هناك بعض الرسّامين ممّن يتمنّى المرء لو رآهم وعرفهم عن قرب. وهؤلاء عندما تتأمّل رسوماتهم، تحسّ أن فيها فكرا وعمقا وفنّا وسعة خيال.
والأمر يشبه ذلك الشعور الذي يساورك عند انتهائك من قراءة كتاب شيّق ومفيد بأنك ترغب في الحديث مع مؤلّفه لبضع دقائق، كي تعبّر له عن شكرك وامتنانك على أفكاره الممتعة والمفيدة، ثمّ لكي تسأله عن بعض التفاصيل التي استوقفتك في كتابه أو تلك التي استشكل عليك فهمها.
وشخصيّا هناك أكثر من رسّام ممّن يثيرون اهتمامي وتستوقفني أعمالهم كثيرا، ويأتي في طليعة هؤلاء الرسّام الهولنديّ الجميل بيتر بريغل الأب.
وبداية، هناك ملاحظة جانبية، وهي أن لا مشكلة في أن يُكتب اسمه بريغل أو برويغل، فكلا النطقين صحيح بحسب من أرّخوا لسيرة حياته.
لكن لماذا بريغل فنّان خاصّ ومختلف ومثير للاهتمام؟
هناك عديد من الأسباب، بعضها شكلانيّ والبعض الآخر جوهريّ. فبريغل، أوّلا، كان احد أشهر شخصيّات عصر النهضة الشمالية. وفنّه يذكّرنا بالحداثة وبالتأثير والقيمة العالمية للفنّ.
ثم انه كان فنّانا مبتكِرا، وهذا واضح من طريقة تصويره لحياة الفلاحين بطريقة هزلية وساخرة أحيانا، لكنها تشي بوعيه وإدراكه للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره.
في زمن بريغل، أي في القرن السادس عشر، كانت هولندا أو الأراضي المنخفضة واقعة تحت الاحتلال الاسباني. ويبدو أن الرسّام رأى في حياة الفلاحين المتّسمة بالصخب والشدّة والعزيمة نوعا من الوعد بالحرّية والانعتاق.
وبريغل أيضا كان معروفا عنه مهارته في الرسم بالزيت وتعامله مع الألوان وأيضا مهارته في التوليف.
لكن ما هو أهمّ من هذا كلّه انه كان بارعا كثيرا في رسم التفاصيل. يكفي أن تتمعّن في تفاصيل بعض لوحاته كي يتشكّل لديك تصوّر عام عن طبيعة الحياة في قرى وبلدات الشمال الأوربيّ في منتصف القرن السادس عشر.
وقد يكون احد الأسباب المهمّة في افتتان الكثيرين ببريغل وانجذابهم لأعماله، بحسب احد النقّاد، هو روحه الكوميدية الساخرة، بالإضافة إلى حقيقة أن لوحاته لا تتحدّث إلى عصرنا أو تتنبّأ بما قد يحدث لاحقا، بل في كونها متجذّرة عميقا في سياقيها الزمانيّ والمكانيّ.
في لوحاته، هناك دائما شعور ما بالارتياح، فالحياة مستمرّة بوتيرة مطمئنة ودون مبالاة بالدراما العظيمة للتاريخ، وكلّ شيء يتحرّك بعيدا عن الكارثة. وهذا ما يبدو انه يقوله لنا.
كما أن كلّ لوحاته مليئة بالنشاط الإنسانيّ. لكن كثيرا ما نرى فيها شخصيّات تبذل جهدا مؤذيا وعبثيا وضارّا، سواءً كان لأنفسهم أو للآخرين.
وبريغل يركّز في رسوماته على غباء البشر وميلهم لارتكاب الشرّ وعلى ضعفهم أمام الخطيئة. وهو يرسم بعضهم بعيون جاحظة ونظرات بلهاء، علامة الغباء والحماقة. لكن بعض رسوماته تتضمّن معاني خفيّة وغامضة.
ومن الملاحظ أنه يميل إلى تفضيل ألوان محدّدة على أخرى. فهو، مثلا، يفضّل استخدام الأزرق مع الأحمر القرمزيّ. وفي أيّامه كان الأزرق يرمز للخداع والغباء، والأحمر للخطيئة وقلّة الاحترام.
لوحته فوق اسمها "زفاف فلاحين"، وفي فراغها يكدّس أكثر من أربعين شخصا. وكلّ هؤلاء تقريبا جلوس في غرفة مفردة، ومعظمهم حول مائدة واحدة يتناولون معا طعام العشاء.
