الرجال. وقال انه سبق وان شاهد بعض هذه المخلوقات في غينيا وفي ساحل مانيغيتا".
- مقطع من مذكرات كريستوفر كولومبوس، 9 يناير 1493 م

اعتاد الإنسان ولقرون طويلة سماع العديد من القصص التي تروى عن عرائس البحار. وسيطرت صور هذه الكائنات الغريبة على مخيّلة الفنانين والكتاب والشعراء الذين حاولوا إعادة الحياة إلى هذا المخلوق الغامض والمحيّر.
وغالبا ما كانت صورة عروس البحر - التي تأخذ في الغالب جسد امرأة وذيل سمكة - مقترنة في الأذهان بالرّقة والجمال والشهوة .
والأمر المؤكّد هو أن الواسطة الأساسية التي راجت من خلالها صورة عروس البحر كانت القصص المحكية، وبعد ذلك مباشرة يأتي دور الأدب والفن، إذ مع تطوّر الحضارة كانت أسطورة عروس البحر نفسها تتطوّر وتأخذ أبعادا وتمظهرات أكثر تنوّعا.
ويشير بعض الكتاب إلى أن جمال عروس البحر الأخّاذ وصورتها الدائمة وهي تمشط شعرها، واستعصاءها على الرجال، كل ذلك أغرى بالمغامرة والذهاب إلى المجهول سعيا وراء الوصول إلى تلك الفاكهة المحرّمة!
ورغم ذلك فخلف هذه الصورة المغرية معنى مجازي للموت، فقد أغرى جمال عروس البحر أجيالا عديدة من المغامرين الذين قادتهم روح المغامرة من اجل اكتشاف سرّها الغريب إلى حتفهم، على نحو ما تصوّره عشرات القصص الأدبية المتخيلة عن هذه الأسطورة.
ويمكن العثور على عروس البحر في آداب جميع الأمم تقريبا، فالمعابد الهندية تحوي قطعا نحتية تصوّرها بأوضاع وصور شتى. وتقول الأساطير الهندية إن الإله فيشنو اتخذ شكل سمكة كي ينقذ مانو من الطوفان العظيم!
ويؤمن البحّارة بوجود مخلوقات مشابهة في بحر الصين وتروى في هذا المجال قصص عديدة.
ويعود تاريخ عروس البحر إلى الحضارات الإنسانية المبكّرة التي كانت تتخّذ إلهة لها على هيئة امرأة لها ذيل طويل يشبه ذيل سمكة.
وكان البحر دائما يلعب دورا مهما في معتقدات العالم، فهو يقوم بوظيفة الرحم الذي يكتنز بداخله الخلق والإبداع كما كان يعتبر مصدرا للحكمة خاصة بالنسبة للأمم والشعوب البحرية.
في الميثيولوجيا الإغريقية تصوّر عرائس البحر كائنات يأخذ كل منها جسد طير ورأس امرأة، وهي بنات البحر بمعنى ما، ولطالما فتنت البحّارة بأصواتهن العذبة ودفعتهم إلى الرسوّ بمراكبهم وسفنهم على الصخور التي كانت تغنّي الحوريات فوقها.
وحسب إحدى الأساطير اليونانية القديمة فإن عرائس البحر ألقين بأنفسهن إلى أعماق البحر وهلكن أسفا على هرب اوديسيوس وانتصار اورفيوس.
وفي العديد من الحكايات التي تروى عنهن فإن عرائس البحر يستطعن التنبؤ بالمستقبل، تحت الإكراه أحيانا، كما أنهن يمنحن البشر قوى خارقة. ويمكن أن تقع عروس البحر في حبّ إنسان ثم تغريه بالمشي في إثرها إلى أعماق البحر.
وإحدى أقدم الإشارات إلى لقاء عرائس البحر بالبشر وردت في ملحمة الاوديسا التي كتبها هوميروس حوالي العام 800 قبل الميلاد.
في الملحمة كان اوليسيس مضرب المثل في العزم والشجاعة، وقد قويت شوكته كثيرا بعد الأخطار العديدة التي واجهها وتغلب عليها بجسارة وبفضل نصائح الساحرة "سيرشي" التي تقوده إلى التعرّف على أسرار البحار ليقهر خصومه في مغامراته الكثيرة.
ميكيل أنجيلو رسّام عصر النهضة صوّر عروس البحر مثالا متطرّفا في الغواية واغراء البشر عندما رسم لها لوحة في سقف كنيسة سيستين.
في اللوحة التي اسماها "سقوط الإنسان والطرد من الجنة" يظهر كائن على هيئة عروس بحر جزؤها العلوي امرأة والسفلي حيّة أو سمكة تقوم بغواية آدم وحواء!
من المهم أن نلاحظ أن عرائس البحر طبقا للأسطورة هي مخلوقات مائية في المقام الأول، والماء له قيمة رمزية قوية. كما أن الماء ، والبحر استطرادا، يشتمل على ثنائية لافتة، فهو مصدر للحياة والوفرة والتجدّد كما انه المصدر الذي ولدنا منه.
لكن الماء بنفس الوقت يمكن أن يكون مصدرا للموت والفناء. وعروس البحر تجسّد كل هذه الصفات والمعاني المتقابلة مجتمعة، فهي إذن رمز للخلود والموت معا.
إنها تدعو الإنسان إلى المجهول والى أن يتغيّر وينتقل من فضاء إلى آخر، ومن حالة لأخرى. وهي تقوم بدور الدليل أثناء أوقات التحوّل والخطر وعدم اليقين.
عرائس البحر تدعو الإنسان بل تحثه لان يتخلى عن حاله الراهن ويصبح شيئا جديدا.
أما الخوف منها والذي نلمسه في الأساطير فهو خوف من الإخلال بالتوازن القائم وخوف من التعلم وفقدان الذات، وخوف من النزول إلى الأعماق "أي منطقة اللاوعي" حسب التفسير الفرويدي.