:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، فبراير 09، 2009

موسيقى التضاريس

شاهدت منذ أيّام على شاشة إحدى القنوات الأجنبية برنامجا تسجيليا. وفي الواقع لا أدري ما إذا كان هذا الوصف دقيقا أم لا.
لكن إجمالا، كان البرنامج أو الفيلم يعرض لقطات متتابعة وطويلة نسبيا لطبيعة ذات تضاريس متنوّعة، من صحارى شاسعة وجبال شاهقة وبحيرات وأنهار جليدية وخلافه.
كان واضحا أن تلك اللقطات من صنع مصوّر بارع وفنّان مبدع.
ولم يكن هناك تعليق أو كلام. فقط صور متتابعة يرافق كلا منها موسيقى تناسب المشهد وتخلق في نفس المشاهد انطباعا ما.
الأمر المثير للاهتمام أن الموسيقى التصويرية المستخدمة لم تكن تحتوي سوى على عدد قليل جدّا من الآلات الموسيقية. ومن ثمّ، كان يتخلّلها العديد من الفراغات والوقفات الصامتة. غير انه ذلك النوع من الصمت الذي تتشكّل ضمنه الرموز والمعاني والظلال. ذلك الصمت الذي "لا يقول شيئا ولا يترك شيئا لا يقال"، على حدّ تعبير الفيلسوف الصيني لاو تسو.
كان ثمّة صور لرياح وغيوم ومطر وأشجار وبحيرات وغابات. وأخرى لأراض جافّة ونباتات قاسية وصحارى جرداء ومتّسعة تشعر وأنت تراها أنها منسوجة من الزمن وأنه يلزمك عصورا بأكملها حتى تعبرها وتجتازها.

الموسيقى نفسها تعمّق هذا الإحساس وتضعك في قلب المشهد، وتوقظ فيك روح المشاركة والتوحّد مع عالم الطبيعة بل ومع الكون على إطلاقه.
وأنت ترى لقطة لنهر متجمّد أو بحيرة باردة، فإن الموسيقى تكثّف إحساسك بشاعرية المكان. فأنت تشعر بالبرد، تلمسه، وتتجوّل في أرجاء المكان كمن يباشر القيام برحلة روحية تزدحم بالتنبؤات والتأمّلات والرؤى.
وفي بعض الأحيان تنقلك الموسيقى إلى أفق خافت، لكنه واضح بما يكفي لكي يثير في نفسك شعورا باستباق الحدث أو استكناه طبيعة المشهد الذي سيأتي تالياً.
وهناك أيضا هذا الإحساس بتعاقب الفصول وصيرورة الزمن والتنوّع الايكولوجي، بما تتيحه هذه العناصر من إمكانات لنحت معان وصور وانفعالات جديدة ومتباينة.
منذ القدم كانت التضاريس وشكل الأرض عنصر إلهام للكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة.
وهناك من الموسيقيين الكلاسيكيين من ألّفوا سيمفونيات وأعمالا موسيقية تحاول نقل الإحساس بروح المكان وشخصيّته ومزاجه. ومن هؤلاء برامز وبيتهوفن مثلا.
كما يمكن أن نلمس شيئا من هذا في أعمال بعض الموسيقيين المعاصرين مثل فانغيليس اليوناني وجان ميشيل جار الفرنسي وكيتارو الياباني وجون باري الأمريكي.
وأغلب الظن أن احد المصادر المهمّة في شيوع مثل هذا النوع من الموسيقى ورواجه هو الفلسفات والأديان الشرقية القديمة التي تحتفي بالطبيعة وتركّز على العلاقة ما بين الإنسان والكون، على اعتبار أن ذلك من شانه أن يعزّز شعور الإنسان بالسلام الداخلي ويقوّي الأواصر الروحية ما بين الإنسان وغيره من العناصر والكائنات.