ومع ذلك، ورغم هذا العدد الكبير من الأشخاص، إلا أن الفنّان يحفظ لكلّ شخص قيمته وتميّزه عن الباقين من خلال طريقته في استخدام الألوان والأشكال.
والأمر يشبه ذلك الشعور الذي يساورك عند انتهائك من قراءة كتاب شيّق ومفيد بأنك ترغب في الحديث مع مؤلّفه لبضع دقائق، كي تعبّر له عن شكرك وامتنانك على أفكاره الممتعة والمفيدة، ثمّ لكي تسأله عن بعض التفاصيل التي استوقفتك في كتابه أو تلك التي استشكل عليك فهمها.
وشخصيّا هناك أكثر من رسّام ممّن يثيرون اهتمامي وتستوقفني أعمالهم كثيرا، ويأتي في طليعة هؤلاء الرسّام الهولنديّ الجميل بيتر بريغل الأب.
وبداية، هناك ملاحظة جانبية، وهي أن لا مشكلة في أن يُكتب اسمه بريغل أو برويغل، فكلا النطقين صحيح بحسب من أرّخوا لسيرة حياته.
لكن لماذا بريغل فنّان خاصّ ومختلف ومثير للاهتمام؟
هناك عديد من الأسباب، بعضها شكلانيّ والبعض الآخر جوهريّ. فبريغل، أوّلا، كان احد أشهر شخصيّات عصر النهضة الشمالية. وفنّه يذكّرنا بالحداثة وبالتأثير والقيمة العالمية للفنّ.
ثم انه كان فنّانا مبتكِرا، وهذا واضح من طريقة تصويره لحياة الفلاحين بطريقة هزلية وساخرة أحيانا، لكنها تشي بوعيه وإدراكه للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره.
في زمن بريغل، أي في القرن السادس عشر، كانت هولندا أو الأراضي المنخفضة واقعة تحت الاحتلال الاسباني. ويبدو أن الرسّام رأى في حياة الفلاحين المتّسمة بالصخب والشدّة والعزيمة نوعا من الوعد بالحرّية والانعتاق.
وبريغل أيضا كان معروفا عنه مهارته في الرسم بالزيت وتعامله مع الألوان وأيضا مهارته في التوليف.
لكن ما هو أهمّ من هذا كلّه انه كان بارعا كثيرا في رسم التفاصيل. يكفي أن تتمعّن في تفاصيل بعض لوحاته كي يتشكّل لديك تصوّر عام عن طبيعة الحياة في قرى وبلدات الشمال الأوربيّ في منتصف القرن السادس عشر.
وقد يكون احد الأسباب المهمّة في افتتان الكثيرين ببريغل وانجذابهم لأعماله، بحسب احد النقّاد، هو روحه الكوميدية الساخرة، بالإضافة إلى حقيقة أن لوحاته لا تتحدّث إلى عصرنا أو تتنبّأ بما قد يحدث لاحقا، بل في كونها متجذّرة عميقا في سياقيها الزمانيّ والمكانيّ.
في لوحاته، هناك دائما شعور ما بالارتياح، فالحياة مستمرّة بوتيرة مطمئنة ودون مبالاة بالدراما العظيمة للتاريخ، وكلّ شيء يتحرّك بعيدا عن الكارثة. وهذا ما يبدو انه يقوله لنا.
كما أن كلّ لوحاته مليئة بالنشاط الإنسانيّ. لكن كثيرا ما نرى فيها شخصيّات تبذل جهدا مؤذيا وعبثيا وضارّا، سواءً كان لأنفسهم أو للآخرين.
وبريغل يركّز في رسوماته على غباء البشر وميلهم لارتكاب الشرّ وعلى ضعفهم أمام الخطيئة. وهو يرسم بعضهم بعيون جاحظة ونظرات بلهاء، علامة الغباء والحماقة. لكن بعض رسوماته تتضمّن معاني خفيّة وغامضة.
ومن الملاحظ أنه يميل إلى تفضيل ألوان محدّدة على أخرى. فهو، مثلا، يفضّل استخدام الأزرق مع الأحمر القرمزيّ. وفي أيّامه كان الأزرق يرمز للخداع والغباء، والأحمر للخطيئة وقلّة الاحترام.
لوحته فوق اسمها "زفاف فلاحين"، وفي فراغها يكدّس أكثر من أربعين شخصا. وكلّ هؤلاء تقريبا جلوس في غرفة مفردة، ومعظمهم حول مائدة واحدة يتناولون معا طعام العشاء.
ومع ذلك، ورغم هذا العدد الكبير من الأشخاص، إلا أن الفنّان يحفظ لكلّ شخص قيمته وتميّزه عن الباقين من خلال طريقته في استخدام الألوان والأشكال.
وفي نفس هذه اللوحة لا ينسى بريغل أن يرسم عروسه وسط ذلك الحشد. ويقال انه، هو أيضا، موجود ضمن المدعوّين، لكن من الصعب التعرّف عليه أو تمييزه. والغريب أن كتّابا كثيرين تنافسوا في محاولة تحديد شخصيّته في اللوحة، مرشّحين لذلك عدّة أشخاص.
تَخَصُّص ومهارة بيتر بريغل الأب في رسم هذا النوع من اللوحات قد يكون هو ما دفع الناس لأن يطلقوا عليه لقب "بريغل الفلاح"، رغم انه كان في الواقع واحدا من حلقة المثقّفين الانسانويين في مدينة انتويرب. في ذلك الوقت كان الأفراد ذوو النزعة الإنسانية يهتمّون بالأفكار الدينية أكثر من الدنيوية.
ومن الواضح أن أسلوب بريغل كان يروق للذوق المدنيّ، أي ذوق سكّان الحواضر في تلك الفترة، بسبب طريقة مزجه بين الواقعية والدراما السردية وبين الحقيقة والإيهام.
وأعماله تخلو عادة من مشاهد العنف أو الدماء. حتى في لوحته مذبحة الأبرياء والتي تصوّر تلك الحادثة التاريخية التي تفنّن الرسّامون منذ القدم في تصوير دمويّتها وعنفها، لن ترى في لوحة بريغل هذه نقطة دم واحدة، فقط جنود وكلاب وخيول ونساء وأطفال، لدرجة انك قد تظنّ أن اللوحة إنما تصوّر مشهدا لنهب قرية.
ومعظم لوحات بريغل التي رسمها للطبيعة كان يتّبع فيها تقليد مواطنه الرسّام هيرونيموس بوش. ولهذا السبب لا تخلو أيّ من لوحاته من دلالة دينية ما.
مثلا لوحته صيّادون في الثلج لها معنى دينيّ مؤدّاه أن الإنسان لا حول ولا قوّة له وهو دائما ما يكون تحت رحمة الطبيعة والعناصر. وبناءً عليه، لا شيء يمكنه أن يجلب لحياة الإنسان راحة أو معنى سوى الإيمان بالله. يجدر بالذكر أن المخرج الروسيّ اندريه تاركوفيسكي وظّف هذه اللوحة في فيلمه بعنوان "سولاريس".
ولد بيتر بريغل الأب عام 1525 لعائلة ظهر منها على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر أربعة أجيال من الرسّامين. وأشهر هؤلاء هما ابناه بيتر و يان اللذان حملا تراث أبيهما من بعده.
ويقال أنه عند وفاته في العام 1569، أمر زوجته بأن تُحرق عددا من رسوماته التي قدّر أنها ناقدة ومستفزّة أكثر مما ينبغي، كي يحمي عائلته من الاضطهاد السياسيّ والدينيّ.
أبناء بريغل الأب وتلاميذه الكثر اخذوا ماركته أو علامته الخاصّة في الرسم وجعلوها سمة للرسم الهولنديّ في ما بعد.
في لوحة "الراعي الرديء" لابنه بيتر بريغل، نرى فلاحا شابّا وهو يتخلّى عن قطيعه من الأغنام للذئاب كي ينفذ بجلده. لكنّه يهرب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. ربّما كان الراعي رديئا، لكنه آثر السلامة ونجح أخيرا في النجاة بنفسه. هذا هو الدرس الطريف الذي تقدّمه اللوحة.
المعروف أن بريغل الأب أتى إلى الرسم وهو في سنّ متأخّرة. وقد توفّي وهو شابّ نسبيّا، أي في سنّ الرابعة والأربعين. ولذا فإن لوحاته قليلة ونادرة جدّا ومن الصعب اقتراضها حتى من قبل مؤسّسات ومتاحف الفنّ العريقة.
لكن إن أردت أن ترى نماذج من أعماله، فما عليك إلا أن تزور موقع متحف فيينا الوطنيّ الذي يضمّ اكبر عدد من لوحاته التي بقيت حتى اليوم، وذلك بفضل رعاية أسرة هابسبيرغ الملكية للرسّام واهتمامها بأعماله. وأيضا هناك متحف الناشيونال غاليري في لندن الذي يضمّ لوحتين من أهمّ أعماله، الأولى تقديس الملوك والثانية منظر طبيعي في الرحلة إلى مصر .
موضوع ذو صلة: الطريق إلى كالفاري
تَخَصُّص ومهارة بيتر بريغل الأب في رسم هذا النوع من اللوحات قد يكون هو ما دفع الناس لأن يطلقوا عليه لقب "بريغل الفلاح"، رغم انه كان في الواقع واحدا من حلقة المثقّفين الانسانويين في مدينة انتويرب. في ذلك الوقت كان الأفراد ذوو النزعة الإنسانية يهتمّون بالأفكار الدينية أكثر من الدنيوية.
ومن الواضح أن أسلوب بريغل كان يروق للذوق المدنيّ، أي ذوق سكّان الحواضر في تلك الفترة، بسبب طريقة مزجه بين الواقعية والدراما السردية وبين الحقيقة والإيهام.
وأعماله تخلو عادة من مشاهد العنف أو الدماء. حتى في لوحته مذبحة الأبرياء والتي تصوّر تلك الحادثة التاريخية التي تفنّن الرسّامون منذ القدم في تصوير دمويّتها وعنفها، لن ترى في لوحة بريغل هذه نقطة دم واحدة، فقط جنود وكلاب وخيول ونساء وأطفال، لدرجة انك قد تظنّ أن اللوحة إنما تصوّر مشهدا لنهب قرية.
ومعظم لوحات بريغل التي رسمها للطبيعة كان يتّبع فيها تقليد مواطنه الرسّام هيرونيموس بوش. ولهذا السبب لا تخلو أيّ من لوحاته من دلالة دينية ما.
مثلا لوحته صيّادون في الثلج لها معنى دينيّ مؤدّاه أن الإنسان لا حول ولا قوّة له وهو دائما ما يكون تحت رحمة الطبيعة والعناصر. وبناءً عليه، لا شيء يمكنه أن يجلب لحياة الإنسان راحة أو معنى سوى الإيمان بالله. يجدر بالذكر أن المخرج الروسيّ اندريه تاركوفيسكي وظّف هذه اللوحة في فيلمه بعنوان "سولاريس".
ولد بيتر بريغل الأب عام 1525 لعائلة ظهر منها على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر أربعة أجيال من الرسّامين. وأشهر هؤلاء هما ابناه بيتر و يان اللذان حملا تراث أبيهما من بعده.
ويقال أنه عند وفاته في العام 1569، أمر زوجته بأن تُحرق عددا من رسوماته التي قدّر أنها ناقدة ومستفزّة أكثر مما ينبغي، كي يحمي عائلته من الاضطهاد السياسيّ والدينيّ.
أبناء بريغل الأب وتلاميذه الكثر اخذوا ماركته أو علامته الخاصّة في الرسم وجعلوها سمة للرسم الهولنديّ في ما بعد.
في لوحة "الراعي الرديء" لابنه بيتر بريغل، نرى فلاحا شابّا وهو يتخلّى عن قطيعه من الأغنام للذئاب كي ينفذ بجلده. لكنّه يهرب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. ربّما كان الراعي رديئا، لكنه آثر السلامة ونجح أخيرا في النجاة بنفسه. هذا هو الدرس الطريف الذي تقدّمه اللوحة.
المعروف أن بريغل الأب أتى إلى الرسم وهو في سنّ متأخّرة. وقد توفّي وهو شابّ نسبيّا، أي في سنّ الرابعة والأربعين. ولذا فإن لوحاته قليلة ونادرة جدّا ومن الصعب اقتراضها حتى من قبل مؤسّسات ومتاحف الفنّ العريقة.
لكن إن أردت أن ترى نماذج من أعماله، فما عليك إلا أن تزور موقع متحف فيينا الوطنيّ الذي يضمّ اكبر عدد من لوحاته التي بقيت حتى اليوم، وذلك بفضل رعاية أسرة هابسبيرغ الملكية للرسّام واهتمامها بأعماله. وأيضا هناك متحف الناشيونال غاليري في لندن الذي يضمّ لوحتين من أهمّ أعماله، الأولى تقديس الملوك والثانية منظر طبيعي في الرحلة إلى مصر .